Schopenhauer (1) عصره
سادت في أوروبا روح التشاؤم في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وتملك النفوس يأس قاتل، وارتفعت بذلك أصوات الشعراء والفلاسفة في كل ناحية من نواحي القارة الأوروبية: «بيرون» في إنجلترا، و«دي موسيه» في فرنسا، «وهيني وشوبنهور» في ألمانيا.
ولقد يقف المرء أمام هذه الظاهرة العجيبة وقفة لا تطول كثيرا، حتى يجد أسبابها في طبيعة ذلك العصر وظروفه التاريخية، فقد انفجرت الثورة في فرنسا، ودوت أرجاء أوروبا دويا اهتزت من هوله عروش، وكان لصوتها صدى في كل الصدور، وأثر عميق في كل النفوس، فمن أشراف ناقمين ساخطين، إلى زراع يهللون لها ويكبرون، ثم كانت واقعة واترلو، فخفت ذلك الصوت الداوي، وعزل نابليون على صخرة سنت هيلانه الصامتة الموحشة في عرض المحيط، وعاد «البوربون» إلى ملكهم في فرنسا، وعاد في ذيلهم أشراف الإقطاع يطالبون بأملاكهم، وانتشرت في أوروبا حركة رجعية تعمل على طمس معالم الثورة.
كم من ملايين الشباب فاضت أرواحهم، وكم من عامر الأرض بات خرابا بلقعا، فكنت لا ترى على وجه أوروبا إلا آثارا خربة، وأنقاضا هنا وهناك؛ ذلك لأن الجيوش النابليونية الجرارة من ناحية ، وأعداءها من ناحية أخرى، أخذت تروح وتجيء على وجه أوروبا أكثر من عشرين سنة قضت فيها على الأخضر واليابس، وخلفت القرى والمدائن ينتابها فقر مدقع وبؤس شامل.
شوبنهور.
ماتت الثورة الفرنسية، وكأنما انتزعت معها روح الحياة من أوروبا؛ لأن قلوب الشباب الطامح في كل بقعة من بقاعها كانت قد صغت إلى الجمهورية الناشئة، وعاشت في ظلال الأمل الوارفة حيث أملت في مستقبل ذهبي زاهر، فما هي إلا أن وقعت الواقعة في واترلو حتى تحطمت كل هذه الآمال، وتبدلت مأساة سنت هيلانه ومؤتمر فينا، فدبت في النفوس روح اليأس وسدت في أعين الناس سبل الحياة، وأثر ذلك في النزعة الدينية أثرين مختلفين: أما الطبقة الفقيرة الجاهلة فقد التجأت إلى الدين تجد في كنفه السلوى والعزاء، وأما الطبقة المفكرة فطغت على قلوبهم موجة إلحادية، ولم تعد عقولهم تسيغ أن يكون ثمة مدبر أعلى لهذا الكون.
فأما فريق العقيدة والدين فقد اقتنع بأن هذه النكبات ليست إلا إذلالا للنفوس جزاء وفاقا بما نزعت إليه من الاعتداد بحكم العقل، ونبذ العقائد وراء الظهر، وأما فريق الإلحاد فقد ارتأى أن اضطراب أوروبا ينهض دليلا قويا على فوضى الحياة وعبثها، وعلى رأس هؤلاء «بيرون وهيني وشوبنهور». (2) الرجل
ولد «أرثر شوبنهور» في دانزج في الثاني والعشرين من فبراير سنة 1788م، وكان أبوه تاجرا امتاز بالكفاءة واستقلال الشخصية، كما عرف بحدة الطبع وحب الحرية، حتى إنه غادر بلدته دانزج حين سلبت حريتها بضم بولندا لها سنة 1793م، فارتحل إلى هامبورج، وكان ابنه «أرثر» عندئذ في الخامسة من عمره، وأنت ترى من ذلك كيف شب «شوبنهور» اليافع في جو مشبع بروح العمل، وكسب المال، والنزوع إلى الحرية. ومع أنه سرعان ما هجر حياة التجارة التي أقحمه فيها أبوه إقحاما، فقد كانت قد طبعته بميسمها الذي يمتاز به رجال الأعمال من برود في الطبع، ونزوع إلى الحقائق الملموسة الواقعة، وميل إلى تعرف الناس والعالم. ولعله مما يدل على شذوذ أفراد أسرة «شوبنهور» أن أباه قد مات منتحرا سنة 1805م، وأن جدته لأبيه توفيت بعد أن أصابها الجنون.
هذا ما ورثه «شوبنهور» عن أبيه: خلق وإرادة، وأما أمه فقد أورثته ذكاءها المرهف الذي اشتهرت به شهرة واسعة، فلقد كانت من أنبغ من نبغ في عصرها من كتاب القصة. وكان نبوغها هذا في عالم الأدب مما نغض عليها الحياة مع زوجها الذي لم يكن لديه من تذوق الأدب ما يلائم بينه وبينها، فما كاد هذا الزوج الذي يتنافر طبعه وطبعها حتى اندفعت إلى حياة الحب المتحرر من قيود الزوجية، وقد ارتحلت إلى «فيمار»؛ لأنها أنسب بلد في ذلك الحين لتلك الحياة التي نزعت إليها، فلم يقع سلوك الأم من ابنها موقعا حسنا، وساءت العلاقة بينهما سوءا انتهى إلى خصومة متصلة ونزاع لا ينتهي، ولعل هذه العلاقة السيئة بينه وبين أمه هي التي أوحت له بذلك المقت الشديد الذي يصبه على المرأة، ويصور لنا هذا الخطاب من الأم إلى ابنها سوء ما كان بينهما من صلة: «إنك عبء ثقيل لا يحتمل، وإن الحياة معك لعسيرة شديدة العسر، فلقد أطفأ غرورك كل صفاتك الحميدة حتى أصبحت، ولا رجاء فيك يرجوه العالم، وذلك لعجزك عن ضبط رغبتك القوية في تسقط هفوات الناس.» فلما تعذرت الصلة بينهما على هذا النحو، اتفقا على أن يعيشا منفصلين، حتى إنه لم يكن «شوبنهور» يغشى دار أمه إلا كما يغشاها سائر الأضياف والزائرين، وكانا يعامل أحدهما الآخر حينئذ في كثير من الأدب والتكلف كما يفعل المضيف مع زائره الغريب، ولكن حتى هذه الصلة الواهنة لم تلبث أن انقطعت أسبابها، وذلك أن «جوته»، وقد أحب الأم، قد أنبأها يوما أن ابنها لا بد بالغ أوج الشهرة وذروة المجد، وكانت الأم ترى أن الأيام طوال التاريخ لم تسمح بنابغتين في أسرة واحدة، فأدركت من فورها أن نبوغ ابنها معناه انتقاص في نبوغها، فضاقت بهذا الابن ذرعا ولم تعد تطيق أن ترى ذلك المنافس القوي، فما هي إلا أن اشتجرت معه في إحدى زياراته في معركة حادة عنيفة، ثم دفعته على درج السلم فانحدر هاويا بضع درجات، ثم وقف وصعد بصره إليها قائلا في غضب وحدة: إنها مع ذلك كله لن تعرفها الأجيال المقبلة إلا بأنها أم «شوبنهور». ولم يلبث فيلسوفنا بعد تلك الوقعة أن غادر «فيمار» ولقد لبثت أمه بعدئذ على قيد الحياة أربعة وعشرين عاما لم يرها خلالها قط، وإنه لمما يستحق الذكر في هذا الصدد أن «بيرون» الشاعر الإنجليزي قد ولد في نفس العام الذي ولد فيه «شوبنهور» (1788م)، وأنه لاقى من أمه نفس العنت الذي أصاب «شوبنهور» من أمه ، وأنه انتهى آخر الأمر إلى ما انتهى إليه فيلسوفنا من تشاؤم، ولا غرابة؛ فمن لم يعرف حب الأم وحنانها، كلا بل من لقي من أمه الكره والإساءة، لحقيق أن يقلب النظر في وجوه الأرض، فلا يجد فيها ما يغري بالتعلق بأسباب العالم.
وهكذا وجد فيلسوفنا من دنياه غدرا فتحداها، وتلونت حياته وفلسفته بالكآبة والتشاؤم والشك، فكان في حياته لا يتوقع أن يصيبه من الناس إلا السوء والشر، ولذا عاهد نفسه ألا يترك بابا واحدا في داره إلا أغلقه وأحكم إغلاقه، ولم يرض لنفسه مرة أن يسلم عنقه للحلاق، وكيف يفعل والحلاق لا يني ممسكا بموساه؟ ولم ينم ليلة إلا بعد أن استوثق من حشو غدارته التي كان يضعها تحت وسادته!
نامعلوم صفحہ