ويجب أن يحذر القارئ من أن يفهم أن الذات التي يقصدها «فخته» ذات زيد أو عمرو من الناس، إنما يريد بها الذات الكلية الخالصة، أعني القدر المشترك بين الجميع، إذ هو عنصر واحد متشابه في جميع الأفراد.
لقد ذكرنا في العملية الثالثة - عملية التأليف - (1) أن الذات تحدد اللاذات، (2) وأن اللاذات تحدد الذات ... ونضيف الآن أن من تأثير اللاذات في الذات تنتج الطبيعة كلها كما نصورها لأنفسنا، كما ينشأ من رد فعل الذات على اللاذات كل القوى العقلية والنظم الأخلاقية التي للإنسان - وتشمل هذه الأخيرة النظم العائلية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية - ومعنى ذلك بعبارة أخرى أن الذات باعتبارها محددة باللاذات فهي نظرية، ثم هي عملية باعتبارها محددة للاذات، وبذلك يتكون لدينا شطرا علم المعرفة: النظري، والعملي، وهما القسمان اللذان تنقسم إليهما فلسفة «فخته». (1) علم المعرفة النظري
يلقي «فخته» في القسم النظري من فلسفته هذا السؤال: ماذا نعني بقولنا إن الذات تقرر نفسها بتحديد اللاذات لها؟ إنه لا ينبغي لنا أن نتصور أن الأمر يقف عند حد تحديد اللاذات للذات، وإلا كانت الذات قابلة منفعلة باللاذات ، ونكون بذلك قد أخذنا بالرأي القائل: إن الذات تحصل على كل ما بها من صور بفعل الأشياء الخارجية، وهي قابلة فقط لا حول لها ولا قوة، فذلك هو زعم المذهب الواقعي الباطل الذي يفسر تجارب العقل كلها بأنها نتيجة لتأثير الأشياء (اللاذات)، وهذا المذهب ينتهي إلى نتيجة خطيرة هي أن «الشيء» الخارجي وحده هو الذي يتمتع بالوجود والفاعلية، ولا فاعلية للذات ولا وجود . كما أنه ينبغي من جهة أخرى ألا نتوهم أن الذات حين تقرر نفسها تفعل ذلك على أنها هي الحقيقة كلها، وأن كل ما بها من صور وآثار لم ينشأ إلا من خلق الذات نفسها، وأنه ليس إلا أعراضا تولدت منها كأحلام النائم، فذلك هو المذهب المثالي الذي لا يقل خطلا عن المذهب الواقعي، وكلاهما لا يفسر إدراك الإنسان ... ولذا يتقدم «فخته» محاولا أن يوفق بين هذين الطرفين المتباعدين، وأن يدمجهما في رأي واحد، فيقول إنه لا الذات وحدها هي أصل اللاذات ومصدره، ولا اللاذات (الأشياء) وحدها هي التي تعمل وتؤثر في الذات القابلة، بل إن الجانبين ليتقابلان في وحدة عليا، ومن هنا كان «فخته» كثيرا ما يسمي فلسفته بالفلسفة «الواقعية المثالية».
يقول «فخته» إن للذات ضربين من الفاعلية: الأولى هي الفاعلية اللانهائية للذات التي تريد أن تنطلق في اللانهاية، والثانية فاعلية أخرى وظيفتها أن تقف سدا حاجزا يحد من الذات اللانهائية فلا يدعها تنطلق كما تبغي، فإذا ما اصطدمت الذات اللانهائية عند انطلاقها بذلك الحاجز وثبت راجعة إلى نفسها، ورجوع فاعلية الذات إليها مرة ثانية يجعلها تشعر بوجود حد يحول دون لا نهائيتها، ولو لم يكن ذلك الحاجز لما وجدت الذات شيئا تمارس فيه فاعليتها، وسترى أن هذا الرأي عند «فخته» هو أساس الحياة الأخلاقية، إذ لو لم يكن هناك مجهود من الإنسان وموانع حائلة في الخارج، أعني إذا لم يكن ثمة ما نقاومه ونغالبه، ثم نقهره آخر الأمر ونتغلب عليه، لما كان في مستطاع الذات أن تقرر وجودها.
إذن فالذات تخلق لنفسها فاعلية أخرى تعارضها (ويسمي «فخته» هذه الفاعلية المقاومة بالخيال المنتج) وهي تفعل ذلك؛ لأنها لا تتمكن من تقرير نفسها إلا بوجود الموانع والعراقيل التي تعترض سيرها فتبذل فيها مجهودها، وعلى ذلك تكون فاعلية الذات مركبة من عنصرين متضادين: طارد وجاذب، فالطارد يحاول ما استطاع أن يسبح في اللانهاية، والجاذب يسعى جهده في الاتجاه نحو الذات والعودة إليها، وعودة الذات بعد خروجها هي التي توهمنا أن ذلك الحاجز الحائل (لاحظ دائما أن هذا الحاجز معناه الأشياء الخارجية أي الطبيعة) له وجود حقيقي مع أنه في الواقع ما هو إلا خلق خيالنا المنتج. نعم ليست الأشياء إلا صورا وخلجات أنشأتها الذات إنشاء لكي تقرر بها نفسها بما تجد فيها من منع وحيلولة ... وهنا يبدأ «فخته» في شرح وظائف العقل النظري، فيبين المراحل التي ترتفع بها الذات من مرتبة اللاشعور وعدم التحديد إلى مرتبة إدراك الأشياء إدراكا شعوريا محددا، ثم إلى الشعور الكامل بنفسها، وكل هذه المراحل إنما تنشأ نتيجة لتجديد اللاذات للذات، ولنذكر مرة أخرى أن كل هذه العملية تتم في الداخل، وليس هناك خارج الذات من شيء. «والخيال المنتج» الذي يقدم لنا صورة الأشياء التي يخيل إلينا أنها موجودة في الخارج، فكل مرة تنطلق فيها فاعلية الذات، وتصطدم بحاجز الخيال المنتج وتعود إلى نفسها ثانية، نقول إن كل دفعة من هذه العملية المزدوجة تحدث فينا طائفة من الصور الذهنية، ولكن تلك الصور الذهنية تكون في أول الأمر أدنى درجات الإدراك، وهي اللاشعور، وهي مرتبة لا يزيد فيها الإدراك عن مجرد الإحساس أو الوعي الذي لا تمييز فيه، ثم ينتقل إلى المرتبة الثانية، وهي مرحلة الإدراك الحسي التي تفرق فيها الذات بين نفسها وبين الشيء الذي تشعر به وتحسه، أعني أن الإحساس المبهم يتحول إلى معرفة بشيء معين له مكان وزمان معروفان، ثم بعد ذلك يتحول هذا الإدراك الحسي نفسه إلى فكرة معينة في العقل، وبعدئذ تأتي المرحلة الأخيرة، مرحلة التأمل المجرد، حيث يتجرد الإنسان من الأشياء جميعا ويصل إلى شعور كامل بذاته.
وبذلك ينتهي «علم المعرفة النظري» بعد أن بين لنا المراحل التي يجتازها الإدراك في تكوينه، وهي مراحل جاءت - كما قلنا - نتيجة ضرورية لتحديد الذات باللاذات ... وهنا ينشأ لدينا سؤال آخر: لماذا تحرص الذات على ضبط فاعليتها؟ لماذا ترفض أن تترك نفسها تنطلق إلى اللانهاية فتنشئ لنفسها من نفسها حاجزا يصدها ولا يحدها، ولا يمكن فاعليتها من الإفلات؟ والجواب على هذا السؤال هو الشطر الثاني من فلسفة «فخته». (2) علم المعرفة العملي
فقد رأينا في علم المعرفة النظري أن وجود الأشياء كلها، بل وجود الفكر نفسه، متوقف على تقييد فاعلية الذات، فبهذا القيد وحده تم كل ما لدينا من إدراك ومعرفة، ولو كانت فاعلية الذات اللانهائية حرة مطلقة من كل تحديد لما كان هنالك فكر ولا عالم موضوعي على الإطلاق. ولكن نعود فنسأل: لماذا أقامت الذات لنفسها ذلك السد الحاجز الذي يعارض فاعليتها الذاهبة إلى الخارج؟ قد تجيب بأن الذات إنما هيأت لنفسها ما يقيدها لكي تصل إلى الوعي والإدراك؛ إذ بغير تلك المقاومة لا يكون إدراك ولا تكون طبيعة، ولكن لماذا يجب أن يكون ثمة إدراك وطبيعة؟ ما الذي أوجب هذا السد الحاجز الذي يحد من فاعلية الذات اللانهائية؟
يقول «فخته» إن ما أوجب ضرورة الإدراك وضرورة وجود العالم هو شيء واحد، وهو أن يؤدي الإنسان واجبه! فقد خلقت ذراتنا، أو قل عقولنا الواعية لكي تكون آخر الأمر إرادة عاملة ... إن الذات تخلق العالم لا من أجل العالم في ذاته، ولكن لكي تستطيع أن تحقق نفسها وتقرر وجودها بانتصارها على هذا العالم، وإذن فسبب وجودنا هو أن نبذل مجهودنا حتى نحقق أنفسنا، وحتى نتمكن آخر الأمر من التغلب على قيود اللاذات أي العالم الموضوعي، عالم الأشياء والحوادث. فليس العالم إلا ميدانا خلق لكي تقوم فيه الذات بواجبها المفروض، إنه لم يوجد إلا لكي نستطيع أن نؤثر فيه ونتغلب عليه، فسبيل تقرير الذات هي إرادتها، وأما هدفها الذي نقصد إليه فهو الحرية التي تظفر بها بفوزها على ما وضعته أمام نفسها من قيود ... فلو سأل الآن سائل: ما هي «الأشياء في ذواتها» التي فرض وجودها «كانت»؟ أجبناه: إنها ليست «أشياء في ذواتها»، ولكنها أشياء لنا ومن أجلنا.
يقول «فخته» إن الذات لا تشعر بوجودها إلا بمقدار ما هي قوة مجاهدة تغالب قيود العالم، أو بعبارة أخرى إلا بمقدار ما هي «إرادة»، وإذن فرسالة الإنسان هي هذه: «حقق نفسك وحقق الغرض من وجودك.»
وبديهي ألا تكون نغمته فلسفة للطبيعة ؛ لأنه لا يعترف بوجود شيء موضوعي وجودا حقيقيا، فالطبيعة عنده هي تلك اللاذات التي لم تنشأ إلا لكي تتغلب عليها الذات، ومعنى ذلك أنه لا يرى الأشياء أغراضا في ذاتها، ولكنها وسائل فقط تمكن الإنسان من تحقيق الغاية الأخلاقية من وجوده، وهنا ينتقل «فخته» إلى تطبيق مبادئ «علم المعرفة» على شئون الحياة العملية، وبخاصة فيما يتصل بنظرية «الحقوق والواجبات».
نامعلوم صفحہ