وقضى «سبينوزا» نحبه سنة 1677م ولم يتجاوز الرابعة والأربعين، بعد أن أضناه مرض السل الذي ورثه عن أبويه، ولم يكن فيلسوفنا يخشى الموت الذي كان يحس به يدنو إليه بخطوات سراع، وإنما كان يخشى أن يضيع كتابه «الأخلاق» الذي لم يجرؤ على نشره بنفسه، وكان هذا الكتاب يقع من نفسه موقعا حسنا؛ لأنه بلغ الذروة، فوضعه في قمطر صغير مقفل، وأعطى مفتاح القمطر إلى صاحب الدار، راجيا له أن يسلمه بعد موته إلى صديق له هو
Jan Reiuwertz ، وكان ناشرا في أمستردام، ليقوم بنشر الكتاب.
وفي يوم الأحد العشرين من فبراير، ذهبت الأسرة التي كان يساكنها سبينوزا إلى الكنيسة لأداء صلاتهم، ولم يبق معه في الدار إلا صديقه الطبيب مير
Meyer ، فلما عاد رب الدار وأسرته من الكنيسة ألفوا الرجل ملقى بين ذراعي صديقه جثة هامدة، فوقع نبأ موته من أكثر الناس موقعا أليما، فقد أحبته العامة الساذجة لوداعته ، وأجله العلماء لحكمته، وسار الناس من كل طبقة وراء نعشه يشيعونه إلى مقره الأخير. (2) كتبه وفلسفته (1)
رسالته في الدين والدولة:
قد تكون هذه الرسالة أقل كتب الفيلسوف لذة لنا اليوم، ولعل أول ما دعا إلى التصغير من قيمتها أن سبينوزا قد قتل فيها موضوعه بحثا، وأوضحه إيضاحا لم يعد بعده قول لقائل، والكاتب الذي هذا شأنه لا بد أن تنحدر آراؤه إلى أوساط المثقفين، فتصبح في اعتبارهم أدنى إلى الابتذال؛ لأنها فقدت كل ما يدعو إلى مواصلة البحث والتفكير من غموض وخفاء، ولقد أصيبت كتب فولتير بما أصيبت به رسالة سبينوزا في الدين والدولة لإسرافهما في التدليل والتوضيح.
وأساس هذا الكتاب هو أن لغة الإنجيل قد جاءت وكلها مجازات واستعارات، وهذا التزويق البياني متعمد فيه، أولا بسبب النزعة الشرقية إلى الأدب الرفيع، وميله إلى تزويق اللفظ، وثانيا لأن الأنبياء والقديسين لا بد لكي يحملوا الناس على اعتناق مذاهبهم أن يثيروا الخيال، ولذا تراهم يبذلون وسعهم لطبع أنفسهم وكتبهم بطابع الشعب الذي يعيشون فيه «فقد كتب كل كتاب منزل لشعب بعينه أولا، وللجنس البشري كله ثانيا، فيجب إذن أن يلائم ما فيه عقلية الشعب ما وجد السبيل إلى ذلك.» إن الكتب المنزلة لا تفسر الأشياء بأسبابها، ولكنها ترويها بأسلوب يؤثر في نفوس الناس وخاصة جمهورهم، لكي تحملهم على التفاني في العقيدة «فليس موضوع الكتاب المنزل إقناع العقل، بل جذب الخيال والسيطرة عليه.» ولهذا يكثر فيه ذكر المعجزات «يظن الدهماء أن قوة الله وسلطانه لا يتجليان في وضوح إلا بالحوادث الخارقة التي تناقض الفكرة التي كونوها عن الطبيعة ... إنهم يحسبون أن الله يكون معطلا ما دامت الطبيعة تعمل في نظامها المعهود، وعكس ذلك صحيح أيضا، أي أن قوة الطبيعة والأسباب الطبيعية هي التي تتعطل ما دام الله فعالا، وهكذا هم يتخيلون قوتين منفصلة إحداهما عن الأخرى: قوة الله، وقوة الطبيعة.» (وهنا نلمس أساس فلسفة «سبينوزا» وهو أن الله وسير الطبيعة شيء واحد)، ويميل الإنسان إلى العقيدة بأن الله يحطم النظام الطبيعي للحوادث من أجلهم، فنرى اليهود يعللون إطالة النهار، وتأخير غروب الشمس بأنها معجزة تثبت أنهم شعب الله المختار، ولو قال موسى لقومه: إن البحر الأحمر قد انحسرت مياهه بسبب الرياح الشرقية لما كان لقوله أثر في نفوسهم، ولعل منزلة الأنبياء والقديسين التي يمتازون بها عن الفلاسفة والعلماء ترجع إلى حد كبير إلى أسلوبهم البياني الساحر الذي ينطقون به مدفوعين بما تكنه صدورهم من حماسة لمذهبهم.
يقول سبينوزا إنه لو فسر الناس الإنجيل على هذا الأساس لما وجدوا فيه شيئا يناقض العقل، أما إذا تمسكوا بحرفيته فهم لا شك مصادفون كثيرا من الأخطاء والمتناقضات، أما التفسير الفلسفي فيكشف فيه وراء أستار البيان والشعر، فكرا عميقا.
ويعتبر «سبينوزا» اليهودية والمسيحية دينا واحدا، فلا فرق بين هذه وتلك على شرط أن يستل الكره من صدور الدهماء، وأن يستخرج التفسير الفلسفي لب العقيدتين المتنافستين «كم أدهشني أن أرى قوما يفاخرون بتعاليم الديانة المسيحية - وأعني بها الحب والسعادة والسلام والعدل والإحسان إلى الناس جميعا - يقاتل بعضهم بعضا وفي نفوسهم كل هذا الغل ... حتى أصبح الكره - دون ما يعلمون من فضائل - هو المقياس الصحيح لعقيدتهم.» ويعتقد «سبينوزا» أن اليهود لم يحتفظوا ببقائهم إلا بسبب اضطهاد المسيحية لهم، إذ أكسبتهم عزلتهم تماسكا وعملا على استمرار وجودهم، ولو لم ينبذ المسيحيون اليهود لخالط هؤلاء شعوب أوربا وانمحوا فيها، وليس ثمة ما يبرر التنافر والتناكر بين المسيحيين واليهود إلا التعصب الذميم. ويرى «سبينوزا» أن أول سبيل لحسن التفاهم هو أن يفهم المسيح فهما صحيحا، فهو ينكر بتاتا تأليه المسيح، ويصر على أنه قبل كل شيء إنسان من البشر: «إن حكمة الله الخالدة قد تجلت في الأشياء كلها، ولكنها تمثلت في عقل الإنسان بصفة خاصة ، وفي يسوع المسيح بصفة أخص.» فلو تخلصت هذه الشخصية الممتازة من كل ما يشوبها من خراقات لا تؤدي إلا إلى الخصومة والنزاع، لجذبت حولها الناس جميعا، ولكانت عنوانا تتحد باسمه الدنيا بعد أن مزقتها حروب السيف والقلم، وتعيش في طمأنينة وسلام. (2)
إصلاح العقل
نامعلوم صفحہ