نعم إني مهما ألححت في الشك فلن أشك في أني أشك، ولما كان الشك ضربا من ضروب التفكير، إذن فلست أستطيع الشك في أني أفكر، وبديهي أنني لو لم أكن موجودا لما شككت أو فكرت، فما دمت أفكر فأنا موجود ... وهكذا وضع ديكارت هذه القاعدة: «أنا أفكر فأنا إذن موجود.» واتخذها أساسا أقام عليه فلسفته بأسرها. فمن وجود نفسه أثبت وجود الله، ومن وجود الله أثبت وجود العالم الخارجي، كما سترى فيما بعد.
ومما تجب ملاحظته أن «ديكارت» حين أثبت وجوده من تفكيره، لم يثبت إلا ذاته المفكرة فحسب، أعني أنه لم يثبت وجود نفسه، ولا ما يتصل بالجسم؛ لأنه استنتج من شكه وجود ذاته الشاكة أي المفكرة. وفي ذلك قال «ديكارت» يعارض سانشيه
Sanchez
الذي يقول: «كلما فكرت ازددت شكا.» بهذه العبارة: «بل كلما شككت ازددت تفكيرا، فازددت يقينا بوجودي.»
هكذا بدأ ديكارت بالشك الهادم، ثم انتزع من غمار الأنقاض التي قوضتها معاول شكه يقينا؛ إذ أثبت أن ذاته المفكرة موجودة، لا ريب في وجودها، ثم قرر بعد ذلك أن كل قضية تبلغ من الوضوح والتحديد ما بلغته قضية «أنا موجود» لا يجوز أن نرتاب في صدقها ويقينها. فمثلا لا ينبغي أن نشك في هذه القضية الآتية: «إن الشيء لا يخرج من لا شيء.» لأنها بديهية تفرض نفسها على العقل فرضا، فهي لا تقل صحة ويقينا عن وجود العقل نفسه. فإذا سلمنا بأن الشيء لا يخرج من لا شيء، كان لزاما علينا أن نسلم بأن النتيجة لا يمكن أن تجيء أكبر من مقدمتها، أعني أن المسبب يجب أن يكون أصغر من سببه، أو على الأكثر مساويا لسببه؛ لأن كل زيادة في المسبب معناها أنها نشأت من لا شيء، وهو مناف للقضية التي سلمنا بها. (2)
إثبات وجود الله:
لقد سلمنا فيما سبق أن الشيء لا يخرج من العدم، وأن النتيجة لا يمكن أن تكون أعم من سببها، ولكنك إذا استعرضت أفكارك صادفت بينها فكرة ممتازة هي فكرة الكائن اللانهائي، أعني أن في ذهنك صورة عن كائن لا نهاية له ولا حدود، فمن أين جاءتك هذه الصورة؟ يستحيل أن تكون قد نبعت من نفسك؛ لأنها أوسع منك، فأنت على نقيضها كائن نهائي محدود. وبديهي - كما سبق القول - ألا تجيء الصورة أشمل من أصلها، وألا يكون المسبب أكبر من سببه؛ لأنه محال أن يتفرع الشيء من لا شيء. وإذن فلا يمكن أن ينشأ كائن لا نهائي مطلق من كائن نهائي محدود.
إذن فمن أين جاءتك هذه الفكرة بعد أن أيقنت أنها لم تتفرع عن فطرتك؟ لا نحسبك مترددا في أن تذهب مع «ديكارت » فيما ذهب إليه من أن هذه الفكرة اللانهائية الكاملة لا يمكن أن تنبعث من الطبيعة البشرية الناقصة، بل لا بد لها من أصل يوازيها كمالا وعظمة؛ لضرورة التكافؤ بين العلة والمعلول، ومن هنا كان حتما علينا أن نسلم بوجود إله جامع لكل صفات الكمال، هو الذي خلق في الإنسان هذه الفكرة وألهمه إياها، وإذن فالله موجود، وليس في وجوده شك.
ويقيم «ديكارت» على وجود الله برهانا ثانيا فيتساءل: من ذا أوجدني؟ إنني لم أخلق نفسي بنفسي، وإلا لوهبتني كل صنوف الكمال التي تنقصني الآن، كذلك لم يخلقني خالق ناقص؛ لأنه لو كان كذلك لقامت أمامنا المشكلة بعينها. ومن ذا أوجد ذلك الخالق الناقص؟ إنه لم يوجد نفسه وإلا لخلع على نفسه ضروب الكمال، فلم يعد إلا أن يكون خالقي إلها كامل الصفات.
هذا وإن استمرار وجودي ليحتاج كذلك إلى تعليل، إذ لا يكفي أن يخلقني الله أول مرة وكفى، بل إني بحاجة إلى وجوده ليخلقني في كل لحظة خلقا جديدا. فالزمان يتألف من جزئيات زمنية لا نهائية متعاقبة، ولا تعتمد البرهة الزمنية في وجودها على البرهة التي سبقتها بأي حال من الأحوال، وعلى ذلك فكوني كنت موجودا منذ لحظة لا يجوز أن يكون سببا في وجودي الآن، وإذن فيستحيل أن يستمر وجودي إلا إذا كانت هنالك قوة تخلقني في كل لحظة خلقا جديدا. ومعنى ذلك أن مجرد وجودي دليل على وجود الله، وأن استمرار وجودي دليل آخر على وجوده، ولرب معترض يقول: إن الله كذلك يستمر وجوده من لحظة زمنية إلى لحظة أخرى، فكيف استطاع أن يحتفظ بوجوده أكثر مما نستطيع نحن البشر؟ وجواب ذلك أن الله كامل كمالا مطلقا، والكمال يقتضي دوام الوجود. ولو لم يكن كذلك لأمكن للعقل أن يتصور كائنا أكمل منه.
نامعلوم صفحہ