وليست هذه القوائم الثلاث هي كل شيء، فإنك إذا ما فرغت من إعدادها كان لزاما عليك أن تتبعها بخطوة أخرى هي أقوم جزء في طريقة «بيكون»، ألا وهي عملية العزل والإقصاء. ففي بحثك عن سبب الحرارة مثلا، ستتناول القوائم الثلاث التي أعددتها - قوائم الإثبات والنفي والمقارنة - ثم تأخذ في رفض أمثلة مما أثبت في القائمة الأولى لما يتبين لك من القائمة الثانية أنه لا يمكن أن يكون سببا للحرارة. فترفض مثلا أن يكون دم الحيوان سببا للحرارة؛ لأن هناك من الحيوانات ما دماؤها باردة، وهكذا تظل تعزل مثلا في إثر مثل حتى يبقى في النهاية ما يدل على السبب الحقيقي. (5)
الأمثلة المرجحة:
ولكن ربما بقي لديك أكثر من سبب وعجزت عن ترجيح أحدها؛ لأن كلا منها تؤيده أمثلة ليس ما ينفيها في قائمة النفي، فواجبك عندئذ أن ترسل البصر إلى العالم الخارجي مرة أخرى عسى أن تصادف في الطبيعة حقيقة تعينك على ترجيح سبب على سبب، فإن وجدت مثل هذه الحقيقة كانت لك في ضلالك مرشدا وهاديا؛ لأنها ستشير لك إلى الطريق السوي كما تفعل الأنصاب الحجرية التي يقيمها الناس عند ملتقى الطرق لهداية السائرين، (وكثيرا ما تكون تلك النصب على هيئة الصليب، ولهذا ترى الكلمة الإنجليزية التي معناها مرجح
Crocial
مشتقة من الكلمة التي معناها صليب
Cross ). (5) سبب الحرارة
كان مما بحثه «بيكون» على أساس طريقته الاستقرائية سبب الحرارة، وقد ذكرناه فيما سبق كيف أنه أثبت في القائمة الأولى كل الأمثلة التي تظهر فيها الحرارة، وفي القائمة الثانية أمثلة تشبه التي جاءت في الأولى، ولكنها لا تحتوي حرارة، وكيف أنه ظل يقصي كل شيء مما يثبت أنه يستحيل أن يكون هو سبب الحرارة لظهوره في بعض الأمثلة، واختفائه في الأمثلة الأخرى، وهكذا حتى وصل في النهاية إلى علة واحدة بقيت له هي الحركة، فقد هداه بحثه إلى أن الحركة هي علة الحرارة؛ لأن كل شيء حار يكون في حركة دائمة هي التي سببت حرارته، وتختلف حرارة الأجسام باختلاف حركتها زيادة ونقصا.
بهذه الطريقة عرف «بيكون» كيف يستفيد من الأمثلة التي يجمعها بالملاحظة والتجربة في الوصول إلى النتائج الجديدة. فلم يكن - كما كان القدماء - يجمع الأمثلة ويكدسها في غير نظام كما يكوم النمل طعامه في جحوره بأن يضعه كما هو من غير تبديل ولا ترتيب، ولكنه كان أشبه شيء بالنحل الذي يجمع مادة طعامه من هذه الزهرة ومن تلك، ثم يهضمها ويمثلها لغاية في نفسه يقصد إليها، فيخرجها آخر الأمر شيئا جديدا.
رأى «بيكون» أن وجهة العلم الجديدة يجب أن تنفض يديها من المناقشات العقيمة التي كانت تدور حول الكليات، وأن تنصرف بكل قوتها إلى الأشياء نفسها، فإن العلم لا يقوم بناؤه إلا على الإدراكات الحسية المباشرة، ثم ينبغي أن يرتفع بعد ذلك بكل حذر، وبالتدريج البطيء إلى مرتبة المعقول المجرد.
ومن طريقة «بيكون» العلمية استخلص علماء التربية بعض القواعد في تربية الأطفال، فقالوا: إنه يجب أن يسير التعليم من المحسوس إلى المعقول.
نامعلوم صفحہ