ولكن حياة (الحكم) العلمية وتهاونه سلبت ابنه ووليه أية فرصة لقوة السلطان، فإن الحكم حينما كان في شغل بجمع الكتب وتجليدها، كان عظماء القواد بمملكته يتدرجون في النفوذ ورفعة الشأن وغير ذلك من الأمور التي لو حدثت في أيام عبد الرحمن الناصر لوقف تيارها، وكان من آثار أعمال الحكم أيضا أن أخذت زوجاته يفرضن نفوذهن على رجال الحكومة.
إن عبد الرحمن بنى مدينة لزوجته الزهراء، ولكنه كان يدهش جدا لو أنها جرؤت على أن تقترح عليه اسم شخص يوليه رياسة الشرطة، وحينما مات الحكم كان نفوذ نساء القصر عظيما، وكانت (صبح) أم الخليفة هشام أعظم من بالمملكة سلطانا، وكان من صنائعها شاب قدر له بعد حين أن يكون أبعد منها نفوذا وشأنا، وذلك هو ابن أبي عامر الذي سندعوه من الآن بالمنصور، وهو اللقب الذي اتخذه لنفسه بعد أن أحرز انتصارات كثيرة على المسيحيين.
بدأ المنصور حياته طالبا مغمورا بجامعة قرطبة، وكان أبوه بها فقيها، ويرجع أصله إلى أسرة طيبة المنبت، وإن لم تكن ذات نفوذ، وقد عزفت نفس الشاب عن أن يحصر مطامحه في الوصول إلى المنزلة التي رضيها أبوه لنفسه، وكان له وهو طالب آمال وأحلام وطموح، حتى إنه همس في أذن بعض إخوانه من الطلبة بأنه سيكون في يوم حاكم الأندلس، ثم جاوز الحد في أحلامه، فسأل بعض الطلبة عما يختارون من المناصب لو ألقيت إليه أزمة الحكم ووعدهم بتحقيقها، وقد صدق وعوده عندما تحققت آماله.
4
ونشأة المنصور مثال رائع لما يمكن أن يعمله الذكاء والشجاعة والأثرة في مملكة إسلامية حيث كانت الطريق إلى المعالي ممهدة للعبقريين كيفما كانت بدايتهم موئسة مثبطة؛ فقد كان المنصور في أول أمره يعيش من كتابة الرسائل لخدم القصر، وما زال يتدرج بلباقة حتى اتصل بكبير الحجاب الذي كانت له في هذا القصر سلطة رئيس الوزراء، فعين في مناصب قليلة الشأن اكتسب فيها بسحر أخلاقه ومهارته في الملق محبة نساء القصر، وبخاصة السيدة «صبح» التي هامت به حبا، ثم ما زال يرقى منزلة منزلة بإظهار الخضوع للأميرات وتقديم الهدايا النفيسة إليهن، وكان يشتريها أحيانا من مال الدولة حتى وصل إلى المناصب الرفيعة، ولما بلغ الحادية والثلاثين كان يشغل عدة مناصب، من بينها الإشراف على أملاك ولي العهد، وقضاء مدينة أو مدينتين، والنظر في الزكاة والمواريث، وسحر المنصور كل من لقيه برفيع أدبه وتواضعه، وكريم عطائه، ورقة إحساسه، ومساعدته للبائسين، وبذلك تمكن من اجتذاب عدد عظيم من الناس بينهم كثير من كبار الدولة.
وحينما عظم نفوذ السيدة «صبح» بموت الحكم وأصبحت أم الخليفة الصغير، وجد المنصور الفرصة التي كان يترقبها لتوسيع مدى سلطانه، فعمل الاثنان معا واستطاعا إجلاس الطفل هشام على العرش بقتل من كان ينازعه فيه،
5
ثم تمكن المنصور من القضاء على مؤامرة رجال القصر الصقالبة الذين كانوا يأبون خلافة هشام.
وكان المصحفي
6
نامعلوم صفحہ