4
كان لا بد لي في سياق ذلك الحوار عن النقد الأدبي وطبيعته أن أستطرد في الحديث لأحدد مفهومي عن الأدب - أو قل عن الفن بصفة عامة - ما هو؟ لأن النقد إذا أراد لنفسه - أو أريد له - أن ينأى عن أهواء «الذوق» ليقيم قوائمه على «علم» أو ما يشبه العلم في موضوعية النظر وفي الركون إلى التحليل، لم يكن له بد من أن يضع أمامه تصورا واضحا لما يتوقعه من العمل الفني؛ ليقيس الحالة الجزئية المعروضة أمامه بالصورة المثلى، كي يتبين إلى أي حد تقترب أو تبتعد تلك الحالة المعروضة من هذا المثال المنشود، فكتبت أقول:
ماذا أفهمه من كلمة «فن»؟
أنا الآن جالس إلى منضدة صغيرة أكتب هذا المقال، فحانت مني التفاتة إلى نافذة صغيرة إلى يساري، ورأيت غرابا يرف بجناحيه، نعق نعقتين كان في صوتهما تهدج، ثم هبط على غصن من شجرة لا أعرف نوعها، ولعله هبط على مكان من الغصن أوراقه متهافتة، فسقطت ورقة تأرجحت في الهواء، وهوت إلى الأرض هويا بطيئا ...
هذه صورة مركبة من جملة عناصر، نكتفي الآن منها بثلاثة: أنا والغراب والشجرة (لأنك تستطيع أن تضيف عشرات العناصر الأخرى مما أراه وأسمعه وأحسه بجلدي وأفكر فيه في هذه اللحظة عينها).
أما أنا فبديهي أنني كنت في هذه اللحظة من لحظات حياتي، في حالة معينة فذة فريدة، لم يسبقها قط منذ ولادتي، ولن يلحقها قط إلى مماتي لحظة أخرى تطابقها كل التطابق من جميع الوجوه، فلا يعقل أن يتكرر موقفي إذ ذاك بما فيه مما يحيط بي من أشياء وملابس، وما أرى وما أسمع، وما يدور في نفسي من خواطر، وأقل ما يقال في هذا الموقف الفريد الفذ هو أنني كنت قبل الآن أصغر مني الآن، وسأكون بعد الآن أكبر مني الآن.
وأما ما رأيته من الغراب فبقعة سوداء تحركت حركة معينة، ثم سكنت في مكان معين على هيئة معينة، بقعة سوداء! لكن السواد يا صاحبي له ظلال تعد بالألوف، فأي ظل من هذه الظلال رأيت؟ والبقعة السوداء تحركت! الحركة كذلك يا صاحبي لها ألوف الألوف من الصور، فبأي منها تحركت تلك البقعة السوداء؟! ثم سكنت البقعة السوداء في مكان معين! حتى السكون يا صاحبي صنوف وأشكال، فليس سكون النائم مثل سكون الميت، وليس سكون الصخرة ملقاة على سفح الجبل، كسكون غرابك هذا على الفنن، وقل مثل هذا فيما سمعت من الغراب، سمعته ينعق نعقتين في صوتهما تهدج، كم درجة من الصوت سمعت أذناك؟ في أي درجة من الدرجات أردت أن أضع نعيق الغراب؟ الحق أن ما رأيت من الغراب وما سمعت مركب فريد من عناصر اجتمعت على نحو يستحيل أن يكون ما يماثله مماثلة تامة في كل ما رأيت وما سأرى من الغربان.
وما قلته في نفسي وفي الغراب أستطيع أن أقوله في الشجرة والورقة التي سقطت منها وهوت إلى الأرض، ثم يزيد الأمر كله في درجة التركيب والتعقيد حين نضيف هذه الأشياء الثلاثة بعضها إلى بعض في صورة واحدة، هي صورة فذة فريدة - كما أسلفت - لم تعرف، ولن تعرف الحياة لها مثيلا آخر بكل ما في التماثل من دقة وتطابق.
وكأني ألمح في قارئي علائم الدهشة من هذه المبالغة في قولي، ولكن ليس في الأمر يا صاحبي غرابة ولا عجب، فهكذا الحياة في شتى صورها، الحياة لا تعرف تكرار الأفراد، كل كائن حي - والكائنات الحية ملايين الملايين - فيه ما يجعله فردا بذاته، يختلف ولو قليلا عما عداه، خذ ورقة من شجرة، ودر بها الأرض من قطبها إلى قطبها، فلن تجد لها مثيلا بمعنى التماثل الذي تنتفي فيه كل الفروق المميزة انتفاء تاما، وانظر إلى ألوف الناس من حولك، هل رأيت قط فردين متشابهان إلى الحد الذي تنمحي فيه المميزات جميعا؟ لا، بل الاختلاف بين الأفراد أدق من هذا وألطف، فبصمات الأصابع لا تتشابه في الأفراد، ودع عنك دقائق الجسم الباطنية من حيث الشكل والحجم والتركيب.
هكذا الحياة - يا صاحبي - في شتى صورها، فلا موضع لغرابة منك أو عجب، الحياة لا تعرف تكرار الأفراد، بل لا تعرف تكرار اللحظات في الفرد الواحد، فيستحيل أن يكون الكائن الحي في هذه اللحظة هو بعينه ما كان في لحظة مضت، وهو بعينه ما سيكون في لحظة تالية.
نامعلوم صفحہ