وكان لابوشنيانو قد دعاهما مرارا إلى العودة مقسما بأغلظ الإيمان أنه لن يسيء إليهما، ولكنهما كانا يعرفان جيدا قيمة هذا القسم، ولكي يحكم لابوشنيانو رقابته عليهما أقام في قلعة هوتان التي قوى استحكاماتها، ولكنه أصيب بالتيفوس ثم استشرى فيه المرض سريعا حتى دنا به من حافة القبر.
وأثناء هذيانه لاح له أنه يرى جميع ضحايا قسوته الفظيعة، وهم يهددونه ويرعبونه، ويدعونه إلى الحساب أمام الله، وعبثا كان ينقلب في فراش ألمه بحثا عن الراحة.
واستدعى مطران المدينة تيوفان والقسس والنبلاء، وقال لهم: إنه قد وصل إلى نهاية حياته، وطلب منهم الغفران في تضرع ثم ابتهل إليهم لكي يرأفوا بابنه روكدان وارث العرش ويساعدوه؛ لأنه غض الإهاب ومحاط بأعداء أقوياء لا يستطيع مقاومتهم، كما لا يستطيع الدفاع عن البلاد بدون اتحاد النبلاء وإخلاصهم وطاعتهم.
ثم أضاف قائلا: «وأما عن نفسي، فقد اعتزمت إذا شفيت أن أنقطع للعبادة في دير سلاتينا، وأن أطلب الغفران حتى تحين نهايتي؛ ولهذا أرجوكم أيها الآباء أن تخففوا عني مواعظكم عندما ترونني أقترب من الموت.»
ولم يستطع أن يقول أكثر من ذلك؛ إذ أخذته التشنجات، وتصلب جسمه في إغماءة شبيهة بالموت، حتى إن مطران المدينة والقسس ظنوه يقترب من نهايته، فخففوا عنه المواعظ ونادوه باسم «بيس» - وهو صيغة التدليل لبترو - الاسم الذي كان يحمله قبل أن يصبح أميرا.
وبعد ذلك حيوا الأميرة روكسندرا كوصية على العرش حتى يبلغ ابنها القاصر سن الرشد، وأعلنوا روكدان أميرا لموافيا، ثم انطلق الفرسان نحو النبلاء سواء منهم من كان في البلاد ومن كان في المنفى ونحو قواد الجيش.
وعند هبوط الليل وصل سبانكيوك واسترويكي، وما أن وطئت أقدامهما الأرض عند بعض الأصدقاء حتى اتجها مسرعين نحو الحصن الذي كان صامتا ومهجورا وكأنه قبر عملاق، ولم يكن يسمع غير خرير مياه الدنيستر الرتيب وهي تصدم الجدران الرمادية العالية، ثم صيحات جنود الحرس المملة، وهم يلوحون في ضوء الشفق مستندين إلى رماحهم الطويلة، وعندما وصل النبيلان إلى القصر أدهشهما ألا يلتقيا بأحد، وأخيرا دلهما أحد الخدم على حجرة المريض، وعند دخولهما سمعا ضجة كبرى ووقفا يصغيان.
كان لابوشنيانو قد صحا من إغمائه.
وعندما فتح عينيه رأى راهبين واقفين: أحدهما عند وسادته، والآخر عند نهاية الفراش بلا حراك كتمثالين من برونز، وألقى بنظرة على جسمه، فرآه مدثرا في معطف، ومسوح راهب ملقى بالقرب منه، وأراد أن يرفع يده غير أن مسبحة من الصوف عاقته، وظن أنه يحلم وأغلق عينيه، ولكنه عاد ففتحهما ورأى نفس الأشياء: المسبحة والمسوح والرهبان.
وسأله أحد الرهبان عندما رآه لا ينام قائلا: «كيف حالك أيها الأخ بيسي؟»
نامعلوم صفحہ