وقد رأته مقبلا وهي في نزعها، فقالت في صوت لا يكاد يبين: وداعا يا فريد! أنا على عهدي، ولكني أحلك من عهدك لي، فلا عهد على الأحياء للذين يفارقون الحياة!
وبكى فريد لوفاتها أحر بكاء، وسار في جنازتها إلى قبرها، فلما رأى جثمانها ينزل إلى مثواه الأخير، قال والدموع تخنقه: وداعا يا عزة، وأنا على عهدي لك حتى ألقاك!
وأقام فريد سنين متعاقبة، يذهب إلى قبرها صباح الجمعة من كل أسبوع، يضع عليه الورد والريحان، ويتلو عنده الفاتحة. ويعود بعد ذلك إلى بيته، وقد تحطم قلبه، وتحطمت أعصابه.
بعد سنوات، كانت وفاء، قريبة عزة، قد أصابها القدر في أمها ثم أبيها. وكان فريد يعرف هذه الفتاة الرقيقة، وإن لم يكن يزورها أو يتردد على أهلها. وكان يعلم أنها، بموت أبويها، قد أصبحت وحيدة ليس لها من يكفلها من أخ أو قريب. لذلك واساها في مصابها وفاء لعزة قريبتها، وأخذ يتردد عليها، لعله يستطيع أن يؤدي لها أية خدمة تطلبها!
وكانت وفاء محدثة بارعة. وقد أدهش فريدا ما كان من صوتها وصوت عزة من شبه عجيب، حتى لكان يغمض عينيه أحيانا، فيخيل إليه أنه يسمع صوت تلك التي ووريت التراب من سنين. وكان تكوين وفاء كله الإغراء: فقوامها، وصدرها، وخطواتها، وبشرتها، وشعرها المرسل من رأسها إلى قدميها ... كل ذلك كانت تتضوع منه أنوثة شابة تسحر العين، وينشق ريحها الأنف، في إعجاب يعادل إعجاب الأذن بصوتها، وإعجاب الروح برقتها ... رغم عصبية لا تخلو من عنف، كان فريد يلتمس عذرها في تلك الوحدة التي ضربت نطاقها حول هذه الفتاة البديعة التكوين!
وتوسمت وفاء في هذا الرجل - الذي واساها في مصابها، ثم عكف على زيارتها وخدمتها - طيبة قلب، وسمو نفس، حبباه إليها، وجعلاها تشعر بالسعادة كلما رأته مقبلا لزيارتها. وسألت نفسها يوما: «ترى لو أنه خطبني ليتزوجني، وبيني وبينه من فارق السن ما بيننا، أتراني أسعد بخطبته؟»
وكان الجواب الذي سمعته أذناها ردا على سؤالها: «وهل يمنعه فارق السن من أن يؤنس وحدتك ما عاش؟ إنه يتخطى الشباب إلى الكهولة، لكنك تعيشين الآن وكأنك في صومعة أو في دير. فإذا تزوجك خرجت إلى الدنيا ونعمت بالحياة.»
وتردد هذا الخاطر في نفسها غير مرة، فتمنت لو أنه خطبها. وهي لم تكن تستطيع مفاتحته في الأمر وإن كانت تتمناه. وكانت تظن فريدا لا يأبى التزوج منها إذا نبه إلى خطبتها. فهو يعيش مثلها وحيدا لا مؤنس له. ترى لو أنها ذكرت ما يدور بخاطرها لأحد معارفها، وطلبت إليها أن تحدث فريدا فيه فما عسى أن يكون جوابه؟
وخاطبت وفاء سيدة تعرفها وتعرف فريدا فيما دار بخاطرها، ولقيت السيدة فريدا وقالت له: إنك رجل تتخطى الشباب الآن إلى الكهولة، وأنت تتردد على وفاء ترددا أثار لغط الناس، رغم اطمئنانهم إلى رجحان عقلك، وحسن سيرتك. وهي شابة رقيقة مهذبة، وأحسبها تغتبط بزيارتك إياها. أفلا ترى أن تقطع الألسن عنك وعنها، بأن تخطبها إلى نفسها، فلا تجد هذه الألسن ما تتقول به عليك وعليها؟ وأكبر ظني أنها ترحب بك زوجا لها. فإن شئت حدثتها ونقلت إليك جوابها.
وجم فريد لما سمع، فلم يدر بخاطره قط أن يتزوج وفاء وبينهما فارق السن ما بينهما، وهو بعد قد جاوز سن الزواج ولا يفكر فيه. وبعد برهة قال ولا تزال الحيرة تعلو وجهه: أنا أخطب وفاء؟! أترينني يا سيدتي كفؤا لها، أو قديرا وأنا في هذه السن على إسعادها؟ إن لها من الاحترام في قلبي، ومن المكانة في نفسي، ما أخشى أن تجني عليه رابطة الزواج. هي مني بمثابة الأخت الكريمة وأنا لذلك في خدمتها. أما أن أتزوجها فذلك ما لم يرد إلى خاطري، وما لم أفكر فيه!
نامعلوم صفحہ