وبدأت علامات المرض تظهر على عزة، فقد بدأ ينتابها سعال خفيف، ظنه أبوها أول الأمر من أثر البرد، فلما طال بها، واستدعى الطبيب لعلاجها، ودقق في فحصها، أسر إلى أبيها أن الأمر أخطر مما يدور بخاطره، وأن فتاته مصدورة، وأن الخير في نقلها إلى مصحة تعنى بها!
ووجم الأب لما سمع، وطال تفكيره فيه، فقد أوشك الجهاز أن يتم، وأسعد بك يطلب ملحا في تحديد يوم الزفاف. فماذا تراه يصنع وعزة مريضة، ولا يمكن أن تزف إلى خطيبها قبل برئها؟
ولم يجد حلا لهذا الموقف إلا أن يذكر لأسعد بك مرض عزة، وإن لم يذكر له نوع المرض، ووجم أسعد بك طويلا ثم قال: «هذا قضاء الله لا سلطان لنا عليه، والرأي عندي أن نتم زفاف ابنتك الكبرى إلى خطيبها، فهو أكثر إلحاحا من أخيه في الإسراع بالزفاف. فإذا برئت عزة من بعد، زفت هي الأخرى إلى خطيبها!»
واغتبط الأب بهذا الرأي، وتم زفاف كبرى البنتين، وانتقلت إلى بيتها. أما عزة فنقلت بعد أسابيع من فرح أختها إلى مصحة تعالج فيها من مرضها! •••
وكان خطيبها ، وكان فريد، يترددان عليها في المصحة، يواسيانها، ويسألان عن حالها. وكانت عزة تشعر كلما زارها خطيبها كابوسا يجثم على صدرها يكاد يمزقه! فلم يكن منها غير أنات وسعال يخالط الكلمات القليلة المتقطعة التي تشكره بها على زيارته! فإذا جاء فريد عندها تراءى لها فيض من نور الأمل في الحياة، فابتسمت وتحدثت إليه مغتبطة بزيارته وسألته عن الكثير من أمره!
فإذا تصورت بعد ذلك مجيء خطيبها ذوى في نفسها كل أمل، وخيل إليها أن شبحين أسودين يحيطان بها: شبح الموت عن يسارها، وشبح هذا الخطيب عن يمينها!
وبعد أشهر، رأى الخطيب أثناءها أنها لا تتقدم إلى الشفاء، ذهب إلى طبيب المصحة يسأله رأيه في حالها، ومتى يتم في تقديره شفاؤها؟ وهز الطبيب كتفه وقال: لا أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال يا سيدي! فهذه المريضة عصبية الطبع، ولأعصابها تأثير بالغ في صحتها، فأنا أراها أحيانا تتقدم ولو في بطء إلى ناحية الشفاء، ثم أراها فجأة انتكست، حتى أكاد أيأس من شفائها. وقد حاولت أن أستدرجها لأعرف شيئا من قصة حياتها، لعلي أستطيع إن وقفت على سرها أن أنجح في علاجها، فكانت تأبى كل الإباء أن تفضي إلي بشيء. هذا على الرغم من حرصي الشديد على العناية بها، لرقتها وحلو طبعها ودماثة خلقها وسحر حديثها في الساعات التي يبتسم لها الأمل فيها. أما وذلك شأنها فمن العسير علي أن أقول لك شيئا عن سير مرضها، أو مبلغ تقدمها نحو الشفاء والعافية!
وعجب خطيبها لما سمع ... هي إذن تبتسم، لكنه لم ير قط هذه الابتسامة على ثغرها، وهي إذن تتحدث وفي حديثها رقة وحلاوة، لكنه لم يسمع غير كلماتها المتقطعة بين تأوهاتها ونوبات السعال التي تعتريها. والطبيب لا يستطيع أن يذكر شيئا عن شفائها؛ أي إنها إن عاشت، فقد تبقى بالمصحة عاما أو أعواما. أليس خيرا أن يفصم العقدة التي تربطه بها، فتتاح له الفرصة في الزواج من غيرها، وقد يتيح لها ذلك فرصة البرء والعود إلى الحياة من جديد؟!
وتحدث إلى أبيه وأبيها في الأمر، فلم يجدا ما يعترضان به عليه، وزارها أبوها يوما، وقال لها متكلفا اللطف والرقة: لقد فهمت يا ابنتي أن خطيبك يريد أن يتزوج، ولا أحسبك ترضين أن يخطب غيرك وأنت لا تزالين خطيبته؛ لذا أرى - إن كان مصمما على هذا الأمر - أن نحل خطبتك له، وقد رأيت أن أعرف رأيك قبل أن أصرح لأبيه برأيي!
قالت عزة: «الرأي لك يا أبت، فاصنع ما بدا لك.» ولمح أبوها على وجهها إشراق المسرة وهي تقول هذا الكلام. فلما خرج من عندها، أخذ يسأل نفسه: أفكان قبوله خطبتها على غير رغبتها هو الذي أدى إلى مرضها هذا المرض العضال! وأخذ يحاسب نفسه ويستغفر ربه، ويرجو لها البرء بعد فصم خطبتها حتى لا يعذبه ضميره بقية حياته إن أصابها مكروه! •••
نامعلوم صفحہ