ورقصت، فإذا هي شخص آخر غير الذي رأيناه في كل ما سبق من ليالينا ... لم تكن ترقص لنا، بل كانت ترقص لنفسها، كانت كل حركة من حركات جسمها، اللدن اللين، الذي يطاوعها إلى كل ما تريد، يجاوب ما تنطق به نظراتها من عواطف بالغة غاية السمو، ولم يكن في هذه الحركات أي معنى من معاني رغبة الحس، بل انتقلت بصاحبتها وبنا إلى عالم علوي، تتناجى الأرواح في أثيره، وترفع الأجسام معها إلى سماواته. لذلك سكن المرح الصاخب، الذي ألفناه في ليالينا السابقة، وبدت على وجوه الحاضرين جميعا، أحلام الهناء المطمئن، التي كانت الفتاة تشعر بها في أعماق نفسها، وتعبر عنها في بليغ حركاتها. أما أنا فذهبت من سعادتي في تيهاء مبهمة، وشعرت وكأنني ما أزال ممسكا بالفتاة بين يدي، أضمها إلى قلبي، وأشعر بالحب يربطنا في وثاق متين.
وانتهت السهرة وصحبتها وأمها إلى بيتهما المتواضع! ثم عدت أدراجي أفكر في هذا الزواج الذي سنعقده عما قريب، والذي حسبته الكفيل بسعادة أيامي ما حييت.
لا بد لي من مال أواجه به هذه الحياة الجديدة التي أنا مقبل عليها، ولا أريد أن يعرف أبواي شيئا من أمرها؛ لذا تحايلت على هذين الأبوين الكريمين، وعلى الآخرين من أهلي، فجمعت من المال كل ما استطعت جمعه، ولم يزد مع ذلك على مائة جنيه، تعدل قيمتها اليوم أربعمائة أو خمسمائة.
ولم ألبث حين تم زفاف ابنة عمي أن قلت لفتاتي: الآن حق لنا أن نصنع ما صنعوا وأن نتزوج.
ودعت الفتاة الأقربين من أهلها ودعونا المأذون وعقدنا زواجنا وأصبحت زوجا ممتعا سعيدا!
وبعد شهر علمت أن زوجي حامل، وفي أثناء هذا الشهر، لاحظ أهلي كثرة سهري، وتأخري عن كل مواعيدي، ولاحظ والدي انصرافي عن الدارسة، وجاءت إلي والدتي ذات صباح، وأخذت تحدثني في رفق وحنان، وتذكر لي ما لاحظه والدي على سلوكي، وتعيد على مسمعي أنشودتهم القديمة، ورجاءهم في حصولي على درجة جامعية، أسافر بها إلى أوروبا لأحصل على درجة أعلى. وذكرت أن والدي مستعد للإنفاق علي هناك عن سعة ... إلى آخر ما هناك من أماني صورتها، وحسبت أنها تستطيع بها أن تتغلب على ما ظنته طيشا شبابيا، فلما أتمت حديثها، قلت: ولكني لا أستطيع السفر إلى أوروبا، ولا أستطيع إتمام دراستي!
فوجئت الأم المسكينة بهذا الجواب، فقالت في فزع: «ولماذا؟!»
قلت: «لأنني تزوجت، ولأن زوجي حامل!»
وقصصت عليها كل قصتي ... وأيقنت والدتي من لهجة حديثي أن الأمر جد كل الجد، وأني أحب زوجتي حبا دونه العبادة، وأني مقدر كل الاحتمالات ومنها أن يخرجني والدي من بيته، وأنني مستعد لأن أعمل فأكسب حياتي وحياة أسرتي الصغيرة الجديدة!
وعدت إلى زوجتي، فحدثتها بما دار بيني وبين والدتي، فابتسمت وقالت: ما أظن الأمر يبلغ بوالدك إلى حد إخراجك من بيته، فقد لاحظت في أثناء حفلات ابنة عمك أنه يميل إلي كل الميل، ويعطف علي أشد العطف ويعنى بأمري أشد العناية، فإذا صادف أن تحدث إليك في هذا الموضوع فقل له إنني أكدت لك أنه لن يغضب من زواجنا!
نامعلوم صفحہ