ومكنه بطبيعة الحال من التوفر على عمله في وظيفته، بما أرضى رؤساءه، وجعله بعد عام، أو أقل من عام، يطمع في الترقية إلى الدرجة السادسة! •••
وتتابعت الشهور، وهند تزداد كل يوم متاعا بهذه الحياة الراضية المتواضعة، على أن سحابة من القلق بدأت تندس إلى نفسها حين قارب العام أن يستدير، ثم لم يتحقق رجاء أنوثتها! فقد كانت تتوقع أن يبشرها شهر من أشهر هذا العام بأمومة يطمئن لها زوجها، وتشعر معها بأن هذا البيت الصغير ستضيئه أنوار الطفولة البريئة، وتجعل منه مقر أسرة، وتسعد هي، ويسعد زوجها. فلما خذل تعاقب الشهور رجاءها، بدأ مرحها يخبو ضياؤه، وبدأ يرتسم على جبينها الجميل أثر القلق الذي ساورها.
ولاحظ زوجها همها وحدس سببه، فلما أفضى به إليها، انحدرت من عينها دمعة، تولاه الألم لمسيلها، فربت على كتفها بيد كلها الحنان والحب، وقال لها: فيم تستعجلين يا عزيزتي؟ إنك تعلمين أن مرتبي لا يكاد يكفينا لولا حسن تدبيرك وما تبذلين من جهد لتبعثي إلى حياتنا ما نشعر به من نعمة ورضا، ولعل رحمة الله بنا هي التي أرادت ما أثار قلقك، وإني لأطمع في ترقية قريبة، تعاوننا إذا رزقنا الله الخلف الذي ترتقبين، على العناية به وحسن تربيته، وأنت لا تزالين بعد في شبابك الباكر، فلا تجزعي واصبري، إن الله مع الصابرين.
وازداد عباس بعد هذا اليوم عطفا على زوجته، مما أنساها قلق أنوثتها. وجاءت الترقية التي كان يطمع فيها، وأتاحت للزوجين شيئا من سعة العيش، جعلت بيتهما الصغير أكثر ابتساما، وجعلت عباسا أكثر حرصا على أن يؤنس وحدة هند فيه، ودفعته إلى مزيد من العناية بعمله في ديوانه، مما ضاعف رضا رؤسائه عنه، وتقريبهم إياه، ومما زادهم ثقة به، وزاده ثقة بنفسه.
وكان عباس يشعر في أعماقه شعورا قويا، بأن هندا صاحبة الفضل في هذا، ومما طوع له تكريس كل وقته لعمله، وللبلوغ من إتقانه مبلغا غبطه عليه كل زملائه. •••
وانقضت على ترقية عباس سنوات أربع، يئست فيها هند من أن تحمل وتلد، فاكتفت بما بينها وبين زوجها من حب لم تكن الأيام تزيده إلا عمقا وإخلاصا، وفي ختام السنوات الأربع رقي عباس إلى الدرجة الخامسة، ونقل من الكادر الكتابي إلى الكادر الفني، وأصبح منظورا إليه نظرة تقدير خاص. فلما صدر قانون إنصاف الموظفين، وزيدت لهم علاوة غلاء المعيشة، قفز مرتبه قفزة واسعة، مكنته من الانتقال إلى بيت أحسن من البيت الذي تزوج فيه، ومكنت هندا من تأثيث البيت الجديد أثاثا زاد الزوجين طمأنينة إلى الحياة ومتاعا بها!
وخيل إلى هند، وقد أصبحت في هذا الحال، أن من حقها لنفسها، ومن حق زوجها عليها، أن تعود إلى التفكير في أمر عقمها؛ فقد عرفت من زميلاتها من بقيت مثلها سنوات عدة لم تحمل، ثم رزقها الله قرة عين بل قرة أعين، وفي مقدورها اليوم ما لم يكن في مقدورها بالأمس، في مقدورها أن تعرض نفسها على طبيب، وأن تنفق على العلاج، أفلا يجمل بها والحالة هذه أن تفاتح زوجها في الأمر، وهو لا ريب سيقرها، بل سيشجعها عليه!
وبعد تردد طال أمده، أفضت إلى عباس بخوالج نفسها، فكان جوابه: ربما كان العيب مني، ولست أريد أن أعرض نفسي على طبيب لمثل هذا الأمر المخجل، فلنترك أنفسنا لمشيئة الله، وهو - جلت قدرته - قد وسع علينا في الرزق من حيث لم نكن نحتسب، وقد يكون في علمه أن يرزقنا من بعد ذلك البنين، فإن يكن ذلك فالشكر له والثناء عليه، وإلا يكن فالشكر له مرة أخرى، أن رفعني في أعين الناس إلى ما وصلت إليه، وأن جعلك بين النساء محمودة على ما أنت فيه من رخاء ونعمته!
أمسكت هند بعد هذا الجواب عن مفاتحة زوجها في الموضوع كرة أخرى، لكن عبارته «أن أي عيب قد يكون من جانبه» جعلت تتردد في نفسها الحين بعد الحين، أولو كان هذا صحيحا، أفلا يجب عليه - لنفسه ولها - أن يعالج نفسه؟ أم تراه عالج نفسه في سر منها فلم ينجح معه علاج؟!
وهبه لم يكن قد عرض نفسه على طبيب، أو أنه عرض نفسه على طبيب فتبين أن العيب لم يكن من جانبه، أفلا ينبغي أن تفكر هي في أمرها؟!
نامعلوم صفحہ