ونحن نحب كل ما نربيه من أعماق نفوسنا وحبات قلوبنا. وعمر - إلى ذلك - هو وارث عبده عاكف، وهو الذي عصمها وعصم بناتها الأربع من متربة ما كان أفظع شبحها يوم توفي زوجها، ويوم خيل إليها أن الغد يخبئ لها عيلة إن تحققت ناءت بها، وأفسدت عليها كل حياتها!
ولم يقف عنف عمر وطيش شبابه عند القسوة بأخواته، بل بدأ هذا الطيش يصرفه عن دراسته، فيؤدي ذلك إلى رسوبه في امتحاناته، ويضيع على هيفاء أملها في أن تراه رجلا عظيما. لكنها بقيت مع ذلك شديدة البر والعطف عليه، ترى فيه رب البيت، والوارث لاسم أبيه، ولوقف عاكف بك.
وأخذت نزوات عمر تزداد، وتدفعه إلى ألوان من الطيش، كانت هيفاء تحتملها في صبر وسكون، وتدعو الله أن يكفي ابنها شر أولاد الحرام من الجنسين. لكنها ضاقت ذرعا بهذا الطيش، حين علمت أن عمر يجتمع بطائفة من أقارب زوجها، ويلهو معهم. ولم يكن ضيقها بما ينفقه في هذه الاجتماعات، بل كانت تخشى أن يتخذ أقارب زوجها من اجتماعهم بعمر وسيلة لإفساده عليها وعلى بناتها.
وبناتها في سن الزواج، وهن في حاجة ليتزوجن إلى عطف أخيهن ورعايته وحسن سمعته!
وفكرت هيفاء في الأمر طويلا، كما فكرت في انصراف ابنها عن دراسته، فرأت أن تبعث به إلى أوروبا، ليتم الدراسة بعيدا عن أقارب زوجها، ولتزوج هي بناتها في أثناء غيابه، وتجهزهن الجهاز الواجب لمثيلاتهن!
واغتبط الفتى بهذا السفر، لا حرصا على النجاح في دراسته، بل لما تخيله في أوروبا من ألوان المتاع التي ترضي نزق شبابه، بعيدا عن رقابة أمه. وكان أكبر همه منذ استقر في أوروبا، بالمدينة التي قبلته مدرستها، أن يحصل من أمه على أكبر قسط من المال، يرضي نزوات طيشه. أما المدرسة فكانت عنده أمرا ثانويا، كل غايته منه أنه حجة لبقائه بعيدا عن كل رقابة.
وأرخى الفتى العنان لنزغ الشيطان، وجعل ينفق عن سعة في ألوان من اللهو الظاهر والخفي، ليبدو أمام زملائه وصديقاته في مظهر الغني المترف المطمئن إلى غده، المستغني عن كل عمل يحصل منه على رزقه!
وما حاجته أن يعني نفسه، للحصول على درجة علمية، وقد أنبأه أقارب أبيه بأن الوقف يكفل له عيش الترف الذي يطمع فيه. وأنه متى بلغ رشده أصبح المتصرف في هذا الوقف بما يهوى، يعطي أخواته البنات كفافهن، ويبعثر الذي يبقى بغير حسيب ولا رقيب!
ولم يبق بينه وبين سن الرشد غير سنة وبعض السنة، ثم يكون بعد ذلك السيد الذي لا يراقبه أحد، ولا يحاسبه أحد!
وإنه لسادر في ملاذه وأهوائه، إذ جاءته من مصر رسالة أزعجته عما هو فيه؛ فقد جاء فيها أن أمه تستدين على إيراد الوقف استدانة تكاد تستغرق هذا الإيراد لسنوات عدة مقبلة، وأن مستقبله يقتضيه أن يعود إلى مصر محافظة على ماله، فإن فعل وبدا له بعد ذلك أن يرجع إلى أوروبا، فالشأن شأنه. أما أن يغفل الأمر فسيجد نفسه عما قليل مستغرقا في الدين. وذكر صاحب الرسالة أنه على استعداد لمعاونته في إنقاذ الوقف جهد المستطاع!
نامعلوم صفحہ