أما النساء فكن قد نسين شرائع رومية القديمة، فرحن يسرفن على ملبسهن إسراف الحمق والتبذير، فمن حول أذرعهن، ومن فوق جدائل شعورهن، وفي أرجلهن ومناطقهن، حلي ذهبية من صنع أمهر أهل الفن، تغطيهن من مفرق الرأس إلى أخمص القدم، وفي أعناقهن تدلت صنوف الجوهر، ومنها اللآلئ الثمينة النادرة، التي تنافس أغنياء الرومان في الحصول عليها من بلاد الهند خاصة، فحملتها قوافل التجار من تلك الأنحاء القصية البعيدة تلقاء بدرات من المال، لا يتصورها عقل، ولا يدركها خيال.
وكانت الولائم التي تعد على موائد الأثرياء من النبلاء، تحاكي تلك التي أقامها «لوكلوس»، فالصحاف من الفضة الخالصة، والكئوس من الذهب المنقوش، وفراش الموائد من الديباج الأرجواني الثمين؛ وعلى الجملة فقد حاكت ولائمهم، ولائم ملوك الشرق، جمالا وعظمة، أما تقديس الفضائل المدنية السامية، فضائل القصد والاعتدال ونبات الخلق والصبر والاحتمال، تلك التي أثرت عن رومية في نشأتها الأولى، فلم تصبح أكثر من أساطير تروى عن الماضي، وأحاديث ضاع زمانها، وانطوى أوانها.
مع هذا لا ينبغي أن يغيب عنا أن نظام الجماعة القديم في رومية، إن كان قد أخذ يخلي الطريق لعصر جديد، نقصه الكثير من مجد الأسلاف الأقدمين، فلا شبهة، في أن مسرات الحياة ومباهجها قد كسيت روحا مادية، غمرت الناس بحالات لم يألفوها من قبل، فإن ثقافة العقل، وحب الفنون، لم يبلغا في عصر من عصور رومية السالفة، مبلغها في عهد «قيصر»، ناهيك بالفلسفة والحفر وتعلم اللغات، وبخاصة الإغريقية، تلك التي كان يفخر نابهو رومية بإتقانها قراءة وكتابة، كل أولئك، أشياء قد تجدد ميلادها في رومية قيصر.
لم تكن لتشهد ناشئا من النبلاء لا يفخر بأنه أتم ثقافته في «رودس» أو «أفلونيا»، أو بخاصة في أثينا، ولقد كان للنظريات والمبادئ التي يتلقونها خطر الذيوع والتقبل في دوائر الأدب، وحلقات العلم، وذاع الأدب وتعددت ألوانه، وكثرت ضروبه وصوره، حتى لقد عم التأدب طبقات من الشعب كثيرة؛ وكان الأدب من قبل، وقفا على فئة قليلة، دعاها الرومانيون «أهل الأدب»، وقد نقول على الجملة: إن الأدب والعلم، أصبحا طابع ذلك العصر المجيد.
ولا تنس، إلى جانب هذا، أن حماية الأدب والفلسفة والفن، وشمولها بالرعاية، كان من حسنات ذلك العصر الفذ في تاريخ العصور، ففي قصر كل نبيل فيلسوف، أو عالم بحاثة، يتشرف ذلك النبيل بأنه تحت سقفه، وفي حمايته، يدلك على هذا أن أهل رومية كانوا يرون أنه من أكبر الشرف أن ينزل «ڨرجيل» ضيفا على أحدهم، وكان قد هبط رومية قادما من «سنتو» لينشد في السهرات مقطوعاته الريفية، أو يسمعون تلك المقطوعات ينشدها «هوراس»، وكان ما يزال شابا في العشرين، موقعة على الأوتار؛ ولقد تبددت تلك الأنغام مع الأثير، ولكن ذكراها قد بقيت، لتنحدر إلينا مع العصور، فتكون في عصرنا هذا من أخص الذكريات، وجملة القول، أن رومية ما رأت من شيء في عصر قيصر، فقدسته وشرفته، واستعلت به على كل الأرضيات، بقدر ما قدست العلم، وشرفت الفلسفة، وأعلت الأدب. •••
أما «كليوبطرا»، فقد أدركت بديئة، مقدار ما تستطيع، بمواهبها ومفاتنها، أن تغمر به جمعية متمدينة، تتطلع إلى المتعة بكل جديد مبتكر، أو قديم خلاب، ولا يبعد أن تكون كليوبطرا وحدها، دون كل نساء الحلقة التي احتكت بها، قد استطاعت أن تسحر علماء رومية وأدباءها، فأم قصرها فلاسفة من الأغارقة، وأدباء من الرومان، لم تقو فيهم الفطرة على أن تقاوم وحي الملكة، وكأنما جاذبية الأرض قد تركزت حيث كانت، وكأنما فتنة الدنيا قد تجمعت حيث نزلت، فكانت القطب المغنطيسي، في عالم اتجه إليها، وأحاط بها.
لقد خصت كليوبطرا بتلك الموهبة العليا السامية، موهبة الإدراك، ولقد حل في جسمانها روح تضاءلت أمامه عظيمات رومية وخليعاتها على السواء، وكن لا يعكفن على غير اللغو وكلام أهل الفراغ، أو يعرفن من شيء، إلا لذائذ الجسم، دون لذائذ النفس والروح، وهنالك عرفت كليوبطرا أن النجاح حليفها، وأن غرضها يخطو إليها، بعد أن كانت تخطو إليه.
في البهو الأعظم الذي التفت من حوله أجنحة القصر الذي أنزلها فيه قيصر، وقد أشرفت كليوبطرا على تنسيقه بما عرف فيها من سمو الذوق ورجاحة الفن، كانت الملكة واسطة العقد في حلقة جمعت رجالات رومية من أصدقاء قيصر، يقضون هنيهات في ظلها، بل في ظل الحكمة والعلم والأدب والفتنة، لينسوا بقربها في العشية، بؤس ما لقوا من مهام رومية في النهار.
ولكن قيصر كان يقضي تلك الليالي قلقا حائر النفس لا لأن رومية قد هددتها الأعداء، ولا لأن الثورات تقرع بابها، وإنما انتظارا للساعة التي يضمها فيها إلى صدره، ناشقا عبق ذلك الجسم الرباني، ويحس ضربات قلبها تدق وقلبه، دقات ما تتفاوت ثوانيها.
هنالك في تلك الحلقة الفريدة، كنت تأنس تريبونيوس، وليفيدوس، وسلپيشيوس روفس، وقوريون، وغيرهم من رجال الملأ الروماني، الممتازين بالعبقرية، المعروفين بالتفرد في سلامة الذوق، ورفاهة الحس، ودقة الملاحظة، وسمو الفكرة، والإحاطة الشاملة بآداب العالم القديم؛ فإذا تحدثوا فإنما يتحدثون عن مشاكل الساعة، وأزمات القيصرية؛ تحدثوا في الوسائل التي تمكنهم من إنجاز وعودهم للجند، وإلغاء الديون، وإنقاص الإيجار عن الأرض المزروعة؛ إلى غير ذلك من معضلات عالم أصغر، حكم وتحكم في عالم أكبر.
نامعلوم صفحہ