وتركتَ اللّينَ، لأنك اضطررتَ إلى تركه كما تركته في المتحركين. فإنك لو فعلت ذلك كنت غير معدّل للبيت. وأحسن الشعر عندهم أن يكون معتدلًا. فإذا وصولا إلى الذي هو أحسنُ لم يصنعوا الذي هو أقبحُ. وهم إذا تركوا حرف اللّين من قولك: من الناتجُ، وأشباهه، ولم يطلقوه لم يكن مثلَ النّصف الأوّل.
هذا باب
إجماع العرب في الإنشاء واختلافها
أمّا إذا أرادوا الحداء والغناء والتّرنّم فإنَّ كلهم يتبع الرّويّ المضمون واوًا، والمفتوح ألفًا، والمكسور ياء، والساكن إذا كان مطلقًا ياء في الوقف والوصل، فيما ينّونُ منه وما لا ينوّن. فمن ذلك قوله:
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
وقوله:
أعطى فأعطَى حسبًَا ورزْقا
وقوله:
أطرَبًا وأنتَ قنَّسريُّ
وما لا ينوَّن:
الحمدُ لله الوهوبِ المجزلِ
وقوله:
أقلِّي اللومَ، عاذلَ، والعِتابا
وقوله:
أفاطمَ، مهلًا بعضَ هذا التَّدلُّلِ
وإنّما ألحقوا هذه الحروفَ التي يجري فيها الصوت إذا أرادوا الترّنّم لأنّ الصوت لا يجري في غيرها. فلمّا أرادوا التّرنّم ألحقوا هذه الحروف التي يجري فها الصوت.
فأمّا إذا لم يريدوا التّرنّم فأهل الحجاز يتركونه على حاله في التّرنّم، ليفصلوا الشعر من غيره. وأمّا ناسٌ كثيرٌ من تميمٍ وقيسٍ فإنّهم إذا لم يريدوا التّرنّم جعلوا الذي يلحقون نونًا. فيقولون:
داينتُ ليلى، والدُّيونُ تقضنْ
و:
الحمد للهَ الوهوبِ المجزِلِ
و:
متى كانَ الخيامُ بذي طلوحٍ ... سقيتِ الغيثَ أيَّتُها الخيامُنْ
يفعلون هذا في الوصل. وربما فعله بعضهم في الوقف، لأنَّه يريد الوصلَ، فينقطع نفسه.
وبعضهم يقف على المنصوب، منوّنًا كان أو غير منوّن، بالألف، فيقول:
أقلِّي اللومَ، عاذلَ، والعتابا
وإذا وقفَ في الرّفع والجرِّ أسكنَ، فقال: أيّتها الخيامْ
أفاطمَ، مهلًا بعضَ هذا التَّدَلُّلْ
وسمعت من العرب من يقف على الرّويّ المنصوب، إذا كان من الفعل، أو من شيء لا يدخله تنوينٌ في وجه من الوجوه، بالتنوين فيقول:
ولا تبقي خمورَ الأندَرينْ
وينشدون:
أهدمُوا بيتكَ لا أبالكْ
وحسبوا أنَّكَ لا أخالكْ
وأنا أمشي الدَّألَى حوالَكْ
فلا يلحقونَ الألفَ. وهذا لا يكون إلاَّ مطلقًا، إلاَّ أنَّهم يريدون الوقف. وقال هؤلاء:
بشبّان يرون القتل مجدًا ... وشيبٍ في الحروبُ مجرَّبينْ
يسكت بغير ألفٍ، لأنَّ هذا لا يدخلُه تنوينٌ بوجه من الوجوه، وأما:
تسفُّ الجلَّةُ الخورُ الدَّرِينا
فيقفون عليه بالألف في وقفه، لأنَّه لو لم يكن بالألف واللام كان منوَّنًا. وكلُّ ما كان كذلك ألحقَ الألفَ في وقفه. ويقول هؤلاء:
أقلِّي اللّومَ، عاذلَ، والعتابا
لأن العتابَ إذا لم يكن بألف ولام كان منوّنًا، فلذلك ألحقوه الألف في السّكتِ.
وإنما أدخل من أدخل النونَ لأنَّه رأى أنّ الكلام إذا وصل نوّن فنوّنه. وقد دعاهم ذلك أن نوّنوا المقيّد. أخبرنا يونس وغيره ممّن يوثق به أنَّ رؤبة كان يقول:
وقاتمِ الأعماقِ خاوي المخترقنْ
لأنَّه كان اعتادَ التنوين في الوصل. والرّويّ يجري فيه المنوّن وغير المنوّن مجرىً واحدًا. فلذلك نوّن. وقد دعاهم ذلك إلى أن قالوا:
لمّا رأيتُ الدهرَ جمًّا خيلُهو
فألحقوا الواوَ في الوصل، لأنَّهم قد اعتادوا زيادتها في الكلام جعلوها كبعض ما يزاد في الشعر، ولا يحتسب به.
وأمّا إدخالهم الواو والياء والألف في الوقف فكما قال ناسٌ من العرب: هذا زيدو، ومررتُ بزيدي.
وسمعنا من العرب من يجري الرّويّ في الوقف مجراه في الكلام، فيقول:
أقلِّي اللَومَ، عاذلَ، والعتابْ
و:
سقيتِ الغيثَ أيَّتُها الخيامْ
و:
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزِلْ
و:
قد رابني حفصٌ، فحرِّكّ حفصْ
فإذا وصل ألحق المضموم واوًا، والمفتوح ألفًا، والمكسور ياء. وكذلك الساكن إذا كان مطلقًا. وهؤلاء من قيس.
وقد يجرون الواو والياء إذا كانتا من الأصل، وكانتا وصلًا، مجرى المدَّتين. فإذا وقفوا عليهما وقفوا كما يقفون على الزائد، فيحذفهما من يحذف الزائد، فيقول:
1 / 17