القواعد
(التواعد)
تحقیق کنندہ
أ. د. خالد بن علي المشيقح، د. عبد العزيز بن عدنان العيدان، د. أنس بن عادل اليتامى
ناشر
ركائز للنشر والتوزيع - الكويت
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٤٠ هـ - ٢٠١٩ م
پبلشر کا مقام
توزيع دار أطلس - الرياض
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد؛
فإن معرفة القواعد الفقهية والمسائل المنتظمة تحتها من أهم ما ينبغي على طالب علم الفقه تقليب نظره فيه، وذلك أن «القواعد تضبط للفقيه أصول المذهب، وتطلعه من مآخذ الفقه على نهاية المطلب، وتنظم عقده المنثور في سلك، وتستخرج له ما يدخل تحت ملك» (^١).
وإن من أعظم ما كُتب في هذا العلم في سائر المذاهب الفقهية؛ كتاب الحافظ الإمام الفقيه الزاهد شيخ الحنابلة وعلامة المحدثين؛ زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، في كتابه المشهور: «تقرير القواعد وتحرير الفوائد»، فقد أجاد فيه وأفاد، حتى قيل إنه من عجائب الدهر.
_________
(^١) المنثور في القواعد (١/ ٦٦)، نقلًا عن قطب الدين السنباطي ﵀.
1 / 5
وقد تفضَّل الله الكريم علينا بنسخ خطيَّة لهذا الكتاب تُعد من أنفس النسخ، نسختان منها مقروءتان على الحافظ ابن رجب ﵀ وعليها خطه، ونسخ أخرى بخطوط تلاميذه وعلماء مذهبه.
وقد تزيَّن الكتاب بحواشٍ وتعليقات كثيرة في نسخه الخطية، منها ما هو بخط الحافظ ابن رجب، ومنها ما هو بخط تلاميذه؛ كعلاء الدين ابن اللحام، ومحب الدين ابن نصر الله البغدادي، ومنها ما هو بخط علماء المذهب بعدهم؛ مثل تلميذ ابن نصر الله البغدادي؛ عبد الله ابن هشام الأنصاري الحنبلي، وأحمد بن عبد العزيز الفتوحي، وإبراهيم ابن ضويان، وغيرهم، فانكشف بتعليقاتهم كثيرٌ مما أُغلق من القواعد، واتضح بعض ما أَشكل من كلام الحافظ ابن رجب، ومنها ما هو استدراك عليه، أو اعتراض، أو توضيح وبيان، أو غير ذلك.
فلما رأينا أن الكتاب بحاجة إلى إعادة إخراج وتحقيق، وأن جُلَّ هذه الحواشي - خاصة حاشية ابن نصر الله - لم تخرج من قبل، وأن الكتاب بحاجة إلى أن يكون بين يدي القارئ بهيئة مرضية، وقراءة صحيحة؛ عزمنا جهدنا على العمل بتحقيقه وخدمته، فما كان فيه من صواب فمن الله وحده، وما كان من اجتهاد خاطئ فمنَّا ومن الشيطان، ونرجو من الله العفو والغفران، ومن القارئ النصح والبيان.
والحمد لله رب العالمين
المحققون
1 / 6
ترجمة المؤلف (^١)
- اسمُه ونسبُه:
هو عبد الرحمن بن أحمد بن رجب - واسمه عبد الرحمن - بن الحسين بن محمد بن مسعود، زين الدين، أبو الفرج، البغدادي ثم الدمشقي.
اشتهر ﵀ بـ: ابن رجب، و(رجب) هو لقب جدِّه عبد الرحمن.
_________
(^١) مصادر الترجمة:
الرد الوافر، تأليف: ابن ناصر الدين الدمشقي الشافعي، مطبوع عن المكتب الإسلامي - بيروت، (ص ١٠٦).
الدرر الكامنة، تأليف: الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، مطبوع عن مجلس دائرة المعارف العثمانية - حيدر آباد/ الهند، (٣/ ١٠٨).
إنباء الغمر بأبناء العمر، تأليف: الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، مطبوع عن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - لجنة إحياء التراث الإسلامي، مصر، (١/ ٤٦٠).
المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، تأليف: برهان الدين إبراهيم ابن مفلح، مطبوع عن مكتبة الرشد - الرياض، (٢/ ٨١).
شذرات الذهب، تأليف: ابن العماد الحنبلي، مطبوع عن دار ابن كثير، دمشق - بيروت، (٨/ ٥٧٨).
لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ، تأليف: ابن فهد الهاشمي المكي الشافعي، مطبوع عن دار الكتب العلمية، (ص ١١٨).
الجوهر المنضد في طبقات متأخري أصحاب أحمد، تأليف: يوسف بن حسن ابن عبد الهادي الصالحي، ابن المِبْرَد الحنبلي، مطبوع عن مكتبة العبيكان، الرياض، (ص ٤٦).
الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية، تأليف: مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي، مطبوع عن دار الفرقان - بيروت، (ص ٤٩).
مختصر طبقات الحنابلة، تأليف: الشيخ محمد جميل البغدادي المعروف بابن شطي، مطبوع عن دار الكتاب العربي في بيروت، (ص ٧١).
السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة، تأليف: محمد بن عبد الله بن حميد النجدي ثم المكي، مطبوع عن مؤسسة الرسالة، (٢/ ٩٠٢)، ترجمة رقم: (٢٩٦).
تسهيل الوابلة لمريد معرفة الحنابلة، تأليف: صالح بن عبد العزيز العثيمين، مطبوع عن مؤسسة الرسالة، (٣/ ١٥٦٧)، ترجمة رقم: (٢٦٤٣).
هدية العارفين، تأليف: إسماعيل بن محمد أمين بن مير، مطبوع عن دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان، (١/ ٥٢٧).
معجم المؤلفين، تأليف: عمر بن رضا كحالة، مطبوع عن مكتبة المثنى في بيروت، (٥/ ١١٨).
1 / 7
- مولدُه، ونشأتُه، ورحلاتُه، وعلمُه:
ولد ابن رجب في بغداد سنة ٧٣٦ هـ، ونشأ في أسرة علمية ذات دين وخُلق وسمتٍ صالح، فقد كان أبوه وجده من العلماء المحدثين، وكان لأبيه عناية بالعلم، وقد اجتهد في تعليم أولاده - بما فيهم الحافظ ابن رجب - وهم صغار والرحلة بهم للقاء المحدثين والمسندين.
وقد طلب الحافظ ابن رجب العلم في سن مبكرة، قبل البلوغ، وسمع الحديث قبل سن الخامسة، وأجازه العلماء والمحدثون وهو
1 / 8
صغير، وارتحل به والده إلى دمشق وهو صغير أيضًا وسمع فيها من كبار المحدثين آنذاك؛ كابن النقيب، والسبكي، والنووي، وغيرهم.
ثم رجع مع والده إلى بغداد وسمع من شيوخها وعلمائها، ولازمهم وقرأ عليهم.
ثم حج مع والده والتقى في الحج بجماعة من الشيوخ، ثم رجع إلى دمشق ولازم ابن قيم الجوزية سنة كاملة حتى مات سنة (٧٥١ هـ).
وارتحل إلى مصر، والتقى بشيوخها وعلمائها، وحج مرة أخرى والتقى بالعلماء أيضًا.
قال ابن حجر: (ورافق شيخنا زين الدين العراقي في السماع كثيرًا).
ثم استقر في دمشق عاصمة العلم آنذاك، ودرَّس وصنَّف، وولي حلقة شيخه ابن قاضي الجبل، وهي حلقة الثلاثاء، ودرَّس بالمدرسة الحنبلية، وتخرَّج عليه العلماء والفضلاء، ﵀ رحمة واسعة.
قال ابن مفلح: (وكان لا يعرف شيئًا من أمور الناس، ولا يتردد إلى أحد من ذوي الولايات، وكان يسكن المدرسة السكرية بالقصاعين).
وكان ابن رجب ﵀ له اطلاع واسع في مذهبه - مذهب الإمام أحمد -، وكتابه هذا من أدل ما يكون على ذلك الاطلاع، قال ابن قاضي شهبة لما ذكر مصنفاته: (والقواعد التي له تدل على معرفته بالمذهب)، وقد اعتمده المرداوي في الإنصاف من ضمن الكتب التي
1 / 9
يُعرف بها راجح المذهب، قال ابن المبرد: (وله تحقيق في المسائل على نصوص أحمد، وكلام الأصحاب، وله مسائل كثيرة غريبة).
وكان له اطلاع واسع في علم الحديث وعلله وطرقه لا يقل عن علمه بمذهب الإمام أحمد، قال الحافظ ابن حجر: (ومهر في فنون الحديث أسماء ورجالًا وعللًا وطرقًا واطلاعًا على معانيه، صنف شرح الترمذي فأجاد فيه في نحو عشرة أسفار، وشرح قطعة كبيرة من البخاري، وشرح الأربعين للنووي في مجلد)، ونقل عن ابن حجي أنه قال: (أتقن الفن، وصار أعرف أهل عصره بالعلل وتتبع الطرق).
- مشايخه:
أخذ العلم سماعًا، وإجازة، وقراءة، ومدارسة عن جماعة من العلماء والمحدثين، فمن هؤلاء:
١ - أبو العباس، أحمد بن الحسن بن عبد الله، المشهور بابن قاضي الجبل (٧٧١ هـ).
٢ - أبو العباس، أحمد بن سليمان الحنبلي.
٣ - عز الدين، عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة (٧٦٧ هـ).
٤ - صفي الدين، عبد المؤمن بن عبد الحق بن عبد الله البغدادي الحنبلي (٧٣٩ هـ).
٥ - أبو يعلى، حمزة بن موسى بن أحمد بن بدران، المعروف بابن شيخ السلامية (٧٦٩ هـ).
1 / 10
٦ - سراج الدين، عمر بن علي بن عمر القزويني (٧٥٠ هـ).
٧ - شمس الدين، محمد بن أبي بكر الزرعي، المعروف ابن قيم الجوزية (٧٥١ هـ).
وغيرهم من المحدثين والفقهاء والمؤرخين والمسندين.
- تلاميذه:
أخذ عنه جمع من أعيان العلماء، منهم:
١ - أبو العباس، أحمد بن أبي بكر الحموي الحنبلي، ويعرف بابن الرسام (٨٤٤ هـ).
٢ - محب الدين، أحمد بن نصر الله بن أحمد بن محمد بن عمر البغدادي، مفتي الديار المصرية (٨٤٤ هـ).
٣ - زين الدين عبد الرحمن بن سليمان بن أبي الكرم الحنبلي المعروف بأبي شعر (٨٤٤ هـ).
٤ - علاء الدين أبو الحسن، علي بن محمد بن عباس البعلي، المعروف بابن اللحام (٨٠٣ هـ).
٥ - علاء الدين أبو المواهب، علي بن محمد الحموي الحنبلي، المعروف بابن المغلي (٨٢٨ هـ).
وغيرهم من العلماء والمحدثين والشيوخ، قال ابن حجي: (تخرج به غالب أصحابنا الحنابلة بدمشق).
1 / 11
- ثناء العلماء عليه:
أثنى على الحافظ ابن رجب جماعة من العلماء، من تلاميذه وغيرهم، فمن ذلك:
قال شمس الدين ابن ناصر الدين الدمشقي: (الشيخ الإمام، العلامة، الزاهد، القدوة، البركة، الحافظ، العمدة، الثقة، الحجة، أوعظ المسلمين، مفيد المحدثين)، ونقله عنه الشيخ مرعي الكرمي ﵀.
وقال ابن قاضى شهبة: (الشيخ الإمام، العلامة، الحافظ، الزاهد، الورع، شيخ الحنابلة وفاضلهم، أوحد المحدثين)، ثم قال بعد كلام في ترجمته: (وبالجملة فلم يخلف بعده مثله).
وقال تلميذه علاء الدين البعلي المعروف بابن اللحام: (سيدنا، وشيخنا، الإمام، العالم، العلامة، الأوحد، الحافظ، شيخ الإسلام، مجلي المشكلات، وموضح المبهمات)، وقال أيضًا: (شيخنا الإمام، العالم، الحافظ، بقية السلف الكرام، وحيد عصره، وفريد دهره، شيخ الإسلام).
وقال ابن المبرد: (الشيخ الإمام، أوحد الأنام، قدوة الحفاظ، جامع الشتات والفضائل، الفقيه الزاهد البارع، الأصولي، المفيد، المحدث).
وقال ابن فهد المكي: (الإمام الحافظ الحجة، والفقيه العمدة، أحد العلماء الزهاد، والأئمة العباد، مفيد المحدثين، واعظ المسلمين
1 / 12
كان رحمه الله تعالى إمامًا ورعًا زاهدًا، مالت القلوب بالمحبة إليه، وأجمعت الفرق عليه، كانت مجالس تذكيره الناس عامة نافعة، وللقلوب صادعة).
وقال برهان الدين ابن مفلح: (الشيخ العلامة، الحافظ، الزاهد، شيخ الحنابلة).
وسماه المرداوي في مواطن من الإنصاف بـ (العلامة ابن رجب).
- مصنفاته:
للحافظ ابن رجب ﵀ مصنفات كثيرة نافعة، منها ما هو كبير، ومنها ما هو صغير، قال ابن العماد الحنبلي: (له مصنفات مفيدة ومؤلفات عديدة)، وغالبها مطبوع، ومنها ما هو مفقود، ومن تلك المصنفات:
١ - "فتح الباري في شرح البخاري"، شرح منه إلى كتاب الجنائز، وهو مطبوع.
٢ - "شرح الترمذي"، وقد احترق غالب ما عمله عليه في الفتنة، وقد وُجدت منه قطعة صغيرة، ووجد شرحه على كتاب العلل من الجامع، وهما مطبوعان.
٣ - "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف"، وهو مطبوع.
٤ - "ذيل طبقات الحنابلة"، ذيَّله على طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى، وهو مطبوع.
1 / 13
٥ - "صفة الجنة وصفة النار"، وهو مطبوع.
٦ - "الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة"، وهو مطبوع.
٧ - "جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم"، وهو مطبوع.
٨ - "ذم قسوة القلب"، وهو مطبوع.
٩ - "فضل علم السلف على الخلف"، وهو مطبوع.
١٠ - "تقرير القواعد وتحرير الفوائد"، وهو كتابنا هذا.
وغيرها من المصنفات في الحديث والرقائق والفقه، قال ابن قاضي شهبة: (وغير ذلك من المصنفات الكبار والصغار).
- وفاته:
توفي ليلة الاثنين رابع رمضان، سنة (٧٩٥ هـ) بأرض الحميرية بدمشق، ببستان كان استأجره، وصُلي عليه من الغد، ودفن بباب الصغير إلى جانب قبر الشيخ أبي الفرج الشيرازي، وكانت له جنازة عظيمة كما قال أحد تلميذه فيما سطَّره على طرة مخطوط القواعد، ﵀ رحمة واسعة وأعلى درجته، وأسكنه فسيح جنته.
قال محب الدين ابن نصر الله البغدادي - كما في طرَّة المخطوط المرموز له في طبعتنا بـ (ن) - فيما كتبه بخطه ونقله عنه تلميذه ابن هشام الأنصاري: (ولا أظن - يعني المصنف - بلغ سبعين سنة، ولم أقف على مولده، ولكني قرأت عليه حديث الأولية في سنة ست وثمانين - يعني: وسبعمائة -، وسألته أن يكتب لي خطه بالإجازة،
1 / 14
فامتنع رحمه الله تعالى استصغارًا لنفسه عن بلوغ سن الإجازة بالكتابة، وأجازني لفظًا، وكان سنُّه إذ ذاك عن نيف وخمسين سنة فيما أظن).
وما ذكره محب الدَّين البغدادي صحيحٌ، فإن غالب المصادر ذكرت أن مولده سنة (٧٣٦ هـ)، ووفاته (٧٩٥ هـ)، وعلى هذا فسنُّه لما مات ٥٩ سنة، رحمه الله تعالى.
ونقل ابن المبرد أنه قرأ في كتابه القواعد، أن ابن رجب ﵀ قال عند خروج روحه ثلاثين مرة: (يا الله العفو).
1 / 15
التعريف بالكتاب
- توثيق نسبة الكتاب:
لا شك في نسبة هذا الكتاب للحافظ زين الدين ابن رجب رحمه الله تعالى، إذ إن سائر من ترجم له ذكر له كتاب القواعد، وذكره المصنف في بعض كتبه الأخرى كفتح الباري في مواطن متعددة، ونقل عنه محققو المذهب ممن أتى بعد؛ كتلميذه ابن اللحام البعلي، ومحب الدين ابن نصر الله البغدادي، وعلاء الدين المرداوي في كتابه العظيم الإنصاف، وجعله من جملة ما يُعتمد عليه في تصحيح المذهب، ونقل عنه المتأخرون كالحجاوي في الإقناع، ومرعي في الغاية، ومنصور البهوتي، والخلوتي، وعثمان النجدي، وغيرهم.
إلا أن ثمة كلمة نقلها ابن المبرد عن مجهولٍ؛ شكَّكت في كون الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى هو الذي كتب القواعد بنفسه، حيث قال: (وكتاب "القواعد الفقهية"، مجلد كبير، وهو كتاب نافع، من عجائب الدهر، حتى أنه استكثر عليه، حتى زعم بعضهم أنه وجد قواعد مبددة لشيخ الإسلام ابن تيمية فجمعها، وليس الأمر كذلك، بل كان رحمه الله تعالى فوق ذلك) (^١).
_________
(^١) الجوهر المنضد ص ٤٩.
1 / 16
وهذا كلام عارٍ عن الدليل، وبعيدٌ أيما بعد عن الصواب، وقد يكون الباعث عليه الجهل أو الحسد، وبيان بطلان ذلك من وجوه:
١ - أنها دعوى لا يُعرف قائلها، ولم يذكر عليها دليلًا، والدعاوى إن لم يُقَم عليها بينات؛ أصحابها أدعياء.
٢ - أن ناقل هذا الكلام وهو ابن المبرد ﵀ لم يرتض المقولة وردَّ عليها بقوله: (بل كان رحمه الله تعالى فوق ذلك).
٣ - أن القارئ لترجمة الحافظ ابن رجب وما كان عليه من الديانة والزهد والتقلل من الدنيا، وكراهيته لذكر الناس، وإمساكه عن الكلام أحيانًا خشية ألا يكون مخلصًا فيه، مع ما ذُكِر عنه من التمكن في فقه الإمام أحمد، خاصة وسائر العلوم عامة؛ ما يستحيل معه أن يسرق قواعد لشيخ الإسلام ابن تيمية ثم يقوم بنسبتها لنفسه على أنها من تأليفه؛ فديانته وعلمه ومكانته بل ومروءته تأبى مثل ذلك.
٤ - أن كتاب القواعد قد قرأه عليه تلاميذه أكثر من مرة، ونسخوه وعلقوا عليه وبينوه، ومن هؤلاء محب الدين ابن نصر الله البغدادي شيخ الحنابلة في زمانه، وعلاء الدين ابن اللحام البعلي، وغيرهما، ولا يُعرف عن واحد منهم إنكار أن يكون الكتاب لابن رجب، بل صنيعهم صريح في صحة كون الحافظ هو الذي صنعه بيده.
٥ - أن الحافظ ابن رجب أورد كلام شيخ الإسلام في مواطن كثيرة جدًّا من كتابه القواعد، وفي كثير من تلك المواطن يعترض عليه، أو يجيب عن استدلاله، أو يخطئه، أو يستشكل عليه، أو يعضد كلامه
1 / 17
بكلام غيره من الأصحاب أو بالروايات الواردة عن الإمام أحمد، ونَفَسه في تلك المواطن هو ذات النفس الذي كُتب فيه كتاب القواعد من قوة التحرير والعبارة والدقة والتخريج والتوجيه.
وغير ذلك من الأمور القاطعة بأن الكتاب من صنعة الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى، ولعل الباعث على قول ما قاله ذلك المجهول هو الحسد؛ فإن الحافظ ابن رجب ألف الكتاب في أواسط العقد الثالث من عمره، أي قبل بلوغه سن الأربعين، ومثل هذا إذا كتب كتابًا يعدُّه من بعده من عجائب الدهر؛ سببًا لحسد غيره عليه والله المستعان، وإنما كتبنا ذلك دفاعًا عن الحافظ ابن رجب، وحفظًا لحقه علينا.
- توثيق اسم الكتاب:
جاءت تسمية الكتاب - عند بعض من ترجم للحافظ ابن رجب - باسم: (القواعد الفقهية)؛ كابن مفلح في المقصد الأرشد، وابن المبرد في الجوهر المنضد، وابن العماد في شذرات الذهب، وغيرهم، وقد جاء هذا الاسم في بعض النسخ الخطية المتأخرة.
وسماه ابن بدران في المدخل بـ (القواعد)، وجاء هذا الاسم في بعض النسخ الخطية المتأخرة أيضًا.
وجاءت تسميته في بعض النسخ الخطية بـ (قواعد ابن رجب الفقهية)، وبعضها باسم (قواعد الإمام ابن رجب في الفقه)، وغير ذلك من الأسماء.
وسماه ابن رجب في فتح الباري في مواطن متعددة (٥/ ٢٥٨،
1 / 18
٦/ ١٤٣، ٨/ ١٠، ٩/ ٤٧٣) باسم: (القواعد في الفقه)، وجاءت تسميته هكذا في نسخة ابن ضويان المرموز لها عندنا بـ (هـ).
وجاءت تسميته في النسخ المعتمدة الأخرى في تحقيقنا باسم: (تقرير القواعد وتحرير الفوائد)، وغالب هذه النسخ - كما سبق بيانه - من خطوط تلاميذ المصنف؛ كعلاء الدين ابن اللحام، وابن العفيف النابلسي، والشباسي، وهو الاسم المكتوب في طرة النسخة المقروءة على المصنف وعليها خطُّه.
وعلى هذا؛ فيكون الاسم المعتمد هو (تقرير القواعد وتحرير الفوائد)، وما ذكره ابن رجب في كتابه فتح الباري هو اختصار لاسم الكتاب.
وجاءت زيادات على هذا الاسم في بعض النسخ الخطية، ففي النسخة المقروءة على المصنف زيادة: (في الفقه على مذهب الإمام المبجل أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني ﵁.
وفي نسخة الشباسي - المرموز لها بـ (ن) -: (في الفقه على مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني ﵁ وعن أمة مذهبه).
وفي نسخة ابن العفيف التلمساني - المرموز لها بـ (د) -: (على مذهب الإمام المبجل والحبر المفضل أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ﵁.
ولا يظهر أن هذه الزيادات من اسم الكتاب؛ للاختلاف بين النسخ
1 / 19
في ذكرها، ولأن ابن اللحام في نسخته ذكر اسم الكتاب في أوله وآخره، واقتصر على الاسم المذكور آنفًا.
• مكانة كتاب القواعد، وثناء العلماء عليه:
قال ابن حجر: (و"القواعد الفقهية" أجاد فيه) (^١).
وقال برهان الدين ابن مفلح: (و"القواعد الفقهية" تدلُّ على معرفةٍ تامّةٍ بالمذهب) (^٢)، وتبعه على هذه الكلمة ابن العماد في شذرات الذهب، وابن بدران في مدخله (^٣).
وقال ابن المبرد: (وكتاب "القواعد الفقهيّة" مجلد كبير، وهو كتاب نافع من عجائب الدَّهر) (^٤).
وكتب الشيخ سليمان بن حمدان على طرَّة نسخته للقواعد: (هذا الكتاب لو يباع بوزنه ذهبًا لكان البائع مغبونًا) (^٥).
وقال الشيخ ابن عثيمين: (لقد حوى من الحُسْن وجَمْعِ المعاني ما به عن غيره تفرد، وصل فيه قواعد بنى عليها من فروع الفقه ما تبدَّد) (^٦).
ونقل عنه المرداوي في الإنصاف كثيرًا، وجعله من الكتب المعتبرة
_________
(^١) الدرر الكامنة ٣/ ١٠٩.
(^٢) المقصد الأرشد ٢/ ٨٢.
(^٣) شذرات الذهب ٨/ ٥٧٩، المدخل ص ٤٥٧.
(^٤) الجوهر المنضد ص ٤٩.
(^٥) محفوظة في مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم (٢١٩٩).
(^٦) نيل الأرب من قواعد ابن رجب ص ١٥.
1 / 20
في تمييز راجح المذهب، بل ومن الكتب الأولى في تصحيح المذهب، قال في مقدمة الإنصاف: (فالمذهب ما اتفق عليه الشيخان، - أعني المصنف والمجد -، أو وافق أحدهما الآخر في أحد اختياريه، - وهذا ليس على إطلاقه، وإنما هو في الغالب -، فإن اختلفا، فالمذهب مع من وافقه صاحب «القواعد الفقهية»، أو الشيخ تقي الدين، وإلا فالمصنف، لاسيما إن كان في «الكافي»، ثم «المجد» .... فإن لم يكن لهما ولا لأحدهما في ذلك تصحيح؛ فصاحب «القواعد الفقهية») (^١).
ثم إن الحافظ ابن رجب ﵀ أكثر من ذكر الروايات عن الإمام أحمد بنصوصها وبيان ناقلها، ووجَّهها وجمع بينها، ونقد بعضها، وذكر كلام المتقدمين من الأصحاب؛ كالخلال، وأبي بكر عبد العزيز، والخرقي، وابن شاقلا، والحسن بن حامد، وابن أبي موسى، والقاضي أبي يعلى وأصحابه، والموفق، والمجد، والشيخ تقي الدين، وغيرهم، وذكر استنباطاتهم من الروايات وتخريجاتهم وقوى بعضها ونقد بعضها، فهو كتاب جامع محرر يدل على سعة اطلاع، ومكنة، وتوقد ذهن.
- طبعات الكتاب:
طُبع الكتاب طبعات عديدة، وهي:
١ - طبعة مكتبة الخانجي في القاهرة، بتحقيق الأستاذ طه عبد الرؤوف سعد، سنة ١٣٥٢ هـ.
_________
(^١) الإنصاف ١/ ٢٥.
1 / 21
٢ - طبعة دار المعرفة في بيروت - لبنان، وعن هذه الطبعة:
- طبعة دار الكتب العلمية في بيروت.
- طبعة المكتبة التجارية لمصطفى الباز في مكة المكرمة.
- طبعة دار الجيل في بيروت.
- طبعة دار أم القرى في القاهرة.
٣ - طبعة دار ابن القيم وابن عفان، بتحقيق الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان وفقه الله.
٤ - طبعة بيت الأفكار الدولية، بتحقيق الشيخ أياد بن عبد اللطيف القيسي وفقه الله.
كما أن الكتاب حقق في خمس رسائل علمية، اثنتان في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وثلاث في جامعة القصيم، على فترات متطاولة.
- الأعمال العلمية على الكتاب:
عُني العلماء بعد ابن رجب بكتابه، فقام جماعة منهم بالتحشية عليه وفهرسته واختصاره، وقد ذكر ذلك من عُني بترجمته، وبعضها موجود وبعضها مفقود لا أثر له - يسر الله العثور عليه -، فمن ذلك:
١ - مختصر قواعد ابن رجب، لعبد الرزاق الحنبلي - تلميذ ابن اللحام -، المتوفي سنة (٨١٩ هـ)، ذكر ذلك ابن المبرد (^١).
٢ - مختصر وتهذيب قواعد ابن رجب، ليوسف بن عبد الرحمن
_________
(^١) الجوهر المنضد ص ٦٩.
1 / 22
التاذفي الحلبي الحنبلي، المتوفى سنة (٩٠٠ هـ).
قال في إعلام النبلاء: (ووقف على قواعد ابن رجب في مذهب الحنابلة، فإذا هو كتاب يفتقر إلى التهذيب وحسن الترتيب، فهذبه تهذيبًا ورتبه ترتيبًا عجيبًا، وعرض ما وضعه وهو يومئذ بالقاهرة على الإمامين الجليلين الحنبليين: الشهاب أحمد الشيشني والبدر محمد السعدي، فقرظا له تقريظًا حسنًا) (^١).
٣ - مختصر قواعد ابن رجب، لعبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، المتوفى سنة (١١٢١ هـ)، ذكره الشيخ بكر أبو زيد (^٢).
وبحثنا عنه فلم نقف عليه، ووقفنا على مخطوط لترتيب القواعد لنصر الله البغدادي في مكتبة الصالحية في عنيزة برقم (ابن رشيد/٣) من ضمن مجموع يضم معه: زاد المستقنع والرسالة التبوكية وغيرهما، وتقع هذه الرسالة من المجموع من لوحة (١٨) إلى (٢٦)، وهي غير كاملة، مكتوب في طرته: (من كتب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، وهي وقف)، فلعل من نسب للشيخ مختصرًا للقواعد وقع على هذه النسخة فظنها مختصرًا للشيخ أبا بطين ﵀.
٤ - فهرست قواعد الفقه لابن رجب الحنبلي، للشيخ إبراهيم ابن ضويان، المتوفى سنة (١٣٥٣ هـ)، في أول نسخته لكتاب القواعد المرموز لها في تحقيقنا بـ (هـ).
_________
(^١) إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء ٥/ ٣٢٧.
(^٢) المدخل المفصل ٢/ ٩٣٥.
1 / 23
وطريقته فيه: أنه يذكر القاعدة اختصارًا ويذكر بجانبها فروعها باختصار أيضًا، وقد وصل فيه إلى القاعدة رقم (٩٥)، وهي: (من أتلف مال غيره يظنه له …).
٥ - ترتيب المقاصد بترتيب الفرائد، للشيخ سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان، المتوفى سنة (١٣٧٩ هـ)، ونسخته محفوظة في مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم (٢٢٤٥/خ)، وعدد أوراقه (٨٢ ق)، والموجود منه القسم الأول إلى مسائل الكفالة والضمان.
قال في مقدمته مبيِّنًا سبب تأليفه وطريقته فيه، بعد أن أثنى على قواعد ابن رجب: (إلا أن درره الكامنة في أصدافها، ومسائله وفوائده المطلوب اكتشافها؛ يحتاج إلى فكر وإعمال روية، وربما تعذر ذلك على غير الفقيه الأصولي بالكلية، حتى يتبعها قاعدة قاعدة، ومسألة مسألة، ولما لم أر من أصحابنا من رتَّبه، وذلَّل صعابه للطالبين وقرَّبه؛ بوبته ورتبته على ما مشى عليه متأخرو أصحابنا في كتبهم من ترتيب الأبواب والمسائل؛ ليسهل الوقع على تلك الفوائد، والحصول على تلك الفرائد الشوارد، وإن القاعدة الواحدة منها تجمع مسائل مفرعة عليها من أبواب شتى، وضعتها في أول باب يكون فيها شيء من مسائله، ثم أتبعتها بتلك المسألة؛ لأن للأولية وجهًا من الأولوية، ولأن فيه فائدة أخرى وهي المحافظة على وضعها الأصلي، بحيث تكون مسائلها المفرعة عليها فيما بعدها من الأبواب غير مقدم عليها شيء
1 / 24