قطرتان: من النثر والنظم
قطرتان: من النثر والنظم
اصناف
وليس من موجب للإشارة إلى الأدب بصفة عامة بعد الإشارة إلى الشعر خاصة سوى الرغبة في التوكيد بأن الشاعر الحي القوي يستطيع أن يستوعب في شعره جميع فنون الأدب ما دامت عنده القابلية لذلك، ولا أعني بالشاعر الحي القوي فردا بالذات بل مجموع الطاقة الشعرية العالمية (ما دامت أذواق الشعراء تختلف) فإذا جمعنا من هومر وشكسبير وملتون ودانتي وجيته وكولردج وبيرون وشيللي وكيتس وهيني وشيللر وهوجو ولامارتين ودي موسيه والفردوسي وتنيسون وابن الرومي وبشار والشريف الرضي وأضرابهم الطاقة الشعرية الإنسانية العامة استطعنا أن نقول في غير مبالغة إن ميادين الشعر لا حدود لها وإن الشعر قادر كل القدرة على أن يغير على جميع ميادين الأدب متى وجدت المناسبات القوية والملاءمة القوية مع الشاعر.
وأما الفلسفة فغايتها معرفة قوانين الحياة وعلل كل شيء؛ ولذلك اختلف تعريفها وتطبيقها في شتى العصور، أي منذ عدها فيثاغورس الرغبة الخالصة في المعرفة إلى زمننا هذا حيث أصبحت الفلسفة رسول التوفيق بين شتى العلوم مع فحص الفكر الإنساني والذاتية الإنسانية، وهكذا أخذت الفلسفة تشمل علوما كثيرة في أبحاثها وانتهت إلى صميم الإنسان، ولما كان من أظهر خصائص الشعر العالمي أن لا يفرق ما بين العاطفة والفكر في استيعابه فلا عجب إذا وجدنا شأن الفلسفة مع هذا الشعر شأن الأدب العام، حتى ذهب بروننج إلى القول بأن الفلسفة تأتي قبل الشعر الذي يعده أسمى خلاصة لها، ونلمح مثل هذا الرأي حتى من وردزورث شاعر الطبيعة المشهور وقد أجمع أكبر النقاد على أن الغاية الفلسفية العظمى هي حلية أسمى الأدب وأسمى الشعر.
حياة اللغة
بماذا تحيا اللغة العربية بل أية لغة؟ هذا هو السؤال المعقول الذي يجب أن يوجهه كل غيور على لغة الضاد إلى نفسه وإلى زملائه الحريصين على حياتها حياة كريمة، ثم يتعاون على تحقيق الجواب الطبيعي على سؤاله.
إن حياة اللغة تترتب بلا جدال على انتشار استعمالها كما تترتب على ثروتها المتنوعة التي تضمن لها الكرامة وزيادة الانتشار والنفوذ، فاللغة الهيروغليفية مثلا لغة ميتة لأنها الآن غير مستعملة ولأن ثروتها محدودة ومقصورة على جانب من التاريخ بعد أن اندثر حماتها فانقطعت عن مجاراة الحضارة والثقافة، واللغة الإنجليزية لغة حية في وقتنا الحاضر لأنها لسان من ألسنة الحضارة الحديثة ولأنها واسعة الثقافة المتنوعة وقد رعتها السياسة والعلاقات الاقتصادية والأممية في الإمبراطورية الإنجليزية وفي البلاد الموالية للتاج البريطاني وفي الولايات المتحدة فأصبحت لغة عالمية.
وإذا نظرنا إلى لغتنا العربية لغة القرآن الكريم فهي لغة مقدسة في نظر الملايين من المسلمين، ولها تبعا لذلك كرامة بل قداسة مضمونة البقاء ما دام علم الإسلام مرفوعا، ولكنها بالرغم من ذلك لا يمكن أن تصبح لسانا من الألسنة العالمية بالمعنى الصحيح ولا يمكن أن تكون نابضة بالحياة القوية بدل الحياة الطويلة فقط ما لم تتنوع ثروتها بحيث تشمل جميع مرافق الحياة المشتبكة، يجب أن تكون اللغة العربية لغة علم وأدب وفن وفلسفة وسياسة واقتصاد وثقافة شاملة، غير مقصورة على مصالح قطر دون قطر، وأن يتوفر على التأليف بها أعلام، وأن تنقل إليها أشهر التصانيف العالمية في كل باب، بهذه الخطة وحدها تجمع اللغة بين الكرامة الصحيحة وبين الحياة القوية المستمرة، لأن أبناءها لن يشعروا في أي وقت بعجزها وضعفها ولا بفقرها، وإنما يحسون دائما أنها ذات ثروة مزدادة وتاريخ مجيد ومرونة حميدة فيعتزون بها ويتطوعون لنشرها ولا يرتضون عنها بديلا.
فمع إجلالي للغة الإنجليزية المتمكنة في مصر ومع محبتي لها أرى أنه واجب حتم علينا تنفيذا لخطتنا في حماية لغتنا الوطنية وضمان حياتها أن نجعلها - بغير قيد ولا شرط - لغة التعليم في جميع المدارس، وأن نتوفر على الترجمة إليها دون انقطاع، فإننا الآن في دور يجب أن تقدم فيه الترجمة على التأليف ما لم يكن التأليف أصيلا بالمعنى الصحيح، وهذا لا ينافي العناية بتدريس اللغة الإنجليزية وتمكين الطلاب منها لينتفعوا بها في زيادة معارفهم من المصنفات الإنجليزية.
وبديهي مما تقدم أني أنتصر للغة الفصحى فإن قواعدها ومعاجمها وذخائرها تجعلها قابلة للتوحيد في العالم العربي، أقول هذا في صراحة تامة لأني أومن بإمكان تهذيب لغة التخاطب تدريجيا حتى تتلاقى واللغة الفصحى - لغة الكتابة - تبعا لانتشار التعليم وازدياد الصحف والمجلات الشعبية، كذلك أصرح بأني أومن بواجب الحرص على خير تقاليد لغتنا الشريفة، بشرط أن لا يكون حرصا غبيا يقف في سبيل الاجتهاد والإبداع، فلولا الاجتهاد والإبداع في العصور الماضية لما بلغت اللغة العربية ما بلغته من عزة سابقة، وليس الوقوف إلا مرادفا للفناء.
يجب علينا التبحر في دراسة لساننا المبين، ثم علينا بعد ذلك أن نكون محسنين إليه بإنتاجنا الصالح من ترجمة وتأليف، واضعين نصب أعيننا أن نزكي باستمرار عن معارفنا وأن نحسن استعمال أدواتنا اللغوية التي أتقناها في خدمة الثقافة العامة، يجب على الأهالي وعلى الحكومة معا التساند في وضع المعاجم الحديثة الكبرى ودوائر المعارف المنوعة وتنظيم الترجمة الشاملة إلى اللغة العربية حتى يحمد لنا الجيل التالي هذا الصنيع الجبار، وحتى يتابعه هو بهمة أجل وأسد، وهكذا تنتقل هذه الرسالة الثقافية العظيمة من جيل إلى جيل، وتمتد شعلتها إلى الأقطار العربية الأخرى، وبذلك نمهد للغة العربية مستقبلا نيرا باهرا.
أما واجب المثقفين من أبناء الضاد الكاتبين نثرا أم نظما فواضح صريح، ألا وهو الإنتاج في جراءة وحسن اختيار متطلعين إلى الغرب الذي سبقنا بمراحل تطلع الغيور على قوميته ولغته، إن الإنجليز يفرحون ويعتزون بكل ما ينقل إلى لغتهم من تراث العرب والصينيين واليابانيين وشتى الأمم الأخرى لأنهم يعتبرون هذا النقل بمثابة دليل جديد على عالميتها، فيجب على متنورينا أن لا يصغوا إلى فقهائنا الجامدين الذين يأبون أن يشحذوا أذهانهم، وكل حظهم أن يعيشوا على إحسان الأموات! وإلا فبأي منطق يستصغرون ترجمة آثار شكسبير بينما الإنجليز لا يستصغرون ترجمة الشعر العربي القديم ورباعيات الخيام ونحوها، بل يعدونها - متى ترجمت إلى لغتهم - جزءا من آدابهم؟!
نامعلوم صفحہ