راح الوزير عبيد الله بن سليمان يجوس خلال حجرات القصر الحسني على شاطئ دجلة، يصحبه محمد بن الشاه بن ميكال صاحب حرس الخليفة، وبدر المعتضدي صاحب الشرطة، وكان القصر قد هيئ وفرش وجددت آلته، فعاد خيرا مما كان يوم ابتناه بانيه الأول جعفر بن يحيى البرمكي منذ قرن أو يزيد.
15
وكان الخليفة قد اشتهى أن يجعله قصر الخلافة، فبعث إلى «بوران بنت الحسن» زوج المأمون يستنزلها عنه - وكان قد صار إليها عن أبيها الحسن بن سهل - فلما بعث إليها استنظرته أياما في تفريغ القصر وتسليمه، ثم رمته وعمرته وجصصته وبيضته، وفرشته بأجل الفرش وأحسنه، وعلقت أصناف الستور على أبوابه، وملأت خزائنه بكل ما يخدم به الخلفاء، ورتبت فيه من الخدم والجواري ما تدعو الحاجة إليه، فلما فرغت من ذلك كله انتقلت منه، وكتبت إلى الخليفة تدعوه إليه.
ووقف الوزير وصاحباه يديرون النظر لحظة فيما تقع عليه أعينهم من آيات الترف والنعمة في هذا القصر العتيق، ويعتبرون عبرة الماضي الحافل فيما مر به وما شهده من أيام الدولة الباقية منذ كان لجعفر بن يحيى، ثم للمأمون، ثم لبوران بنت الحسن.
وكأنما اجتمع الثلاثة على خاطر واحد في لحظة واحدة حين اقترب منهم شيخ هم يدب على عكازته، قد تقوس ظهره ومال رأسه ونحلت فروته وسقط حاجباه على عينيه، فحيا ووقف، وابتسم الوزير وقال وفى صوته نبرة عطف: «أراك بخير يا أبا يحيى.»
قال الشيخ : «لا زال خيرك ممدود الظلال يامولاي.»
قال الوزير باسما: «إن قصرك يا أبا يحيى يوشك أن يشهد جديدا ينسيك ما تحرص عليه من ذكريات الماضي كله.»
فهز الشيخ رأسه أسفا، وهو يقول: «هيهات ياسيدي، ذاك زمان قد مضى بأهله.»
وكان أبو يحيى هذا شيخا قد حطم المائة وضرب في المائة الثانية، وكان له ولأبيه من قبله ماض في خدمة البرامكة، ثم انحاز إلى المأمون فكان في حاشيته، ثم وهبت له بوران - وهي زوج المأمون - بعض جواريها فولدت له، فلما تقدمت به السن وانتقلت الدولة، اتخذ له بيتا في دهليز القصر الحسني لم يزل مقيما به منذ كان، فإنه ليرى نفسه أولى الناس بالانتساب إلى هذا القصر، أليس قد عاش فيه يوما غلاما لجعفر بن يحيى، ثم حاشية للمأمون، ثم صهرا وجارا لبوران؟ ...
وكأنما كان هذا الشيخ من طول ملازمته للقصر جزءا منه ودليلا عليه، كالحجر المكتوب على البناء العتيق، يعرف به كل من عبر، ... وكأنما أراد الله أن يعمر هذا العمر المديد؛ ليكون رواية ناطقة لأعظم آيتين من آيات الجاه والغنى والنعيم في الدولة العباسية كلها: آية البرامكة وآية بوران!
نامعلوم صفحہ