Qatf al-Jani ad-Dani Sharh Muqaddimat Risalat Ibn Abi Zayd al-Qayrawani
قطف الجني الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني
ناشر
دار الفضيلة،الرياض
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٢٣هـ/٢٠٠٢.
پبلشر کا مقام
المملكة العربية السعودية
اصناف
قطف الجنى الداني شرح مقدِّمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني
تأليف: عبد المحسن بن حَمَد العبَّاد البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين، الرَّحمن الرَّحيم، مالكِ يوم الدِّين، وأشهدُ أن لا إله إلاَّ اللهُ وحده لا شريك له، إلهُ الأوّلِين والآخِرِين، وقيُّومُ السَّموات والأرَضِين، وأشهدُ أنَّ محمّدًا عبدُه ورسولُه، سيِّدُ المرسلِين، وإمامُ المتّقين، وقائدُ الغُرِّ المحجَّلين، المبعوث رحمةً للعالمين، صلّى اللهُ وسلّم وبارك عليه، وعلى آله الطيّبين الطّاهرين، وأصحابِه الغُرِّ الميامين، الذين حفظ اللهُ بهم المِلَّةَ، وأظهر الدّين، وعلى مَن اتَّبعهم بإحسانٍ وسار على نهجهم إلى يوم الدّين.
أمَّا بعد، فإنَّ عقيدةَ أهل السنَّة والجماعة تمتازُ بالصّفاءِ والوضوحِ والخلوِّ مِن الغموض والتعقيد، وهي مستمدَّةٌ مِن نصوصِ الوحي كتابًا وسنَّةً، وكان عليها سلفُ الأمّة، وهي عقيدةٌ مطابقةٌ للفطرة، ويقْبَلُها العقلُ السليمُ الخالي مِن أمراضِ الشُّبهات، وذلك بخلاف العقائد الأخرى المتلقَّاةِ مِن آراء الرِّجال وأقوالِ المتكلِّمين، ففيها الغموضُ والتعقيدُ والخبطُ والخلط، وكيف لا يكون الفرقُ كبيرًا والبَونُ شاسعًا بين عقيدةٍ نزل بها جبريلُ مِن الله إلى رسولِه الكريم ﷺ وبين عقائد متنوِّعة مختلفة خرج أصحابُها المبتدعون لها مِن الأرض، وخلقهم اللهُ من ماءٍ مهينٍ.
فعقيدةُ أهل السنَّة والجماعة بَدَتْ وظهرتْ مع بعثة النَّبِيِّ ﷺ ونزولِ الوحي عليه مِن ربِّه تعالى، وسار عليها الرسول ﷺ وأصحابُه الكرام ومَن
1 / 5
تبعهم بإحسان، والعقائدُ الأخرى لا وجود لها في زمن النبوَّة، ولم يكن عليها الصحابةُ الكرام، بل قد وُلد بعضُها في زمانهم، وبعضُها بعد انقراض عصرهم، وهي مِن محدثاتِ الأمور التي حذّر منها الرسولُ ﷺ، فقال: "وإيّاكم ومحدَثاتِ الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدَثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة"، وليس مِن المعقول ولا المقبول أن يُحجب حقٌّ عن الصحابة الكرام ﵃ وأرضاهم، ويُدَّخَر لأُناسٍ يجيئون بعد أزمانهم، فتلك العقائد لو كان شيءٌ منها خيرًا لسبق إليه الصحابةُ، ولكنَّها شرٌّ حفِظهم اللهُ منه، وابتُليَ به مَن بعدَهم.
والحقيقة الواضحة الجليَّة أنَّ الفرقَ بين عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة المتلقَّاة من الوحي، وبين عقائد المتكلِّمين المبنيَّة على آراء الرجال وعقولهم، كالفرق بين الله وخَلقه، ومثل ذلك ما يكون به القضاء والحكم، فإنَّه يُقال فيه: إنَّ الفرقَ بين الشريعة الإسلامية الرفيعة المنَزَّلة من الله على رسوله ﷺ، وبين القوانين الوضعيَّة الوضيعة التي أحدثها البشر، كالفرق بين الله وخَلقه، ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾، فما بال عقول كثير من الناس تغفلُ عن هذه الحقيقة الواضحة الجليَّة فيما يُعتقد، والحقيقة الواضحة الجليَّة فيما يُحكم به، فيستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟!
اللهمَّ اهْد مَن ضلَّ من المسلمين سُبُلَ السلام، وأخرجه من الظلمات إلى النور، إنَّك سميعٌ مجيب.
وقد ألَّف علماءُ السنَّة قديمًا وحديثًا مؤلَّفاتٍ تُوَضِّح عقيدةَ أهل السنَّة والجماعة، منها ما هو مختصَرٌ، ومنها ما هو مطوَّلٌ، وكان مِن بين هذه
1 / 6
المختصرات مقدِّمةُ الإمام ابنِ أبي زيد القيرواني المالكي لرسالته، ومقدِّمةُ رسالته على طريقة السلف مختصَرةٌ مفيدة، والجمعُ بين الأصول والفروع في كتاب واحد نادرٌ في فعل المؤلِّفين، وهو حَسَن، يجعل المشتغلَ في فقه العبادات والمعاملات على علمٍ بالفقه الأكبر، الذي هو العقيدةُ على طريقة السلف.
وهي مع وَجازَتها وقلَّة ألفاظها تبيِّن بوضوحٍ العقيدةَ السليمة المطابقة للفطرة، المَبنيّة على نصوص الكتاب والسنّة، وهي شاهدٌ واضحٌ للمَقولة المشهورة: إنَّ كلامَ السّلف قليلٌ كثيرُ البركة، وكلام المتكلِّمين كثيرٌ قليلُ البركة.
ومِن أمثلة ما في هذه المقدِّمة مِن النَّفي المتضمِّن إثباتَ كمالٍ لله تعالى قولُه في مطلع هذه المقدِّمة: "إنَّ الله إلَهٌ واحدٌ لا إله غيرُه، ولا شبيهَ له، ولا نَظيرَ له، ولا وَلَدَ له، ولا وَالِدَ له، ولا صاحبةَ له، ولا شريكَ له".
فإنَّ هذه المنفيّات عن الله ﷿ مستمَدَّةٌ مِن الكتاب والسنّة، وهذا بخلاف النّفي في كلام المتكلِّمين، فإنَّه مبنيٌّ على التّكلُّف، ومتّصفٌ بالغموض، ومِن أمثلة ذلك ما جاء في العقائد النسفيّة قول مؤلِّفها: "ليس بعَرض، ولا جسم، ولا جوهر، ولا مصوّر، ولا محدود، ولا معدود، ولا متبعّض، ولا متجَزّ، ولا متركّب، ولا متناه".
وهذه المنفيّات لَم يأت بالنَّصِّ عليها كتابٌ ولا سنّة، والواجبُ السّكوتُ والإمساكُ عمَّا لم يدلَّ عليه دليلٌ مِن الوحي، واعتقاد أنَّ اللهَ متَّصِف بكلِّ كمالٍ، منَزَّهٌ عن كلِّ نقصٍ، ومثلُ هذه السلوب لا يفهمها العوامُّ، ولا تطابق الفطرةَ التي هم عليها، وهي مِن تكلُّف المتكلِّمين، وفيها
1 / 7
غموضٌ وتلبيسٌ؛ يتّضح ذلك بالإشارة إلى واحدٍ منها، وهو نفيُ الجسم، فإنَّه يحتمل أن يُراد به ذاتٌ مشابهة للمخلوقات، وعلى هذا الاحتمال يُردّ اللفظُ والمعنى جميعًا؛ لأنَّ اللهَ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وإن أُريد به ذاتٌ قائمةٌ بنفسها، مباينةٌ للمخلوقات، متّصفةٌ بصفات الكمال، فإنَّ هذا المعنى حقٌّ، ولا يجوز نفيُه عن الله، وإنَّما يُردّ هذا اللفظ لاشتماله على معنى حقّ ومعنى باطل.
وسيأتي في كلام المقريزي (ص: ١٤، ١٥) قولُه عن الصحابة: "فأثبتوا ﵃ بلا تشبيه، ونزّهوا مِن غير تعطيل، ولم يتعرّض مع ذلك أحدٌ منهم إلى تأويل شيء مِن هذا، ورأوا بأجمعهم إجراءَ الصفات كما وردت، ولم يكن عند أحدٍ منهم ما يستدلُّ به على وحدانيَّة الله تعالى وعلى إثبات نبوَّة محمّد ﷺ سوى كتاب الله، ولا عرف أحدٌ منهم شيئًا مِن الطرق الكلامية ولا مسائل الفلسفة".
وسيأتي أيضًا في كلام أبي المظفّر السمعاني (ص: ١٦) قولُه في بيان فساد طريقة المتكلِّمين: "وكان مِمَّا أمر بتبليغه التوحيد، بل هو أصلُ ما أمرَ به فلم يترك شيئًا من أمور الدِّين أصولَه وقواعدَه وشرائعَه إلاَّ بلَّغه، ثمَّ لَم يَدْعُ إلى الاستدلال بما تَمسَّكوا به من الجوهر والعرض، ولا يوجد عنه ولا عن أحد من أصحابه من ذلك حرفٌ واحدٌ فما فوقه، فعُرف بذلك أنَّهم ذهبوا خلافَ مذهبهم وسلكوا غيرَ سبيلهم بطريق مُحدَث مُخترَع لم يكن عليه رسول الله ﷺ ولا أصحابُه ﵃، ويلزم من سلوكه العودُ على السلف بالطعن والقَدْح، ونسبتهم إلى قلَّة المعرفة واشتباه الطرق، فالحذر من الاشتغال بكلامهم والاكتراث بمقالاتهم؛ فإنَّها سريعةُ التهافت كثيرةُ التناقض"، وقولُ أبي المظفّر السمعاني هذا أورده الحافظ ابن
1 / 11
حجر في كتاب فتح الباري في شرح قول البخاري: "باب قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾، ونقل فيه (١٣/٥٠٤) عن الحسن البصري قال: "لو كان ما يقول الجعد حقًاّ لبلّغه النَّبِيُّ ﷺ".
والجعد بن درهم هو مؤسِّس مذهب الجهميّة، ونُسب الجهمية إلى الجهم بن صفوان؛ لأنَّه هو الذي أظهر هذا المذهب الباطل ونشره، وأقول كما قال الحسن البصري ﵀: لو كان ما يقوله الأشاعرة وغيرهم من المتكلِّمين حقًاّ لبلَّغه الرسول ﷺ.
وقد رأيتُ أن أشرح هذه المقدِّمة شرحًا يزيد في جلائها ووضوحها، ويُفصِّل المعاني التي اشتملت عليها، ورأيتُ أن أمهِّد لهذا الشّرح بذكر عشر فوائد في عقيدة السّلف، وقد نظَم الشيخُ أحمد بن مشرّف الأحسائي المالكي المتوفَّى سنة ١٢٨٥هـ مقدِّمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني نظْمًا بديعًا سلِسًا، رأيتُ مِن المناسب إثباته مع نصِّ المقدِّمة قبل البدء بالشّرح.
وقد سَمَّيت هذا الشرح:
قطف الجنى الداني شرح مقدِّمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني
وأسأل اللهَ ﷿ أن ينفع به كما نفع بأصله، وأن يوفِّق المسلمين للفقه في دينهم، والسَّير على ما كان عليه سلفُهم، في العقيدة والعمل، وأن يُوفِّقنِي للسلامة من الزَّلَل، ويَمنَحنِي الصِّدقَ في القول والإخلاصَ في العمل، إنِّه سميعٌ مجيب، وصلّى اللهُ وسلّم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 12
ترجمة مختصرة لابن أبي زيد القيرواني
هو عبد الله أبو محمد بن أبي زيد، واسم أبي زيد عبد الرحمن، سكن القيروان، وكان إمامَ المالكية في وقته وقُدوتَهم، وجامعَ مذهب مالك، وشارحَ أقواله، وكان واسعَ العلم كثيرَ الحفظ والرواية، وكُتُبُه تشهدُ له بذلك، فصيحَ القلم، ذا بيان ومعرفة بما يقوله، بصيرًا بالردِّ على أهل الأهواء، يقول الشِّعرَ ويُجيدُه، ويجمع إلى ذلك صلاحًا تامًّا وورعًا وعفَّةً، وحاز رئاسةَ الدِّين والدنيا، وإليه كانت الرِّحلةُ من الأقطار، ونجب أصحابُه وكَثُر الآخذون عنه.
وعرف قدرَه الأكابرُ، وكان يُعرف بمالك الصغير، قال فيه القابسي: "هو إمامٌ موثوقٌ به في ديانته وروايته"، واجتمع فيه العلمُ والورعُ والفضلُ والعقل، شُهرته تُغنِي عن ذِكره، وكان سريعَ الانقياد والرجوع إلى الحقِّ، تفقَّه بفقهاء بلده وسمع من شيوخها، وعوَّل على أبي بكر بن اللباد وأبي الفضل القيسي، وسمع منه خلقٌ كثيرٌ وتفقَّه به جلَّة، وكانت وفاته سنة (٣٨٦ هـ)، له كتاب النوادر والزيادات على المدونة، مشهور أزيد من مائة جزء، وكتاب مختصر المدونة مشهور أيضًا، وعلى كتابيه هذين المعوَّل في التفقه، وله الرسالة، وغيرها من المؤلَّفات الكثيرة المذكورة في الديباج المذهب لابن فرحون المالكي (ص: ١٣٦ – ١٣٨) .
وكلُّ ما مرَّ منقول باختصار من هذا الكتاب، قال فيه الذهبي في أوَّل ترجمته في سير أعلام النبلاء (١٧/١٠): "الإمام العلاَّمةُ القُدوة الفقيه، عالم أهل المغرب".
وقال في آخرها: "وكان – ﵀ – على طريقة السلف في الأصول، لا يدري الكلامَ ولا يتأوَّل، فنسأل الله التوفيق".
1 / 13
فوائد بين يدي الشرح
الفائدة الأولى: منهج أهل السنة والجماعة في العقيدة: اتِباع الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح
...
الفائدة الأولى: منهج أهل السُّنَّة والجماعة في العقيدة: اتِّباعُ الكتاب والسُّنةَّ على فهم السلف الصالح
عقيدةُ أهل السُّنَّة والجماعة مبنيَّةٌ على الدليل من كتاب الله ﷿ وسُنَّة رسوله ﷺ وما كان عليه الصحابة الكرام ﵃ وأرضاهم، قال الله ﷿: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾، وقال: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، وقال: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، وقال: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾، وقال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا﴾، وقال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، وقال: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، وقال ﷺ في حديث العرباض بن سارية: ". . . فإنَّه مَن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاء المهديين الراشدين، تَمسَّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة" رواه أبو داود (٤٦٠٧)، والترمذي (٢٦٧٦) وغيرهما، وهذا لفظ أبي داود، وقال
1 / 11
الترمذي: "حديث حسن صحيح".
وفي صحيح البخاري (٧٢٨٠) عن أبي هريرة ﵁: أنَّ رسول الله ﷺ قال: "كلُّ أمَّتِي يدخلون الجنَّة إلاَّ مَن أبى، قالوا: يا رسول الله! ومَن يأبَى؟ قال: مَن أطاعنِي دخل الجنَّة، ومَن عصانِي فقد أبَى".
وفي صحيح مسلم (٧٦٧) عن جابر بن عبد الله: أنَّ رسول الله ﷺ كان يقول في خطبته: "أمَّا بعد، فإنَّ خيرَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ بدعة ضلالة".
وروى البخاري في صحيحه (١٥٩٧)، ومسلم في صحيحه (١٢٧٠) عن عابس بن ربيعة، عن عمر ﵁: "أنَّه جاء إلى الحجر الأسود فقبَّله، فقال: إنِّي لأعلمُ أنَّك حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أنِّي رأيتُ النَبِيَّ ﷺ يُقبِّلُك ما قبَّلتُك".
وروى البخاري في صحيحه (٢٦٩٧)، ومسلم في صحيحه (١٧١٨) عن عائشة ﵂ قالت: قال رسول الله ﷺ: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ"، وفي لفظ لمسلم: "مَن عمل عملًا ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ".
وما جاء في هذه الرواية أعمُّ من الأُولى؛ لأنَّها تشتمل على مَن كان مُحْدِثًا أو تابعًا لمُحْدث.
وروى الإمام أحمد (١٦٩٣٧)، وأبو داود (٤٥٩٧) وغيرُهما - واللفظ لأحمد – عن معاوية ﵁ قال: إنَّ رسول الله ﷺ قال: "إنَّ أهلَ الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملَّة، وإنَّ هذه الأمَّةَ ستفترق على ثلاث وسبعين ملَّة يعني الأهواء، كلُّها في النار إلاَّ واحدة، وهي الجماعة".
1 / 12
وانظر تخريجه وشواهدَه في تعليق الشيخ شعيب الأرنؤوط وغيره على هذا الحديث في حاشية المسند.
وروى البخاري في صحيحه (٥٠٦٣)، ومسلم في صحيحه (١٤٠١) عن أنس في حديث طويل، آخره: "فمَن رغب عن سُنَّتِي فليس منِّي".
وإنَّما كانت عقيدةُ أهل السنَّة والجماعة مبنيَّةً على الكتاب والسنَّة؛ لأنَّ ما يُعتقد هو من علم الغيب، ولا يُمكن معرفة ذلك إلاَّ بالوحي كتابًا وسنَّة.
وما جاء في الكتاب العزيز وثبت في السُنَّة فإنَّ العقلَ السليم يُوافقه ولا يُعارضه، ولشيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ – كتاب واسع اسمه: درء تعارض العقل والنقل.
والمعوَّل عليه في فهم النصوص ما كان عليه أصحابُ رسول الله ﷺ وما جاء عنهم من الفهم الصائب والعلم النافع، وقد فهموا معاني ما خوطبوا به من صفات الله ﷿؛ لأنَّ الكتاب والسُّنَّة بلغتهم، مع تفويضهم علم كيفياتها إلى الله ﷿؛ لأنَّ ذلك من الغيب الذي لا يعلمه إلاَّ هو سبحانه، كما جاء عن الإمام مالك بن أنس في بيان هذا المنهج الصحيح، حيث قال عندما سُئل عن كيفية الاستواء: "الاستواءُ معلومٌ، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
وقد أوضح ما كان عليه الصحابةُ في صفات الله ﷿ الشيخ أبو العباس أحمد بن علي المقريزي المتوفى سنة (٨٤٥ هـ) في كتابه المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (٢/٣٥٦)، فقال: "ذِكْرُ الحال في عقائد أهل الإسلام منذ ابتداء الملَّة الإسلامية إلى أن انتشر مذهب الأشعرية: اعلم
1 / 13
أنَّ الله تعالى لَمَّا بعث من العرب نبيَّه محمدًا ﷺ رسولًا إلى الناس جميعًا وصف لهم ربَّهم ﷾ بما وصف به نفسَه الكريمة في كتابه العزيز الذي نزل به على قلبه ﷺ الروحُ الأمين، وبما أوحى إليه ربُّه تعالى، فلم يسأله ﷺ أحدٌ من العرب بأسرهم قرَويُّهم وبَدويُّهم عن معنى شيء من ذلك، كما كانوا يسألونه ﷺ عن أمر الصلاة والزكاة والصيام والحجِّ وغير ذلك مِمَّا لله فيه سبحانه أمرٌ ونهيٌ، وكما سألوه ﷺ عن أحوال القيامة والجنَّة والنار؛ إذ لو سأله إنسانٌ منهم عن شيء من الصفات الإلهية لنُقل كما نُقلت الأحاديث الواردة عنه ﷺ في أحكام الحلال والحرام، وفي الترغيب والترهيب وأحوال القيامة والملاحم والفتن ونحو ذلك مِمَّا تضمَّنته كتبُ الحديث، معاجمها ومسانيدها وجوامعها، ومَن أمعن النَّظر في دواوين الحديث النَّبوي ووقف على الآثار السلفية، عَلِم أنَّه لَم يَرد قطُّ من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة ﵃ على اختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم – أنَّه سأل رسول الله ﷺ عن معنى شيء مِمَّا وصف الربُّ سبحانه به نفسَه الكريمة في القرآن الكريم وعلى لسان نبيِّه محمد ﷺ، بل كلُّهم فهموا معنى ذلك، وسكتوا عن الكلام في الصفات، نعم! ولا فرَّق أحدٌ منهم بين كونها صفةَ ذات أو صفةَ فعل، وإنَّما أثبتوا له تعالى صفات أزليَّة: من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعز والعظمة، وساقوا الكلام سوقًا واحدًا، وهكذا أثبتوا – ﵃ – ما أطلقه الله سبحانه على نفسه الكريمة: من الوجه واليد ونحو ذلك، مع نفي مماثلة المخلوقين، فأثبتوا – ﵃ – بلا تشبيه، ونزَّهوا من غير تعطيل،
1 / 14
ولم يتعرَّض مع ذلك أحدٌ منهم إلى تأويل شيء من هذا، ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت، ولم يكن عند أحد منهم ما يستدلُّ به على وحدانية الله تعالى وعلى إثبات نبوَّة محمد ﷺ سوى كتاب الله، ولا عرف أحدٌ منهم شيئًا من الطرق الكلامية ولا مسائل الفلسفة، فمضى عصرُ الصحابة ﵃ على هذا، إلى أن حدث في زمنهم القولُ بالقدر، وأنَّ الأمرَ أنفة، أي: أنَّ الله تعالى لم يُقدِّر على خلقه شيئًا مِمَّا هم عليه. . . ".
وهذا الذي أوضحه المقريزي هو ما كان عليه أصحابُ رسول الله ﷺ قبل ظهور الفرق المختلفة، وقد قال ﷺ في حديث العرباض بن سارية الذي مرَّ ذكرُه قريبًا: "فإنَّه مَن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاء المهديِّين الراشدين، تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".
وليس من المعقول أن يُقال في شيء من مذاهب هذه الفرق المختلفة في العقيدة التي حدثت في أواخر عهد الصحابة وبعده، كالقدرية والمرجئة والأشاعرة وغيرها، ليس من المعقول أن يُقال في شيء من ذلك: إنَّه الحقُّ والصواب، بل الحقّ الذي لا شكَّ فيه هو ما كان عليه أصحابُ رسول الله ﷺ، ولو كان شيء من هذه المذاهب حقًّا لسبقوا إليه ﵃ وأرضاهم، فلا يُعقل أن يُحجب حقٌّ عن الصحابة ويُدَّخر لأناس يجيئون بعدهم، قال إبراهيم النخعي كما في جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (١/٩٧): "لَم يُدخَّر لكم شيءٌ خُبِّئَ من القوم لفضل عندكم".
وقد نقل الحافظ ابن حجر في الفتح عند شرحه باب قول الله تعالى:
1 / 15
﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ كلامًا نفيسًا لأبي المظفر السمعاني، فقال (١٣/٥٠٧): "واستدلَّ أبو المظفر بن السمعاني بآيات الباب وأحاديثه على فساد طريقة المتكلِّمين في تقسيم الأشياء إلى جسم وجَوهر وعرض، قالوا فالجسمُ ما اجتمع من الافتراق والجوهر ما حمل العرض، والعرض ما لا يَقوم بنفسه، وجعلوا الرُّوح من الأعراض، وردُّوا الأخبارَ في خَلق الرُّوح قبل الجسد والعقل قبل الخلق، واعتمدوا على حَدْسهم وما يؤدِّي إليه نظرُهم، ثم يَعرضون عليه النصوصَ فما وافقه قبلوه وما خالفه ردُّوه، ثمَّ ساق هذه الآيات ونظائرَها من الأمر بالتبليغ، قال: وكان مِمَّا أمر بتبليغه التوحيد، بل هو أصلُ ما أمرَ به فلم يترك شيئًا من أمور الدِّين أصولَه وقواعدَه وشرائعَه إلاَّ بلَّغه، ثمَّ لَم يَدْعُ إلى الاستدلال بما تَمسَّكوا به من الجوهر والعرض، ولا يوجد عنه ولا عن أحد من أصحابه من ذلك حرفٌ واحدٌ فما فوقه، فعُرف بذلك أنَّهم ذهبوا خلافَ مذهبهم وسلكوا غيرَ سبيلهم بطريق مُحدَث مُخترَع لم يكن عليه رسول الله ﷺ ولا أصحابُه ﵃، ويلزم من سلوكه العودُ على السلف بالطعن والقَدْح، ونسبتهم إلى قلَّة المعرفة واشتباه الطرق، فالحذر من الاشتغال بكلامهم والاكتراث بمقالاتهم؛ فإنَّها سريعةُ التهافت كثيرةُ التناقض، وما من كلام تَسمعه لفرقة منهم إلاَّ وتَجدُ لخصومهم عليه كلامًا يوازنه أو يقاربه، فكلٌّ بكلٍّ مقابل، وبعضٌ ببعضٍ مُعارَض، وحسبُك من قبيح ما يلزم من طريقتهم أنَّا إذا جَرينا على ما قالوه وألزمنا الناسَ بما ذكروه لزِم مِن ذلك تكفيرُ العوَام جميعًا؛ لأنَّهم لا يعرفون إلاَّ الاتِّباعَ المجرَّد، ولو عُرض عليهم هذا الطريق ما فهمه أكثرُهم فضلًا عن أن يصير منهم صاحب نظر،
1 / 16
وإنَّما غاية توحيدهم التزامُ ما وجدوا عليه أئمَّتَهم في عقائد الدِّين والعضُّ عليها بالنواجذ، والمواظبة على وظائف العبادات وملازمة الأذكار بقلوبٍ سليمة طاهرة عن الشُّبَه والشكوك، فتراهم لا يَحيدون عما اعتقدوه ولو قُطِّعوا إرَبًا إرَبًا، فهنيئًا لهم هذا اليقين، وطوبى لهم هذه السلامة، فإذا كُفِّر هؤلاء وهم السواد الأعظم وجمهور الأمَّة، فما هذا إلاَّ طَيُّ بِساط الإسلام وهدمُ مَنَار الدِّين، والله المستعان".
وما جاء في كلام أبي المظفر من ذِكر خلق العقل فيه نظر؛ قال ابن القيم في كتابه المنار المنيف (ص: ٥٠): "ونحن ننبِّه على أمور كليَّة يُعرف بها كون الحديث موضوعًا" إلى أن قال (ص: ٦٦): "ومنها أحاديث العقل، كلُّها كذب. . . وقال أبو الفتح الأزدي: لا يصحُّ في العقل حديث، قاله أبو جعفر العقيلي وأبو حاتم ابن حبان، والله أعلم".
وقد نقل الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري نقولًا عن جماعة من السلف في إثبات الصفات من غير تشبيه أو تحريف أو تعطيل، وختم ذلك بكلام نفيس له، ومِمَّا قاله (١٣/٤٠٧ – ٤٠٨): "وأخرج البيهقي من طريق أبي داود الطيالسي قال: كان سفيان الثوري وشعبةُ وحماد بنُ زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدِّدون ولا يشبِّهون، ويروُون هذه الأحاديث ولا يقولون كيف، قال أبو داود: وهو قولنا، قال البيهقي: وعلى هذا مضى أكابرُنا.
وأسند اللاَّلكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال: اتفق الفقهاء كلُّهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقاتُ عن رسول الله ﷺ في صفة الرَّبِّ من غير تشبيه ولا تفسير، فمن
1 / 17
فسَّر شيئًا منها وقال بقول جهم فقد خرج عمَّا كان عليه النَبِيُّ ﷺ وأصحابُه وفارق الجماعةَ؛ لأنه وَصفَ الرَّبَّ بصفَة لا شيء.
ومن طريق الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعيَّ ومالكًا والثوريَّ والليث ابنَ سعد عن الأحاديث التي فيها الصفة؟ فقالوا: أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيف.
وأخرج ابنُ أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى: سمعتُ الشافعيَّ يقول: لله أسماء وصفاتٌ، لا يَسَع أحدًا رَدُّها، ومَن خالف بعد ثبوت الحجَّة عليه فقد كفر، وأمَّا قبل قيام الحجة فإنَّه يُعذر بالجهل؛ لأنَّ عِلمَ ذلك لا يُدرَك بالعقل ولا الرؤية والفكر، فنثبتُ هذه الصفات، ونَنفي عنه التشبيهَ، كما نفَى عن نفسه فقال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ .
وأسند البيهقيُّ بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري، عن سفيان بن عيينة قال: كلُّ ما وَصف الله به نفسَه في كتابه فتفسيرُه تلاوتُه والسكوتُ عنه.
ومن طريق أبي بكر الضُّبَعي قال: مذهبُ أهل السنة في قوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ قال: بلا كيف، والآثارُ فيه عن السلف كثيرة، وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل.
وقال الترمذي في الجامع عَقب حديث أبي هريرة في النُزول: وهو على العرش كما وصفَ به نفسه في كتابه، كذا قال غيرُ واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من الصفات.
وقال في باب فضل الصدقة: قد ثبتت هذه الروايات فنؤمن بها ولا نتَوهَّم، ولا يُقال كيف، كذا جاء عن مالك وابن عُيينة وابن المبارك أنَّهم
1 / 18
أَمَرُّوها بلا كيف، وهذا قولُ أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأمَّا الجهميَّةُ فأنكروها، وقالوا هذا تشبيهٌ. وقال إسحاق بن راهويه: إنَّما يكون التشبيهُ لو قيل يدٌ كيَدٍ، وسَمعٌ كسمعٍ.
وقال في تفسير المائدة: قال الأئمةُ: نؤمن بهذه الأحاديث من غير تفسير، منهم: الثوري ومالك وابن عيينة وابن المبارك.
وقال ابن عبد البر: أهلُ السُّنَّة مُجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسُّنَّة، ولم يُكَيِّفوا شيئًا منها، وأمَّا الجهميَّةُ والمعتزلةُ والخوارجُ فقالوا: مَن أقرَّ بها فهو مشبِّهٌ، فسمَّاهم مَن أقَرَّ بها مُعَطِّلةً.
وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية: اختلفت مسالكُ العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضُهم تأويلَها، والتزم ذلك في آي الكتاب وما يَصحُّ من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويضِ معانيها إلى الله تعالى، والذي نرتضيه رأيًا ونَدين الله به عقيدةً اتِّباع سلف الأمَّة؛ للدَّليل القاطع على أنَّ إجماعَ الأمَّة حُجةٌ، فلو كان تأويلُ هذه الظواهر حتمًا لأوشكَ أن يكون اهتمامُهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرُ الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتَّبَع. انتهى.
وقد تقدَّم النقلُ عن أهل العصر الثالث وهم فقهاءُ الأمصار، كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومَن عاصرهم، وكذا مَن أخذ عنهم من الأئمة، فكيف لا يُوثَق بما اتَّفق عليه أهلُ القرون الثلاثة، وهم خيرُ القرون بشهادة صاحبِ الشريعة".
وما جاء في كلام الجوينِي من أنَّ السَّلف يُفوِّضون معاني الصفات
1 / 19
إلى الله ﷿ غير صحيح؛ فإنَّهم يُفوِّضون في الكيف، ولا يُفوِّضون في المعنى، كما جاء عن مالك ﵀، فقد سُئل عن كيفية الاستواء؟ فقال: "الاستواء معلومٌ، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
الفائدة الثانية: وَسَطيَّةُ أهل السنة والجماعة في العقيدة بين فرق الضلال أمَّةُ نبيِّنا محمد ﷺ وَسَطٌ بين الأمم؛ فإنَّ اليهودَ والنصارى متضادُّون، فاليهود جَفَوا في الأنبياء حتى قتلوا من قتلوا منهم، والنصارى غَلَوا في عيسى ﵊، فجعلوه إلَهًا مع الله، وهذا من أمثلة تضادِّهم في الاعتقاد، ومن أمثلة تقابلهم في الأحكام أنَّ اليهودَ لا يُؤاكلون الحائضَ ولا يُجالسونها، والنصارى بضدِّهم؛ فإنَّهم يُجامعونها. وكما أنَّ هذه الأمَّة وسَطٌ بين الأمم، فإنَّ أهل السنَّة والجماعة وسَطٌ بين فرق هذه الأمة، فهم: أوَّلا: وسَطٌ في صفات الله بين المعطِّلة والمشبِّهة؛ فإنَّ المشبِّهةَ أثبتوا، ولكنَّهم شبَّهوا ومثَّلوا، وقالوا: لله يدٌ كأيدينا، ووجه كوجوهنا، وهكذا، تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا. وأمَّا المعطِّلة، فإنَّهم تصوَّروا أنَّ الإثباتَ يستلزم التشبيهَ؛ ففرُّوا من الإثبات إلى التعطيل؛ تنْزيهًا لله عن مشابهة المخلوقين بزعمهم، لكن آل أمرُهم إلى أن وقعوا في تشبيه أسوأ، وهو التشبيه بالمعدومات؛ فإنَّه لا يُتصوَّرُ وجود ذات مجرَّدة من جميع الصفات.
الفائدة الثانية: وَسَطيَّةُ أهل السنة والجماعة في العقيدة بين فرق الضلال أمَّةُ نبيِّنا محمد ﷺ وَسَطٌ بين الأمم؛ فإنَّ اليهودَ والنصارى متضادُّون، فاليهود جَفَوا في الأنبياء حتى قتلوا من قتلوا منهم، والنصارى غَلَوا في عيسى ﵊، فجعلوه إلَهًا مع الله، وهذا من أمثلة تضادِّهم في الاعتقاد، ومن أمثلة تقابلهم في الأحكام أنَّ اليهودَ لا يُؤاكلون الحائضَ ولا يُجالسونها، والنصارى بضدِّهم؛ فإنَّهم يُجامعونها. وكما أنَّ هذه الأمَّة وسَطٌ بين الأمم، فإنَّ أهل السنَّة والجماعة وسَطٌ بين فرق هذه الأمة، فهم: أوَّلا: وسَطٌ في صفات الله بين المعطِّلة والمشبِّهة؛ فإنَّ المشبِّهةَ أثبتوا، ولكنَّهم شبَّهوا ومثَّلوا، وقالوا: لله يدٌ كأيدينا، ووجه كوجوهنا، وهكذا، تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا. وأمَّا المعطِّلة، فإنَّهم تصوَّروا أنَّ الإثباتَ يستلزم التشبيهَ؛ ففرُّوا من الإثبات إلى التعطيل؛ تنْزيهًا لله عن مشابهة المخلوقين بزعمهم، لكن آل أمرُهم إلى أن وقعوا في تشبيه أسوأ، وهو التشبيه بالمعدومات؛ فإنَّه لا يُتصوَّرُ وجود ذات مجرَّدة من جميع الصفات.
1 / 20
وأمَّا أهل السُّنَّة والجماعة، فإنَّهم توسَّطوا بين هؤلاء وهؤلاء، فأثبتوا بلا تشبيه، ونَزَّهوا بلا تعطيل، كما قال الله ﷿: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، فأثبتوا لله السَّمعَ والبصرَ كما أثبت الله ذلك لنفسه، فلَم يُعطِّلوا، ومع إثباتهم نزَّهوا ولم يُشبِّهوا، فالمشبِّهةُ عندهم الإثبات والتشبيه، والمعطِّلة عندهم التعطيل والتَنْزيه، وأهل السُّنَّة عندهم الإثبات والتنْزيه، فجمعوا بين الحُسنيين: الإثبات والتنْزيه، وسَلِموا من الإساءتين: التشبيه والتعطيل، والمُعطِّلةُ يَصفون أهلَ السُّنَّة زورًا أنَّهم مُشبِّهة؛ لأنَّهم لم يتصوَّروا إثباتًا إلاَّ مع التشبيه، وأهل السُّنَّة يصفون المعطِّلة بأنَّهم نافون للمعبود، قال ابن عبد البر في التمهيد (٧/١٤٥): "وأمَّا أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلُّها والخوارج، فكلُّهم يُنكرها، ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة، ويزعمون أنَّ من أقرَّ بها مشبِّه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود".
ونقله عنه الذهبي في العلو (ص: ١٣٢٦)، وعلَّق عليه قائلًا: "صدق والله! فإنَّ من تأوَّل سائر الصفات وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام، أدَّاه ذلك السَّلب إلى تعطيل الربِّ، وأن يشابه المعدوم، كما نُقل عن حماد بن زيد أنَّه قال: مَثل الجهمية كقوم قالوا: في دارنا نخلة، قيل: لها سَعَف؟ قالوا: لا، قيل: فلها كَرَب؟ قالوا: لا، قيل: لها رُطَب وقِنو؟ قالوا: لا، قيل: فلها ساق؟ قالوا: لا، قيل: فما في داركم نخلة! ".
والمعنى أنَّ من نفى عن الله الصفات، فإنَّ حقيقةَ أمره نفيُ المعبود؛ إذ لا يُتصوَّرُ وجود ذات مجرَّدة من جميع الصفات.
ولهذا قال ابن القيم في المقدمة التي بين يدي قصيدته النونية: "فالمشبِّه
1 / 21
يعبدُ صنمًا، والمعطِّلُ يعبدُ عدمًا، والموحِّد يعبدُ إلَهًا واحدًا صمدًا، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾
وقال أيضًا: "قلبُ المعطِّل متعلِّقٌ بالعدم، فهو أحقرُ الحقير، وقلبُ المشبِّه عابدٌ للصنم الذي قد نُحت بالتصوير والتقدير، والموحِّد قلبُه متعبِّدٌ لِمَن ليس كمثله شيء وهو السَّميع البصير".
ثانيًا: وهم وسَطٌ في أفعال العباد بين الجبرية الغلاة الذين ينفون عن العبد الاختيار، ويجعلون أفعالَه كحركات الأشجار، وبين القدرية النفاة الذين يجعلون العبدَ خالقًا لفعله، وينفون تقدير الله عليه، فأهل السنَّة والجماعة يُثبتون للعبد مشيئةً واختيارًا، بهما يستحقُّ الثوابَ والعقابَ، لكن لا يجعلونه مستقلًاّ في ذلك، بل يجعلون مشيئتَه وإرادتَه تابعةً لمشيئة الله وإرادته، كما قال الله ﷿: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، وهو ﷾ خالقُ العباد وأفعال العباد، كما قال الله ﷿: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ .
ثالثًا: وهم وَسَطٌ في باب الوَعد والوعيد بين المرجئة الذين غلَّبوا جانبَ الوَعد وأهملوا جانبَ الوعيد، فقالوا: إنَّه لا يضرُّ مع الإيمان ذنبٌ، كما لا ينفعُ مع الكفر طاعة، والخوارجِ والمعتزلة الذين غلَّبوا جانبَ الوعيد وأهملوا جانبَ الوعد، فجعلوا مرتكبَ الكبيرة خارجًا من الإيمان في الدنيا، خالدًا مخلَّدًا في النار في الآخرة، فأهلُ السُّنَّة والجماعة أعمَلوا نصوصَ الوعد ونصوصَ الوعيد معًا، وجعلوا مرتكبَ الكبيرة ليس خارجًا من الإيمان في الدنيا، وفي الآخرة أمرُه إلى الله، إن شاء عذَّبه وإن شاء عفا عنه، وإذا عذَّبه فإنَّه لا يُخلِّده في النار كما يخلِّدُ فيها الكفار، بل يُخرجُ منها ويُدخل الجنَّة.
1 / 22
رابعًا: وهم وَسَطٌ في باب أسماء الإيمان والدِّين بين المرجئة الذين فرَّطوا، فجعلوا العاصيَ مؤمنًا كاملَ الإيمان، وبين الخوارج والمعتزلة الذين أفرَطوا فأخرجوه من الإيمان، ثمَّ حكمت الخوارجُ بكفره، وقالت المعتزلة: إنَّه في منْزلة بين المنْزلتين، فأهل السُّنَّة وصفوا العاصيَ بأنَّه مؤمنٌ ناقصُ الإيمان، فلَم يجعلوه مؤمنًا كاملَ الإيمان، كما قالت المرجئة، ولم يجعلوه خارجًاَ من الإيمان كما قالت الخوارجُ والمعتزلة، بل قالوا: هو مؤمن بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، فلَم يُعطوه الإيمانَ المطلق، ولم يسلبوا عنه مطلقَ الإيمان، ويجتمع في العبد إيمانٌ ومعصيةٌ وحبٌّ وبُغضٌ، فيُحَبُّ على ما عنده من الإيمان، ويُبغَضُ على ما عنده من الفسوق والعصيان، وهو نظير الشيب الذي يكون محبوبًا إذا نُظر إلى ما بعده وهو الموت، وغير محبوب إذا نُظر إلى ما قبله وهو الشباب، كما قال الشاعر:
الشيبُ كرهٌ وكرهٌ أن نفارقَه ... فاعْجب لشيءٍ على البغضاءِ محبوب
خامسًا: وهم وَسَطٌ بين الخوارج الذين كفَّروا عليًّا ومعاوية ﵄ ومن معهما وقاتلوهم واستحلُّوا أموالَهم، وبين الروافض الذين غَلَوا في عليٍّ وفاطمةَ وأولادهما ﵃، وجَفَوا في حقِّ أكثر الصحابة، فأبغضوهم وسَبُّوهم، فأهل السُّنَّة يُحبُّون الصحابةَ جميعًا ويوالونهم ويُنْزلونهم منازلَهم ولا يقولون بعصمتِهم، وقد قال الطحاويُّ في عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة: "ونحبُّ أصحابَ رسول الله ﷺ ولا نفرطُ في حبِّ أحدٍ منهم، ولا نتبَرَّأ من أحدٍ منهم، ونُبغضُ مَن يُبغضهم، وبغير الخير يَذكرهم، ولا نذكرُهم إلاَّ بخير، وحبُّهم دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ، وبغضُهم كفرٌ ونفاقٌ وطغيان".
1 / 23
ففي قوله ﵀: "ونحبُّ أصحابَ رسول الله" سلامة أهل السُّنَّة من الجفاء، وفي قوله: "ولا نفرط في حبِّ أحدٍ منهم" سلامتهم من الغلُوِّ، أي: ونحبُّ أصحابَ رسول الله ﷺ، فلسنا جُفاةً، ومع حبِّنا لهم فلسنا غلاةً.
وقد أجمل شيخ الإسلام ابن تيمية – ﵀ – هذه الأمور التي أهل السُّنَّة والجماعة فيها وَسَطٌ بين فرق الضلال، في كتابه العقيدة الواسطية، فقال (ص: ١٠٧ – ١١٣): "فهم وَسَطٌ في باب صفات الله ﷾ بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبِّهة، وهم وَسَطٌ في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم، وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم، وفي باب أسماء الإيمان والدِّين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وفي أصحاب رسول الله ﷺ بين الرافضة والخوارج".
الفائدة الثالثة: عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة مطابقةٌ للفطرة روى البخاري في صحيحه (١٣٨٥) ومسلم في صحيحه (٢٦٥٨) – واللفظ للبخاري – عن أبي هريرة ﵁ قال: قال النَبِيُّ ﷺ: "كلُّ مولود يُولَد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه. . . " الحديث. وفي صحيح مسلم (٢٨٦٥) من حديث عياض بن حمار المجاشعي ﵁: ". . . وإنِّي خلقتُ عبادي حنفاء كلّهم، وإنَّهم أتتهم الشياطينُ
الفائدة الثالثة: عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة مطابقةٌ للفطرة روى البخاري في صحيحه (١٣٨٥) ومسلم في صحيحه (٢٦٥٨) – واللفظ للبخاري – عن أبي هريرة ﵁ قال: قال النَبِيُّ ﷺ: "كلُّ مولود يُولَد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه. . . " الحديث. وفي صحيح مسلم (٢٨٦٥) من حديث عياض بن حمار المجاشعي ﵁: ". . . وإنِّي خلقتُ عبادي حنفاء كلّهم، وإنَّهم أتتهم الشياطينُ
1 / 24