فابتده المشكلات التي تعني، ولما كان يعلم أنها زارت السكرية اليوم، فقد تساءل: هل من جديد في السكرية؟
قالت وهي تتنهد: العادة.
هز رأسه أسفا، وهو يبتسم قائلا: مخلوقة للنقار، هذه هي خديجة.
قالت أمينة بحزن: قالت لي حماتها: إن أي محادثة معها مخاطرة غير محمودة العواقب. - الظاهر أن حماتها - نفسها - قد خرفت. - لها من الكبر أعذار، ولكن ما عذر أختك؟ - ترى أآثرتها على الحق أم آثرت الحق عليها؟
وضحك ضحكة ذات مغزى، فتنهدت أمينة مرة أخرى، وقالت: أختك حامية الطبع، وسرعان ما تضيق حتى بالنصيحة الخالصة. ويا ويلي إذا جاملت حماتها مراعاة لسنها ومكانتها، هنالك تسألني وعيناها تحماران: «أنت معي أم علي؟» لا حول ولا قوة إلا بالله، معي أم علي؟! ... هل نحن في حرب يا ابني؟ ومن الغريب أن يكون الحق أحيانا على حماتها، ولكنها تتمادى في الخصام حتى ينقلب الحق عليها هي.
هيهات أن يسخطه عليها شيء، كانت ولا تزال أمه الثانية، ومورد حنان لا ينضب، أين منها عائشة الجميلة السادرة التي تشبعت بالشوكتية حتى ذؤابتها! - وعم أسفر التحقيق؟ - بدأ الشجار بالزوج هذه المرة وعلى غير المألوف، دخلت الشقة وهما يتجادلان في عنف حتى عجبت لما أهاج الرجل الطيب، فتدخلت بينهما بالسلام، ثم عرفت سبب هذا كله، كانت معتزمة أن تنفض الشقة، ولكنه ظل نائما حتى التاسعة فأصرت على إيقاظه حتى استيقظ غاضبا، وركبه عناد مفاجئ فأبى أن يغادر الفراش. وسمعت والدته الزعق، فجاءت على عجل، وما لبثت النار أن اشتعلت. ولم يكد هذا الشجار أن ينتهي حتى شب آخر بسبب أحمد الذي عاد من الطريق مطين الجلباب، فضربته وأرادت أن يستحم من جديد، فاستغاث الولد بأبيه، وتصدى الرجل لحمايته، فكان الشجار الثاني في نصف نهار.
وهو يضحك: وماذا فعلت؟ - بذلت ما في وسعي ولكني لم أسلم، فلامتني طويلا على وقوفي موقف الوسيط، وقالت لي: كان ينبغي أن تنضمي إلي كما انضمت أمه إليه.
ثم وهي تتنهد لثالث مرة: قلت لخديجة: ألا تذكرين كيف كنت ترينني أمام والدك، فقالت بحدة: «هل تظنين أنه يوجد رجل مثل أبي في هذه الدنيا؟»
وردت مخيلته على غير ميعاد صورة عبد الحميد بك شداد وحرمه سنية هانم، وهما يسيران جنبا إلى جنب، من الفراندا إلى السيارة المنيرفا المنتظرة أمام باب القصر، لا سيد ولا مسود، ولكن صديقين متساويين، يتحادثان في غير كلفة وهي تتأبط ذراعه، حتى إذا بلغا السيارة تنحى البك جانبا حتى تركب هي أولا. هل يتأتى لك أن ترى والديك في مثل هذه الصورة؟ يا لها من خاطرة مضحكة! يتحركان في جلال خليق بالمعبودة التي أنجباها، ولو أن الهانم لم تكن دون أمه كهولة إلا أنها كانت ترتدي معطفا نفيسا آية في الذوق والأناقة والغندرة، وتنطلق سافرة الوجه، وجه مليح وإن يكن دون الوجه الملائكي بما لا يقاس، وتنشر فيما حولها شذى عطرا وروعة آسرة. ود لو يعلم كيف يتحادثان وكيف يأتلفان، وكيف يتخاصمان إن كانا يتخاصمان. شغفا بمعرفة حياة تمت إلى حياة معبودته بأوثق الوشائج والصلات. أتذكر كيف كنت تطالعهما بعين المتعبد الراني إلى كبار الكهنة والسدنة؟ قال بهدوء: لو تطبعت خديجة ببعض طباعك لضمنت حياة سعيدة.
ابتسمت أساريرها في سرور، غير أن سرورها ارتطم بالحقيقة المرة، وهي أن طباعها لم تستطع على دماثتها أن تضمن لها السعادة دواما، ثم قالت والابتسامة لا تفارق شفتيها لتداري بها أفكارها السوداء التي تشفق من اطلاعه عليها: هو وحده الهادي، ربنا يزيد طبعك حلاوة حتى تكون من الذين يحبون الناس ويحبهم الناس.
نامعلوم صفحہ