فما تمالك أن ضحك من أعماق صدره. وأخيرا رأى زنوبة بموقفها لم تبرحه، وقد ارتسمت على ثغرها ابتسامة حياء كأنها لم تجد من ماضيها ما يعطيها حقا في رفع الكلفة بينهما، فمد لها يده مصافحا، وهو يقول مشجعا ومجاملا: أهلا بأميرة العوادات!
ورجعوا إلى مجالسهم، فشبك محمد عفت ذراعه بذراع أحمد ومضى به إلى مجلسه، فأجلسه إلى جانبه، وهو يتساءل ضاحكا : وقعت أم الهوى رماك؟
فغمغم السيد أحمد: رماني الهوى فوقعت!
أخذ المكان يستبين لعينيه اللتين غابتا عنه أول الأمر في حرارة اللقاء ومزاح المرحبين، فوجد نفسه في حجرة متوسطة الحجم، طليت جدرانها وسقفها بلون زمردي، تطل على النيل بنافذتين وعلى الطريق بنافذتين. وقد أغلق خصاص نوافذها وفتح زجاجها، يتدلى من سقفها مصباح كهربائي ذو غطاء مخروطي من البلور يركز نوره على سطح خوان توسط الحجرة حاملا الأقداح وقوارير الويسكي، وقد فرشت الأرض ببساط متجانس اللون مع الجدران والسقف، وقامت في كل جانب من الحجرة كنبة كبيرة شطرت بنمرقة وغشيت بغطاء مزركش، أما الزوايا فقد احتلت بشلت ووسائد. جلست جليلة وزبيدة وزنوبة على الكنبة المجاورة للنيل، واقتعد الرجال الثلاثة الكنبة المواجهة لها، بينا انتشرت على الشلت آلات الطرب كالعود والدف والدربكة والصنج. أجال بصره في المكان مليا، ثم تنهد بارتياح، وقال بتلذذ: الله ... الله، كل شيء جميل، لم لا تفتحون النافذتين المطلتين على النيل؟
فأجابه محمد عفت: يفتحان عندما ينقطع مرور السفن الشراعية، وإذا بليتم فاستتروا!
فبادره السيد أحمد باسما: وإذا استترتم فابتلوا.
فهتفت جليلة كالمتحدية: أرنا شطارة زمان.
لم يقصد بقوله إلا المزاح، والحق أن إقدامه على هذه الخطوة الثورية - مجيئه إلى العوامة - بعد طول الإحجام أورثه قلقا وترددا، لكن ثمة شيء آخر، تغيير من نوع ما عليه أن يكتشفه بنفسه ولنفسه، فليسدد بصره ولينعم ليمعن النظر، ماذا يرى؟ هاك جليلة وزبيدة، كلتاهما كالمحمل - كما كان يقول قديما - أو لعلهما ازدادتا شحما ولحما، ولكن ثمة شيء يكتنفهما، لعله إلى متناول الشعور أقرب منه إلى متناول الحس، إلا أنه وجه من وجوه الكبر بلا مراء، لعل أصحابه لم يفطنوا إليه لأنهم لم ينقطعوا عن المرأتين مثل ما انقطع، ترى ألم يطرأ عليه هو أيضا مثل الذي طرأ عليهما؟ انقبض قلبه وفتر حماسه، الصديق العائد بعد غيبة طويلة هو أفصح مرآة للإنسان، لكن كيف السبيل إلى هذا التغيير حتى يقبض عليه؟ ليست هنالك شعرة بيضاء واحدة في رأسيهما ... ولكن ما للشيب ورءوس الغواني؟ وليس ثمة تجعدات كذلك، هل غلبت على أمرك؟ كلا، إليك نظرة هاتين العينين. إنها تعكس روحا خابيا رغم ما يكتنفه من لألاء براق يستخفي حينا وراء الابتسام واللعب، ثم يبين على حقيقته فيما بين ذلك؛ فتقرأ فيه نعي الشباب، إنه الرثاء الصامت، أليست زبيدة في الخمسين من عمرها؟ وجليلة جاوزتها بأعوام، إنها لدته ولن تكابر في هذا مهما أنكره لسانها، ثمة تغيير في قلبه أيضا ينذر بالنفور والتقلص، لم يكن كذلك حين جاء، جاء يجري لاهثا وراء صورة لم يعد لها من وجود، ليكن، حاشا أن يستسلم للهزيمة ... اشرب، واطرب، واضحك، لن يدفعك أحد على رغمك إلى ما لا تود.
قالت جليلة: لم أكن أصدق أن عيني ستقعان عليك في هذه الدنيا.
وجد إغراء شديدا في أن يسألها: كيف ترينني؟
نامعلوم صفحہ