كان على يقين من احترام أبيه للدين ولأهله بالتالي، فقال بمكر: إن الأزهريين يتعلمون كذلك بالمجان ويشتغلون بالتدريس، ولكن أحدا لا يستطيع أن يحتقر علومهم.
فأومأ له بذقنه باحتقار، وهو يقول: الدين شيء، ورجال الدين شيء آخر.
فقال مستمدا من اليأس قوة يستعين بها على مناقشة الرجل الذي لم يتعود إلا طاعته: ولكنك يا بابا تحترم علماء الدين وتحبهم!
فقال السيد بلهجة لم تخل من حدة: لا تخلط بين الأمور، أنا أحترم الشيخ متولي عبد الصمد وأحبه كذلك. ولكن أن أراك موظفا محترما أحب إلي من أن أراك مثله، ولو سرت بالبركة بين الناس ودفعت عنهم السوء بالأحجبة والتعاويذ. لكل زمان رجال، ولكنك لا تريد أن تفهم.
تفحص الرجل الشاب ليسير أثر كلامه فيه، فغض كمال بصره، وعض على شفته السفلى، وجعل يرمش، ويحرك زاوية فيه اليسرى في عصبية. يا عجبا! ألهذا الحاضر يصر أناس على ما فيه ضرر محقق لهم؟ وأوشك أن ينفجر غاضبا، ولكنه تذكر أنه إنما يعالج أمرا خارجا عن نطاق سلطته المطلقة، فكظم غيظه، وساءله: ولكن ما الذي جعلك تتحمس لمدرسة المعلمين وحدها كأنها استأثرت بالعلم كله؟ ما الذي لا يروقك في مدرسة الحقوق مثلا؟ أليست هي المدرسة التي تخرج الكبراء والوزراء؟ أليست هي المدرسة التي تثقف بعلومها سعد باشا، وأضرابه من الرجال.
ثم بصوت منخفض، وقد عكست عيناه نظرة واجمة: وهي المدرسة التي وقع اختيار المرحوم فهمي عليها بعد روية وتفكير، ولو لم يعاجله الأجل لكان اليوم من رجال النيابة أو القضاء. أليس كذلك؟
قال كمال بتأثر: جميع قولك حق يا بابا، ولكنني لا أحب دراسة القانون.
ضرب الرجل كفا بكف، وهو يقول: لا يحب! وما دخل الحب في العلم والمدارس؟ قل لي ماذا تحب في مدرسة المعلمين؟ أريد أن أعرف أمارات الحسن التي فتنتك فيها، أم أنت ممن يحبون الرمامة؟ تكلم ها أنا مصغ إليك!
ندت عنه حركة، كأنه يستجمع قواه لإيضاح ما غمض على أبيه من الرأي، ولكنه كان مسلما بصعوبة مهمته، ومقتنعا في الوقت نفسه بأنها ستجر عليه مزيدا من السخريات التي ذاق أمثلة منها فيما سلف من النقاش. وفضلا عن هذا كله، فلم يكن يستبين هدفا واضحا محددا حتى يستطيع بدوره أن يوضحه لأبيه. فما عسى أن يقول؟ في وسعه إذا تأمل قليلا أن يعرف ما لا يريد، فليس القانون ببغيته، ولا الاقتصاد، ولا الجغرافيا، ولا التاريخ، ولا اللغة الإنجليزية. وإن كان يقدر أهمية المادتين الأخيرتين لما يتطلع إليه، هذا ما لا يريد. فما الذي يريد؟ إن في نفسه أشواقا تحتاج إلى عناية، وتأمل حتى تتضح أهدافها، ولعله غير متوكد من أنه سيظفر بها في مدرسة المعلمين، وإن رجح عنده أن تكون - هذه المدرسة - أقصر سبيل إليها. أشواق تهزها مطالعات شتى لا تكاد تجمعها صفة واحدة؛ مقالات أدبية، واجتماعية، ودينية، وملحمة عنتر، وألف ليلة، والحماسة، والمنفلوطي، ومبادئ الفلسفة، إلى أنها ربما لم تكن مقطوعة الصلة بالأحلام التي كاشفه بها ياسين قديما، بل والأساطير التي سكبتها في روحه أمه من قبل ذلك ... كان يحلو له أن يطلق على هذا العالم الغامض اسم «الفكر»، وعلى نفسه اسم «المفكر»؛ فيؤمن بأن حياة الفكر أسمى غاية للإنسان تتعالى بطبعها النوراني على المادة والجاه والألقاب، وسائر ألوان العظمة الزائفة ... هي كذلك! وضحت معالمها أم لم تتضح، فاز بها في مدرسة المعلمين أم لم تكن هذه المدرسة إلا وسيلة إليها. لا يملك عقله أن يتحول عن هذه الغاية أبدا، ولكن من الحق كذلك أن يقر بأن ثمة صلة قوية تربطها بقلبه أو بالحري بحبه! كيف كان ذلك؟ ليس بين «معبودته» وبين القانون أو الاقتصاد من سبب، ولكن ثمة أسباب وإن دقت وخفيت بينها وبين الدين والروح والخلق والفلسفة، وما شاكل ذلك من المعارف التي يستهويه النهل من منابعها، على نحو يشبه ما بينها وبين الغناء والموسيقى من أسرار يتشوف إليها في هزة الطرب وأريحية النشوة. إنه يجد هذا كله في نفسه ويؤمن به كل الإيمان، ولكن ما عسى أن يقول لأبيه؟ لجأ مرة أخرى إلى المكر، وهو يقول: إن مدرسة المعلمين تدرس علوما جليلة، كتاريخ الإنسان الحافل بالعظات، وكاللغة الإنجليزية.
كان السيد يتفحصه وهو يتكلم، وإذا بمشاعر الاستياء والحنق تزايله فجأة. تأمل - وكأنه يراه لأول مرة - نحافته وضخامة رأسه وكبر أنفه وطول عنقه؛ فوجد في منظره غرابة تضاهي ما في آرائه من شذوذ، وأوشكت روحه الساخرة أن تضحك في باطنه، ولكن عطفه وحبه أبيا عليه ذلك، غير أنه تساءل فيما بينه وبين نفسه: النحافة ظاهرة مؤقتة، الأنف عندي مصدره. ولكن من أين له هذا الرأس العجيب؟ أليس من المحتمل أن يعرض له شخص - مثلي - ممن ينقبون عن العيوب صيدا لمزاحهم؟ ضايقته هذه الفكرة مضايقة ضاعفت من عطفه عليه، فعندما تكلم جاء صوته أهدأ نبرة وأدنى إلى الحلم والنصح، قال: العلم في ذاته لا شيء، والعبرة بالنتيجة، القانون يفضي بك إلى وظيفة القضاء، أما التاريخ والعظات فمؤداها أن تكون معلما بائسا. عند هذه النتيجة قف طويلا وتأمل (ثم ونبرات صوته تعلو قليلا في شيء من الحدة): لا حول ولا قوة إلا بالله، عظات وتاريخ وسخام، هلا حدثتني بكلام معقول؟
نامعلوم صفحہ