قال إسماعيل لطيف وهو يرفع كأسا مترعة: لا حق لك في هذا، حتى الورع يبيح لنفسه السكر في حفلات الزفاف.
مضى يتناول طعامه الشهي في هدوء، وكان يراقب بين حين وآخر الآكلين والشاربين، أو يشترك معهم في الحديث والضحك. إن سعادة المرء تتناسب تناسبا طرديا مع عدد مرات شهوده لمقاصف الأفراح، ولكن هل مقصف الباشوات مثل مقصفنا؟ نلتهم طعامهم ونحقق معهم! شمبانيا! ... هذه فرصة لتذوق الشمبانيا ... شمبانيا آل شداد ماذا قلتم؟ ما للأستاذ كمال لا يقرب الخمر؟ لعله ملأ بطنه فلم تعد تتسع لمزيد، الحق أني آكل بشهوة لا تجارى، كأنما أعصاب معدتي لا تتأثر بالحزن، أو أنها تتأثر به تأثرا عكسيا، هكذا تغديت في مأتم فهمي، امنعوا إسماعيل عن الأكل والشرب وإلا نفق، موت المنفلوطي وسيد درويش وضياع السودان أحداث كللت زماننا بالسواد، لكن الائتلاف وهذا المقصف من أنباء زماننا السارة، أكلنا ثلاثة من الديكة الرومية وثمة رابع لم يمسس بعد ... هو هذا! رباه إنه يشير إلى أنفي فيضجون جميعا بالضحك. إنهم سكارى فلا تغضب. اضحك معهم متظاهرا بالاستهانة والمرح، أما قلبي فينتفض غضبا، إن استطعت أن تغزو العالم فاغزه، أما آثار هذه الليلة البهيجة فهيهات أن تنجو منها أبد الدهر، وهاك اسم فؤاد الحمزاوي تتناقله الألسن، عن تفوقه ونبوغه يتحدثون، فهل لذعتك الغيرة؟ سيكون حديثك عنه مدعاة لإكبارك ولو على نحو ما: كان طالبا مجدا منذ طفولته. - أتعرفه؟
أجاب حسين شداد عنه: والده موظف في متجر والد كمال.
في قلبي ارتياح لعن الله القلوب.
قال كمال: كان والده ولا يزال الرجل المجد الأمين. - وما تجارة والدك؟
كم أحيط «التاجر» في خيالي بهالة الإكبار، حتى قيل لك ابن تاجر وابن مستشار: تاجر جملة للبقالة.
الكذب أداة نجاة حقيرة، انظر إليهم كي تستشف ما يدور وراء أقنعة وجوههم، ولكن أي رجل في هذا البيت يضارع أباك جمالا وقوة؟
وعقب الانصراف عن الموائد عادت الأكثرية إلى مجالسها في البهو، وانطلق كثيرون إلى الحديقة يتمشون، فمر وقت هادئ خامل ، ثم أخذ المدعوون في الانصراف، أما الأهل فصعدوا إلى الدور الثاني ليقدموا التهاني إلى العروسين، وما لبث الأوركسترا أن انتقل إليهم ليعزف مختاراته الرائعة في المجلس السعيد. ارتدى كمال معطفه، وحمل علبة الحلوى الفاخرة، ثم تأبط ذراع إسماعيل وغادر سراي آل شداد، قال إسماعيل وهو يلقي على صاحبه نظرة مخمورة: الساعة الحادية عشرة، ما رأيك في أن نتمشى في شارع السرايات حتى أفيق قليلا؟ فوافق كمال عن طيب خاطر؛ لأنه وجد في المشي وقتل الوقت فرصة مواتية بيتها، فسارا معا في نفس الطريق الذي سار فيه من قبل إلى جانب عايدة، يعترف لها بحبه ويبثها آلامه. لن يغيب عن رأسه منظر هذا الطريق ذي القصور الجليلة الصامتة، والأشجار الباسقة على جانبيه تطالع المساء بهدوء النفس المطمئنة وروعة الخيال السامي، ولن يفتأ قلبك كلما وطئته قدماك أو استدعاه خيالك يرعش باعثا بخفقات الحنين والوجد والألم كالشجرة المقلقلة بالرياح ترمي أوراقها وثمارها، ومهما يكن من فشل رحلتك القديمة على أديمه فلن يزال يدخر لك ذكرى حلم غابر، وأمل ضائع، وسعادة موهومة، وحياة دافقة مترعة بالمشاعر هي على أسوأ التقديرات خير من راحة العدم، ووحشة الهجر، وخمود العاطفة، وهل أنت واجد في مستقبلك زادا للقلب إلا أماكن تتطلع إليها بعين الخيال، وأسماء تمد لها آذان الشوق؟ تساءل كمال: ترى ماذا يحدث الآن في الدور الأعلى؟
فأجاب إسماعيل بصوت مرتفع أزعج الصمت الجاثم: أوركسترا يعزف مقطوعات غربية، العروسان فوق المنصة يبسمان وحولهما آل شداد وآل سليم، رأيت مثل هذا الجمع مرات عديدة.
عايدة في ثياب العرس! يا له من منظر! هل رأيت شيئا كهذا ولو فيما يرى النائم؟ - وإلام يمتد الحفل؟ - ساعة على الأكثر كي يتمكن العروسان من النوم ما داما سيسافران في الصباح إلى الإسكندرية.
نامعلوم صفحہ