177

تتطور الأشياء بالمناسبات كما تتطور الألفاظ بما يستجد من معان جديدة، لم يكن قصر آل شداد في حاجة جديدة كي يزداد في عيني كمال جلالا، ولكنه بدا في ذلك المساء من ديسمبر في زي جديد من أزياء الحياة. أريقت عليه الأنوار حتى غمرته. أجل، كان كل ركن من أركانه وكل موضع من جدرانه يتقلد عقدا من اللآلئ المضيئة ... مصابيح كهربائية مختلفة الألوان تومض فوق رقعة جسده من أعلى السطح إلى أسفل الجدار، كذلك السور الكبير، والباب الضخم، كذلك أشجار الحديقة بدت كأنما استحالت أزهارها وثمارها أنوارا حمرا وخضرا وبيضا، ومن النوافذ جميعا انبعثت الأضواء، فكل شيء يهتف مؤذنا بالفرح. وعندما رأى كمال وهو مقبل ذلك المنظر آمن بأنه يحج إلى مملكة النور لأول مرة في حياته، وازدحم الطوار المواجه لمدخل البيت بالغلمان، وفرش المدخل برمل فاقع لونه كالذهب، وفتح الباب على مصراعيه، كذلك باب السلاملك فلاحت من داخله نجفة كبيرة في سقف البهو المعد لاستقبال المدعوين، على حين امتلأت الشرفة العليا الكبيرة بمجموعة وضيئة من الغيد في ثياب السهرة البهيجة. ووقف شداد بك وجماعة من رجال الأسرة في مدخل السلاملك يستقبلون الوافدين، أما شرفة السلاملك فقد ازدانت برجال أوركسترا عجيب ترامت أنغامه إلى حدود الصحراء.

ألقى كمال على المنظر كله نظرة شاملة سريعة، ثم تساءل: ترى أعائدة في الشرفة العليا بين المطلات؟ وهل وقعت عيناها عليه وهو يقبل مع المقبلين بقامته الفارعة، وزينته الكاملة، والمعطف على ساعده، يتقدمه رأسه الكبير وأنفه الشهير؟ لم يخل من إحساس بالارتباك وهو يجتاز الباب، ولكنه لم يتجه إلى السلاملك كالآخرين، وإنما مال إلى «ممره» القديم المفضي إلى الحديقة كما نبه حسين شداد من قبل كي يتاح لجماعتهم البقاء معا أطول مدة ممكنة في الكشك المحبوب. كأنما كان يخوض بحرا من نور، وقد وجد السلاملك الخلفي - كالأمامي - مفتوح الباب، مضاء بالأنوار، يعج بالمدعوين، كذلك الشرفة العليا معمورة بأسراب الحسان، أما في الكشك فلم يجد سوى إسماعيل لطيف في بدلة سوداء أنيقة أضفت على منظره العدواني هيئة لطيفة لم يره في مثلها من قبل. ألقى إسماعيل عليه نظرة سريعة، ثم قال: بديع، لكن لم أتيت بالمعطف؟ حسين لم يمكث معي إلا ربع ساعة، ولكنه سيعود إلينا حين يفرغ من الاستقبالات، أما حسن فقد لبث معي دقائق ولا أظنه سيتمكن من مجالستنا كما نود، هذا يومه وله عنا أمور تغنيه، كان حسين يفكر في دعوة بعض الزملاء إلى هنا، ولكني منعته فاكتفى بأن يدعوهم إلى مائدتنا، سيكون لنا مائدة خاصة، هذا أهم خبر أزفه إليك الليلة.

هنالك ما هو أهم، سوف أعجب من نفسي طويلا لقبولي هذه الدعوة، لم قبلتها؟ لتبدو كأنك لا تبالي، أم لأنك غدوت مغرما بالمغامرات المخيفة؟ - هذا حسن، ولكن لم لا نذهب ولو قليلا إلى البهو الكبير لنشاهد المدعوين؟

قال إسماعيل لطيف بازدراء: لن تحظى بما تريد حتى لو ذهبنا، فإن الباشوات والبكوات خصوا بالبهو الأمامي وحدهم، فإذا ذهبت فستجد نفسك بين الشباب من الأهل والأصدقاء في البهو الخلفي، وليس هذا ما تريد، وددت لو أمكن أن نندس في الحجرات العليا التي تموج بأفخر مثل الجمال. - مثال واحد يعنيني، مثال المثل، الذي لم تقع عليه عيناي منذ يوم الاعتراف، هتك سري وذهب.

لا أكتمك أني مشوق إلى رؤية الكبراء، قال حسين لي: إن والده قد دعا كثيرين ممن أقرأ عنهم في الصحف.

ضحك إسماعيل ضحكة عالية، وقال: أتحلم بأن ترى كبيرا وله أربع أعين أو ست أرجل؟ إنهم أناس مثلي ومثلك فضلا عن أنهم طاعنون في السن وذوو منظر لا يسر كثيرا، إني أفهم سر تطلعك إليهم، ما هو إلا ذيل لاهتمامك المفرط بالسياسة.

يجدر بي ألا أهتم بشيء ما في هذه الدنيا، لم تعد لي ولم أعد لها، غير أن اهتمامي بالكبراء مستمد في الحقيقة من هيامي بالعظمة، أنت تود أن تكون عظيما لا تنكر، ولك مؤهلاتك الواعدة من خلقة سقراط وآلام بتهوفن، أنت مدين بهذا التطلع للتي حرمتك النور بذهابها، غدا لن تجد لها أثرا في مصر كلها، يا جنون الألم! إن لك لسكرة! ... قال بتشوف: قال لي حسين: إن الحفلة ستجمع بين رجال من جميع الأحزاب. - صحيح، بالأمس دعا سعد الأحرار والوطنيين إلى حفلة الشاي المعروفة بالنادي السعدي، واليوم شداد بك يدعوهم إلى زفاف كريمته، رأيت من أصدقائك الوفديين: فتح الله بركات، وحمد الباسل، وجاء من الآخرين: ثروت، وإسماعيل صدقي، وعبد العزيز فهمي. شداد بك يعمل بهمة عالية، وحسنا فعل، لقد ولى عهد أفندينا، كان الشعب يهتف منشدا «الله حي ... عباس جي!» ولكن الحقيقة أنه ذهب إلى غير رجعة، فكان من الحكمة أن يعمل شداد بك للمستقبل حسابه، ويجب أن يسافر كل أعوام قلائل إلى سويسرا ليقدم إلى الخديو فروض طاعة كاذبة من باب الحيطة، ثم يعود ليواصل سيره الموفق.

قلبك يمقت هذه الحكمة، إن محنة سعد بالأمس القريب أثبتت أن الوطن مليء بهؤلاء الحكماء، ترى أشداد بك واحد منهم؟ والد المعبودة؟ مهلا إن المعبودة نفسها نزلت من علياء السماء لتقترن بواحد من البشر، ليتفتت قلبك حتى يعجزك لم أجزائه المتناثرة. - تصور أن حفلة كهذه تمضي بلا مطرب ولا مطربة!

قال إسماعيل بلهجة ساخرة: آل شداد نصف باريسيين، ينظرون إلى تقاليد الأفراح بازدراء غير قليل، ولا يسمحون لعالمة بأن تحيي حفلة في بيتهم، ولا يعترفون بمطرب من مطربينا، ألا تذكر حديث حسين عن هذا الأوركسترا الذي أراه الليلة لأول مرة في حياتي؟ إنه يعزف مساء الأحد من كل أسبوع في جروبي، وسينتقل إلى البهو بعد العشاء ليطرب الكبراء، دع هذا واعلم أن زينة الليلة هي العشاء والشمبانيا.

جليلة وصابر، وزفاف عائشة وخديجة؟ شتان بين الجوين، كم كنت سعيدا في تلك الأيام! الليلة يشيع الأوركسترا حلمك إلى القبر، أتذكر الذي رأيت من ثقب الباب؟ ... أسفي على الآلهة التي تتمرغ في التراب! - هذا شيء يهون، الذي آسف عليه حقا وسآسف عليه طويلا هو أنني لم أتمكن من مشاهدة الكبراء عن كثب، كنت أتطلع إلى سماع حديثهم لأفهم أمرين هامين: أولهما الموقف السياسي على حقيقته، وهل بات من المأمول حقا بعد الائتلاف أن يعود الدستور والحياة النيابية؟ والثاني كلام هؤلاء الناس العادي الذي يتبادلونه في مناسبة سعيدة كهذه، أليس بديعا أن تصغي إلى ثروت باشا مثلا وهو يثرثر ويمزح؟

نامعلوم صفحہ