فقالت خديجة بإصرار: إني أعني كل كلمة قلتها، وإذا كان يعجبك أن تغني ابنتك عند الجيران وترقص ابنتها، فهل يعجبك أيضا أن تدخن كالرجال؟ نعم، ها أنت تدهشين! أكرر على مسمعك أن عائشة تدخن، وأن التدخين صار لها كيفا لا تملك الامتناع عنه، وأن زوجها يعطيها العلبة، ويقول لها بكل بساطة: «علبتك يا شوشو!» رأيتها بنفسي وهي تأخذ النفس وهي تخرجه من فمها وأنفها، أنفها أتسمعين؟ لم تعد تخفي عني ذلك كما كانت تفعل أول الأمر ، بل دعتني إليه مرة بحجة أنه مهدئ للأعصاب الحامية. هذه هي عائشة، فما قولك؟ وما قول أبي يا ترى؟
ساد الصمت، وبدت أمينة في حيرة شائكة، غير أنها صممت على خطة التهدئة التي التزمتها، قالت: التدخين عادة قبيحة بالقياس إلى الرجال أنفسهم، أبوك لم يدخن قط، فماذا أقول عنه بالنسبة للنساء؟ ولكن ما القول أيضا إذا كان زوجها هو الذي أغراها به وعلمها إياه؟ ما الحيلة يا خديجة؟ إنها لزوجها لا لنا، ولم يبق إلا النصح إن كان يجدي.
فجعلت خديجة تنظر إليها في صمت وشى بترددها قبل أن تقول: إن زوجها يدللها تدليلا معيبا حتى أفسدها وأشركها في كافة معاصيه، ليس التدخين بشر عاداته، ولكنه يشرب الخمر في بيته دون حياء، إن بيته لا يخلو من الزجاجة كأنها ضرورة من ضرورات الحياة، وسوف يوقعها في الخمر كما أوقعها في التدخين، لم لا؟ العجوز تعلم بأن شقة ابنها حانة، ولكنها لا تكترث لذلك، سوف يسقيها الخمر، بل إني أقطع بأنه فعل، فإني شممت مرة في فمها رائحة غريبة، وسألتها عنها وضيقت عليها رغم إنكارها. أؤكد لك أنها شربت الخمر، وأنها بسبيل اعتيادها كالتدخين.
صاحت الأم في يأس: إلا هذا يا رب، ارحمي نفسك وارحمينا، اتقي الله يا خديجة. - إني تقية وربنا عالم، لا أدخن، ولا تفوح من في روائح مريبة. ولا أسمح للخمر بأن تدخل شقتي، ألم تعلمي بأن البغل الآخر حاول أن يقتني هذه الزجاجة المحرمة؟ ولكني وقفت له بالمرصاد، قلت له بصريح العبارة: إني لا أبقى مع زجاجة خمر في شقة واحدة، فتراجع أمام تصميمي، وجعل يحتفظ بزجاجته عند أخيه في شقة الهانم التي خانتني بالأمس، وكلما صرخت لاعنة الخمر وشاربيها، قال لي - قطع الله لسانه -: «من أين جئت بهذه الحنبلية؟ هذا أبوك منبع الأنس كله، وقل أن يخلو له مجلس من الكأس والعود!» أسمعت ماذا يقال عن أبي في بيت آل شوكت؟
لاحت في عيني أمينة نظرة حزن وجزع، وجعلت تقبض راحتيها وتبسطهما في اضطراب وقلق، ثم قالت بصوت نمت نبراته عن التشكي والتألم: رحماك يا ربي، لم نخلق لشيء من هذا، عندك العفو والرحمة، يا ويل النساء من الرجال، لن أسكت ولا يصح أن أسكت، سأحاسب عائشة حسابا عسيرا، ولكني لا أصدق ما تقولين عنها، إن سوء ظنك بها جعلك تتخيلين ما لا أصل له، ابنتي طاهرة، وستظل طاهرة ولو انقلب زوجها شيطانا، سأحدثها حديثا صريحا، وسأحادث سي خليل نفسه إن لزم الأمر، فليشرب كما يشاء حتى يتوب الله عليه. أما ابنتي فحد الله بينها وبين الشيطان.
هفت على نفس خديجة نسمة راحة لأول مرة، فتابعت جزع أمها بعين راضية، واطمأنت إلى أن عائشة ستشعر قريبا بمدى الخسران الذي منيت به جزاء خيانتها، ولم تأبه كثيرا لما أضفت على الوقائع من مبالغة في التصوير، أو حدة في الوصف مما جعلها تسمي شقة أختها حانة، وهي تعلم بأن إبراهيم وخليل لا يقربان الخمر إلا في أحوال نادرة، وفي اعتدال لم يبلغ حد السكر أبدا، ولكنها كانت حانقة ثائرة، أما ما قيل عن أبيها من أنه منبع الأنس ... إلخ، فقول أعادته على أمها بلهجة استنكار لا تدع مجالا للشك في كفرها به، ولكن الحقيقة أنها اضطرت من زمن إلى التسليم بما يقال أمام إجماع إبراهيم وخليل وأمهما العجوز، خصوصا وأنهم كاشفوها بما يعلمون عنه في غير ما تحامل عليه أو انتقاد له، بل وهم ينوهون بأريحيته ويعقدون له زعامة الظرف في عصره، قابلت ذلك بادئ الأمر بعناد غليظ، ثم داخلها الشك رويدا وإن لم تعلنه، ووجدت عسرا شديدا في مزج هذه الصفات الجديدة بالشخصية الوقور الجبارة التي آمنت بها طوال حياتها، غير أن هذا الشك لم يهون من شأنها وجلالها، بل لعلها أثرت في نظرها بما انضاف إليها من ظرف وأريحية. لم تقنع بما أحرزت من نصر، فعادت تقول بلهجة التحريض: عائشة لم تخني فحسب، ولكنها خانتك أنت أيضا.
وصمتت ريثما يتغلغل قولها في الأعماق، ثم استطردت قائلة: إنها تزور ياسين ومريم في قصر الشوق.
هتفت أمينة وهي تحملق فيها بفزع: ماذا قلت؟
فقالت وهي تشعر بأنها تسورت ذروة الظفر: هذه هي الحقيقة المحزنة! زارنا ياسين ومريم أكثر من مرة، زارا عائشة وزاراني، أقول الحق أني اضطررت لاستقبالهما وما كاد يسعني إلا أن أفعل إكراما لياسين، غير أنه كان استقبالا متحفظا، ودعاني ياسين إلى زيارة قصر الشوق، ولست في حاجة إلى أن أقول لك إنني لم أذهب، وتكررت الزيارة دون أن يغير ذلك من تصميمي، حتى قالت لي مريم: «لم لا تزورينا ونحن أختان من قديم الزمان؟» ولكني اعتذرت بشتى المعاذير، وبذلت كل حيلها لاجتذابي، وجعلت تشكو لي معاملة ياسين لها، واعوجاج سلوكه، وانصرافه عنها علها ترقق قلبي، ولكني لم أفتح لها صدري، عائشة على خلاف ذلك، تستقبلها بالترحيب والقبل. الأدهى من ذلك أنها تبادلها الزيارة، وقد صحبت معها مرة سي خليل، وفي مرة أخرى صحبت نعيمة وعثمان ومحمد. لشد ما تبدو سعيدة بتجديد صداقتها لمريم، وقد نبهتها إلى مجاوزتها الحد في ذلك، فقالت لي: «لا مأخذ على مريم، إلا أننا رفضنا يوما أن نجعل منها خطيبة للمرحوم الغالي، فأي وجه للعدل في هذا؟» قلت لها: «أنسيت الجندي الإنجليزي؟» فقالت لي: «لا ينبغي أن نذكر إلا أنها زوجة أخينا الأكبر.» هل سمعت يا نينة عن شيء كهذا من قبل؟
استسلمت أمينة للحزن، فنكست رأسها ولاذت بالصمت، فجعلت خديجة تنظر إليها مليا، ثم عادت تقول: هذه هي عائشة بلا زيادة ولا نقصان، عائشة التي شهدت علي أمس فأذلتني أمام العجوز المخرفة.
نامعلوم صفحہ