ولم يشأ القدر أن يحقق هذه الأمنية، فماتت سهير، وكان موتها بعد حين قصير من خروج الطبيب المعالج، باسم الثغر، يهنئ الأسرة والقصر بقرب شفاء المريضة العزيزة ... لم يكن الطبيب خاطئا كل الخطأ، لقد شفيت من آلامها جميعا، من آلام نفسها ومن آلام جسمها، وانتقلت روحها إلى عليين لدى ملك لا يمنع الظل لائذا، الرحمة الكبرى وراء سمائه، تلف التقي في سيبها والمعاصي.
أقبل المعزون، ووقف سليمان وأحمد ووصفي يستقبلونهم، لا يكاد واحد منهم أن يقيم أوده من الحزن، وكان وصفي أشدهم ألما، وأكثرهم اضطرابا، لأنه الوحيد بينهم الذي لا يستطيع أن يتيح لألمه طريقا يخرج منه إلى الحياة، كانت الدموع تمور في عينيه فيحبسها، فالعرف والتقاليد سياج حولها أن تسيل، وتزحم الدموع نفسه، إنها دموع سنوات كثيرة، إنها ذكريات الشباب الأولى والساعات المشرقة في حياته، إنها دموع تحمل في رقراقها صور الماضي كلها، والماضي قطعة من نفسه، بل إنه عند وصفي في موقفه هذا النفس كلها، ويلجأ وصفي إلى القصر يبحث فيه عن مكان يستر دموعه المائجة فلا يجد، ويخرج من القصر إلى الحديقة، وينفض المكان بعينيه، فيرى جميع من في الحديقة مشغولا بأمر المأتم، وكما كان يفعل في الأيام الخوالي، يسير الهوينا في المماشي حتى يبلغ السلم ... السلم القديم، فينفض المكان مرة أخرى دون أن يفكر فيما يفعل، ثم ينزل السلم وثبا، كأنه ذلك الشاب الذي كانه منذ حين بعيد ... بعيد غاية البعد، وما يكاد وصفي يصل إلى المقاعد التي شهدت قطعا كثيرة غالية من حياته ، ما يكاد حتى يرتمي إلى أحدها، وينخرط في بكاء عالي النشيج، يستره القرآن الذي يتصاعد من المأتم أن يبلغ إلى أذن، ويحيط به هذا القرآن نفسه في حنان وإشفاق وسمو.
كان فوزي بين المعزين، وقد انتهز فرصة انفرد فيها أحمد، وجاء ليجلس إلى جانبه: البركة فيك يا أحمد.
ونظر إليه أحمد، ثم لم يجب، فقال فوزي: خرجت بالأمس من المعتقل، وقد جئت أعزيك وأشكرك، فقد عرفت أنك رجوت وصفي باشا من أجلي، ولولاه لكنت معتقلا حتى الآن، لقد كنت نبيلا يا أحمد، وكنت رجلا.
وقال أحمد في هدوء وفي صوت خفيض: أقبل عزاءك مع الشكر، أما شكرك فلا أقبله بحال من الأحوال، فقد سعيت لإخراجك إشفاقا على أبيك المريض، وأمك التي أصبحت بلا عائل إلا أنت، وإن رأيي فيك الذي قلته لك يوم طلقت هناء يزداد عمقا في نفسي ... وإن وصفك لي بالنبل أمر آخذه أنا على محمل الهجاء لا الحمد، فمديح مثلك مسبة للممدوح!
وما زلت أرجو ألا أراك أبدا بعد اليوم ... أشكرك.
وقام أحمد عن فوزي في نفس الهدوء الذي كان يلقي به هذا الحديث، ولم ينظر أحمد وراءه ليرى فوزي وهو ينصرف، ولكنه أحس على رغم قسوته أنه يسير في الطريق التي يريدها لنفسه.
انتهت الليلة، وبحث أحمد عن أبيه في السرادق فلم يجده، فصعد إلى الدور الأعلى من القصر، وقصد إلى حجرته، ولكنه لم يجده، فعجب بعض الشيء، وقصد إلى غرفة نومه هو، وراح يخلع ملابسه، وما إن استبدلها بملابس النوم، حتى جلس قليلا مطرقا، ثم قام في هدوء خارجا من الغرفة، قاصدا إلى غرفة أمه، يسير إليها وكأنه يتوقع أن يجدها، وفتح أحمد باب الغرفة فطالعه ظلام زاده قتاما أن أغلق الباب من خلفه، وقصد أحمد إلى حيث كان رأس سهير، وركع إلى جانب السرير، وغمر وجهه في الوسادة، ولكن صوت نشيج ما لبث أن علا إلى أذنه يأتي إليه من قريب، ورفع أحمد رأسه وأدار عينه إلى حيث النشيج، ثم مد يده فلمست كتفا عرفها، وزحف أحمد إلى جانب أبيه، واحتضنه بذراعه، وربت كتفه، والتفت إليه أبوه، وكانت عينا أحمد قد تعودتا الظلمة، فاستطاع أن يرى على ضوء شعاع ينسكب من زجاج الباب وجه أبيه مغطى بالدموع، واضطرب أحمد لدموع أبيه العصية، وازداد اضطرابا حين وجد أباه يرتمي بين أحضانه، وكأنما هو الابن فقد أمه، اضطرب أحمد هنيهات، ثم تمالك نفسه، وسكن جأشه، واحتوى أباه بذراعيه في حنان، والتقت الدموع!
نامعلوم صفحہ