وقبل أن تسمع هناء كلمة أخرى من هذا الحديث الذي لم تسمع غيره منذ تزوجت ابن هذه المرأة، سارعت إلى الباب الخارجي للشقة وانفلتت منه إلى الخارج، وهي لا تكاد تصدق أنها أصبحت في الطريق، ونزلت إلى الشارع، ووجهها كله عزم وإصرار، ونادت أول سيارة أجرة، وأعطت السائق عنوان خالتها.
وعند الباب الخارجي نزلت، وطلبت إلى السائق أن ينتظر، وقفزت السلالم قفزا سريعا متواثبا إلى حجرة نوال، فوجدتها قد ارتدت ثيابها وجلست تنتظرها. - نوال. - ماذا؟ - قلت لي: إن لك صديقة ذهبت إلى يهودي أجرى لها عملية إجهاض، لأن زوجها فقير لا يريد أطفالا أكثر مما لديه. - نعم. - ما عنوان هذا اليهودي؟ - وكيف لي أن أعرفه؟ - طبعا صديقتك ليس لها تليفون. - بالطبع لا، إنها صديقتي من المدرسة، وقد قصت علي هذا الحديث حين زارتني، ما الذي أذكرك به؟ - أريد أن أذهب إلى هذا اليهودي. - هل أنت مجنونة؟! - أريد أن أذهب إلى هذا اليهودي. - وكيف لي أن أعرف مكانه. - ما عنوان صديقتك؟ أنت تعرفينه، لقد قلت لي إنها اصطحبتك يوما إلى بيتها. - ماذا تريدين أن تفعلي؟ - هل تعرفين عنوانها؟ - نعم. - فقومي معي. - هل أنت مجنونة؟ - ليس بعد، أنا الآن في تمام عقلي، وسأكون مجنونة إذا لم أفعل ما أنا مقدمة عليه. - ماذا تريدين أن تفعلي؟ - أنا حامل في شهري الثاني، وأريد أن أجهض نفسي الآن.
ودقت نوال صدرها بيدها قائلة: ماذا؟ - اسمعي، أمي أضاعت حياتها من أجل أخي أحمد ومن أجلي، لا أريد أن أضيع حياتي، لا أستطيع العيش مع فوزي، لقد حاولت، حاولت بكل ما أستطيع، لا أطيق العيش معه، لقد حاولت أن أكتم عن أمي ما أقاسيه لأنني أنا من اخترته، أما الآن فلا يهمني ما تفعله بي أمي، لا يهمني شيء في الوجود إلا أن أنقذ نفسي من هذه النار التي ألقيت بنفسي إليها، أنا أكره فوزي، أكرهه بدمي جميعا، بل إن شعوري نحوه أشد من الكره، لا ليس شعورا ما أحسه نحوه، إنه إسقاط له من حياتي جميعا، إنه شيء حقير قذر، دنس فترة من حياتي، ولا أريده أن يدنس حياتي جميعها، لا أستطيع العيش معه.
وترقرقت الدموع في عيني نوال وهي تقول: وما ذنب طفلك؟ - إنه لم يعد طفلا بعد، ولا أريده أن يتحمل حياة لم يجن هو شيئا فيها، نعم إنه لا ذنب له، ولذلك أريد أن أنقذه من أبيه حين يكبر، وأريد أن أنقذه من العيشة بلا أب قبل أن يكبر، وأريد أن أنقذه من الحقيقة التي كشفتها في أبيه، إنه شيء بلا أخلاق ... بلا أخلاق على الإطلاق، ليس لأي شيء قيمة في نظره، أريد أن أنقذ ابني من أبيه، وأريد أن أنقذ نفسي من أمومة أشك في أنها ستكون صالحة، إن هذا الجنين الذي في أحشائي لا يزال جنينا، أريد أن أخلصه من الحياة قبل أن يلتقي بالحياة.
وكانت الدموع تنهمر من عيني هناء وهي تتحدث، كما كانت تنهمر من عيني نوال، ولكنها مع ذلك استطاعت أن تقول أقسى قول يمكن أن يقال لهناء في لحظتها تلك: أليس هذا هو فوزي الذي أشقيت به المسكين حسام؟
ونظرت إليها هناء نظرات آلمة حزينة، ثم أطرقت وهي تقول: لا، ليس هو، لم أعرفه إلا حين لم تعد لمعرفتي به فائدة.
وقالت نوال في حزم: قومي.
واستأذنت نوال من أمها، وخرجت مع هناء، وما هو إلا بعض الحين حتى كانتا بالمكان الذي يقيم به اليهودي، وما هو إلا بعض آخر من الحين، حتى أصبحت هناء وهي لا تحمل إلا روحا واحدة هي روحها، ونزلت إلى السيارة ومعها نوال.
وفي الطريق إلى البيت انخرطت هناء في بكاء حاد عنيف، ولكنها لم تجد له في نفسها ألما، أحست كأنها إنسانة ضحت، وأن حلاوة التضحية تمسح عن نفسها الألم الذي عانته، ألم الأم تقضي على ابن أحشائها.
ووقفت السيارة عند باب القصر العتيد، ونزلت هناء وانية شاحبة اللون، وصعدت الدرج في إعياء تساندها نوال، فما إن بلغت أمها حتى هبت إليها الأم مذعورة تسألها ما بها، ولكن هناء لم تستطع إجابة، فقد اجتمع عليها الألم والإعياء والحزن واليأس، فلم تجب أمها، وإنما سارت في خطواتها الوئيدة المتهالكة إلى حجرتها، وفتحت بابها في ضعف، وأمها من ورائها لا تني عن سؤالها عما بها، وهي لا تني عن الصمت، حتى إذا بلغت السرير ارتمت عليه، وصعدت شهيقا عميقا، كأنها تطرد به من نفسها كل الآلام التي قاستها، ثم قالت في همهمة: أخيرا ... الحمد لله.
نامعلوم صفحہ