وأعادت هناء الحديث في إصرار: نعم، يحسن أن يتم هذا برضاك.
وقالت الأم ذاهلة: ألهذا الحد؟
وقالت هناء وهي على إصرارها لا تزال: نعم.
ثم تركت الغرفة، وخرجت واثقة الخطوات، حازمة القسمات، وظلت أمها تنظر إلى ظهرها وهو يغيب عنها، فما ردها غيابه عن أن تظل مثبتة العينين إلى حيث اختفت ابنتها، ذاهلة النظرة، والهة حسرى، تتنزى نفسها ألما وخوفا وحيرة.
الفصل الثالث والعشرون
كان أحمد جالسا في حجرة مكتبه حين دخل إليه السيد حليق اللحية، لا يزال الدم ينهمر من مواضع كثيرة في وجهه، من أثر السرعة التي أزال بها لحيته، وكانت عيناه تائهتين في نظرة هالعة، وجسمه جميعه ينتفض في خوف راعد، ولم يلتفت أحمد من أمره إلا إلى هذا الجديد الذي طرأ عليه، فقال في سخرية ضاحكة: الله ... شيخ سيد، ذقنك! أين المرحومة؟
وأجاب سيد في هلع غير مكترث بمزاح أحمد: أحمد، البوليس يبحث عني.
وارتسمت على وجه أحمد أمارات الجد وهو يقول: ماذا؟ البوليس؟ لماذا؟ - منذ مقتل النقراشي والحكومة تقبض على أفراد الجماعة جميعهم.
وضحك أحمد محاولا أن يهدئ من روع السيد، وقال له: ما هذا الكلام؟ وأنت ما دخلك بمقتل النقراشي؟ - لقد قبض على جميع زملائي، وأعتقد أنهم سيقبضون علي حالا، أحسن طريقة أن أترك البيت.
وقال أحمد ساخرا، فما كان يعتقد أن للسيد هذه الأهمية كلها: ما هذا الكلام الفارغ؟ أنت تخيف نفسك بلا مبرر، وعلى كل حال ماذا تريد أن تفعل؟ - أريد أن أهرب، وسأتصل بك يوميا في التليفون، فإذا لم أتصل بك يوما فاعلم أنهم قبضوا علي، واتصل بوصفي باشا فورا. - وصفي باشا؟ - قل له إنني سأترك الإخوان، أرجوك يا أحمد، أنت لا تعرف مقدار شقائي بالسجن إن أنا سجنت، أنا أمل عائلة، ونحن قوم نريد أن نعيش يا سي أحمد، وقد كان طيشا وسأتركه، أرجوك يا أحمد بك. - يا أخي، أنت لا تحتاج إلى هذا الرجاء الطويل، وماذا تظنني كنت فاعلا؟ طبعا كنت سأذهب إلى وصفي باشا. - طيب سلام عليكم. - وعليكم السلام، انتظر! أين ستختفي؟ - هل معك نظارة سوداء؟ - نعم ها هي ذي، أين ستختفي؟ - لا أدري، قد أخبرك حين أتصل بك. - وكم معك؟ - ماذا؟ فلوس؟ معي جنيهان؟ - مبلغ لا يكفي طبعا، خذ، أنا ليس معي إلا أربعة جنيهات، خذها. - شكرا، أظن أن ما معي يكفي. - خذ، وحين تكلمني أكون قد أعددت لك مبلغا آخر.
نامعلوم صفحہ