وقالت سهير: تمام المعرفة يا أبي. - لعلك غاضبة الليلة من أمر ما، فيحسن أن تتروي في الأمر، وتفكري فيه وأنت بعيدة عن الغضب لحظة، إنها حياتك يا سهير، حياتك كلها. - أبي، إذا كنت أنت لا تريدني أن أتزوج من سليمان فأمرك، ولا أخرج عن أمرك، أما أنا ... أما أنا ...
وجمعت كل قواها الباقية لتكمل الجملة قائلة: أما أنا فأقبله يا أبي. - أواثقة أنت يا سهير؟ - كل الثقة يا أبي، إني أقبله.
وكان الباشا صادقا مع نفسه، وصادقا مع قومه، لقد قبلت ابنته الزواج من سليمان، ولا بد له أن يوافق، فهو ابن أخيه ولا يستطيع أن يرفضه، وقد كان أمله الوحيد في الرفض معلقا بابنته، ولكن ها هي ذي تقبل، فماذا بقي له؟ إنها حياتها، وهي فيها حرة، ويل لها من الأيام، أيكون سليمان زوجا لابنتي هذه؟ ويل لها من الأيام!
الفصل السابع
أصبح الصباح على الباشا، فإذا بوعكة الأمس تصبح مرضا، فهو لا يطيق أن يبرح فراشه، وجاء الأطباء واجتمعوا حول سرير الباشا وقرروا ألا يبرحه لمدة شهر على الأقل، ووصفوا له العلاج وخرجوا، وانشغل المنزل جميعه بمرض الباشا، ونسيت السيدة تفيدة في غمرة علاج الباشا ما كان بالأمس من خطبة وصفي، وانشغلت سميحة بأبيها أيضا، أما سهير فقد راحت تنفذ أوامر الأطباء في صرامة قاسية، باذلة أقصى جهدها في خدمة أبيها، ولكن دون أن تنسى، وكيف لها أن تنسى؟!
ومرت أيام والدار مقصد زوار لا ينقطع لهم سيل، فأما في الدور الأعلى فسيدات الأسرة حزنهن حزنان، حزن لمرض الباشا، وحزن يظهرنه - وإن لم يتمكن في نفوسهن - لخطبة وصفي لغير سهير.
وكانت بنات الباشا الكبيرات مع الزائرات، وإن كن يطلن من أمد الزيارة، وقد يطيب لإحداهن أن تغيظ زوج أبيها، فتبيت ليلة أو أكثر من ليلة في قصر أبيها، وكن إذا جلسن إلى زوج أبيهن أبدين أسفا لمرض أبيهن، وأسفا آخر مستترا بالحديث الملفوف لخطبة وصفي، مبديات انشغالهن على مصير أختيهن، حتى إذا خلت بهن حجرة، راحت كل منهن تبدي سخريتها المرحة لما أصاب القصر من مصائب ، مرددات أن هذه المصائب إنما هي ذنب أمهن المسكينة التي تزوج أبوهن عليها دون ذنب أو جريرة، ولكن هذا لم يمنعهن أن يشفقن على أبيهن، وأن يتمنين له الشفاء.
وأما الدور الأسفل فقد كان يحفل بالرجال، لا يصعد أحد منهم إلى الدور الأعلى، فإن الباشا كان لا يلقى أحدا، وأحد لا يستطيع أن يصعد إلى الدور الأعلى ما دام الباشا لا يلقاه، فما تلقى السيدة إلا إخوتها هي دون إخوة الباشا، فهم لا يصعدون، وإنما يمكثون بالدور الأول يتعرفون الأخبار من الأطباء حين نزولهم، ويلقون الزوار ويشكرون زيارتهم، كان رجال الأسرة جميعهم يلتقون بالدور الأول ويظلون به الساعات، لا فارق ثمة بين إخوة الباشا وأبناء إخوته وبين غيرهم من أفراد الأسرة، فالجميع له إخوة وأبناء إخوة.
وكان وصفي وسليمان على حالهما من المواظبة، يظلان بالقصر ما اتسع لهما الوقت، وكانت خطبة وصفي قد عرفت في مجال الأسرة، فراحت التهنئات تترى إليه، ولكنها تهنئات ذاهلة، أذهلها إخلاف الخطبة لظنونهم، وأذهلها انتظام وصفي في المجيء إلى دار عمه رغم خطبته، وكانت تهنئات واجمة أيضا؛ فقد كان مرض الباشا يخيفهم جميعا.
لم يكن سليمان يعلم ما جرت به الأمور بعد خطبة وصفي، ومن أين له أن يعلم؟! ولكن آماله كانت قد تضخمت، فهو أكثر رفعا للكلفة في القصر، وهو من يجلس في الشرفة الخارجية ليكون أول مستقبل للزوار، وهو من يودع الزائر حتى عربته أو سيارته.
نامعلوم صفحہ