وتقليد التجارب المثيرة لذة أيضا. الأب أول من قلدت والأم أيضا. وقبل ذلك فترة يسيرة ثم انقطع بالزجر. وسيدنا شيخ الكتاب ومقرعته، ألف المنديل حول رأسي كعمامة، أتربع على صندوق، وتجلس الخادم على الأرض بين يدي، أحاكي صوته وألوح بالعصا، وألقي الدرس، وأسمع وأعاقب آخذا ثأري من كل ما لحقني في يومي الثقيل، أو أغطي الصندوق بملاءة فيكون قبرا، وأخاطبه كما يخاطب والدي القبر: «السلام عليك يا أبي، والسلام عليك يا أمي»، وأتلو ما تيسر، وتنزعج أمي لذلك غاية الانزعاج وتنهال علي باللكمات. وأقلد الفتوات لاعبا بالعصا في الهواء، وأقلد المتظاهرين هاتفا بحياة سعد، وسقوط الحماية، وأقلد الباعة، والعوالم، وبعض الزائرات ذوات اللوازم الغريبة، وأحيانا أقلد «الردح» الذي يصدم سمعي في الميدان، ويهزني ما أثيره من سخط أو إعجاب تبعا للظروف والأحوال. •••
والجولات السعيدة في مساكن الإخوة والأخوات، تنطلق بنا من الحي العتيق إلى أحياء جديدة كالحدائق، والسكاكيني، والظاهر، وغمرة، في مسكن ألقى رجلا غريبا، وفي آخر أجد امرأة غريبة، ولكننا نقابل عند الجميع بالحب والترحاب. وهناك المواليد الجدد، يرقدون في المهد أو يحبون، وأنا بالقياس إليهم رجل بالغ الرشد. وتنهال علي القبلات والحلوى، وألاعب الصغار تحت رقابة مشددة. وتختلف درجات الحب بالنسبة إلي بين بيت وبيت، فبيت يتراءى لي وكأنه امتداد لبيتي في ألفته وحرارته، وآخر لا يخلو من شيء من التحفظ الذي لا يشعر به سواي، ولكنها بصفة عامة أسرة متماسكة متوادة متحابة، لا أذكر أن نبت في أرضها الخضراء شوكة واحدة، وشد ما أحببتهم جميعا كما أحبوني. •••
ودنيا الآثار العجيبة طفت بأرجائها المترامية، قبل أن ألتحق بأية مدرسة. وعندما عدت إليها في الرحلات المدرسية كانت عودة إلى أرض العجائب، التي نقشت رموزها في القلب والخيال إلى الأبد. الخطوة الأولى بدأتها مع الأب، ثم وقعت الأم في شباكها، فصارت من طقوس تقواها الأضرحة والمساجد الأثرية، وبعض الكنائس، وتكايا الصوفية، والأهرام، ودار الآثار الفرعونية، والإسلامية، والقبطية، كم حركت من خيالي وأثارت من شجوني. وحديث أبي عنها موجز جدا وجاف، أما الأم فلا أدري من أين جاءت بكل تلك الأساطير عنها. وأطول وقت قضيناه في حجرة المومياوات المحنطة، تنحني فوق التابوت متفحصة المومياء بخشوع وأسى، وأسألها: أهم أحياء ؟
فتقول: أموات من زمن بعيد. - هل أهلنا في القبر مثلهم الآن؟
فتقول بجدية: الله أعلم بحالهم.
وأسأل باهتمام: هل كلنا سنموت؟
فتقول باسمة: بعد عمر طويل إن شاء الله.
ولعل جوابها طمأن قلبي! •••
والصداقة من نعم الحياة الكبرى. دائما وجد الصديق، فوق السطح، في الميدان، في الحارة. ومنهم العابر، والمقيم. من العابرين أقرباء ينزلون عندنا إذا جاءوا من الريف، ومن أبناء العم والعمة. نلعب معا في البيت وخارجه، وأكون لهم مرشدا لحي الحسين فيسيرون ورائي كالسياح - ونحن نقزقز اللب - من بيت القاضي إلى خان جعفر، إلى الحسين، والسكة الجديدة، والغورية، والصاغة، والنحاسين، والوطاويط، وقرمز، والكبابجي، وبين القصرين، وحارة الشوام، وقصر الشوق، والسكرية؛ ثم نتفرج على المجاذيب عند الباب الأخضر. أما المقيمون فكثرة ترهق الحصر، ولكن يتصفون باللطف والمسالمة في أغلب الأحوال. يحبون السباق والجري وراء عربات الرش، وحكي الحكايات، والترنم بالأغاني الجماعية، يتميز بينهم بالأناقة أبناء دكتور العيون، والشيخ بشير والد فاتنتي. ولم يخل التجوال من لقاء من نطلق عليهم أبناء الشوارع، وهم رغم أسمالهم البالية، وأقدامهم الحافية على قدر كبير من خفة الروح، أما خرقهم للتقاليد المرعية فلا حدود له، يرددون الأغاني الفاحشة فنشعر بالفطرة أنها ترشح من يحفظها للنار وبئس القرار. ويوم يمر دون لقاء مع أولئك أو هؤلاء لا يحسب من العمر. •••
حتى تلك السن المبكرة جدا لم تخل من الحومان حول الجنس الآخر، والانسياق مع جاذبية المغامرات الخاطفة، واكتشاف كنوز الفواكه المحرمة، تتم في حذر يفضح الشعور بالإثم، والوعي لحد ما بالذنب. ودعك من فاتنتي التي تتخايل في حصنها كالحلم، فهناك حجرة السطح وبئر السلم يشهدان حوادث مثيرة وغير نادرة، فضلا عن أن سحر النساء ينفث نداءاته الغامضة في عمق وسرية وبلا انقطاع، وغير مفرق بين غريبة وقريبة، يافعة أو ناضجة. •••
نامعلوم صفحہ