وألحت عليه ماري تمضية ذلك المساء بقربها ففعل، وأخذ يعاونها في تهيئة مهمات السفر، وبشائر السرور تضرب في قلبيهما مبشرة إياهما بسفر جميل ومستقبل بهي.
فنتركهما يمرحان في بحبوحة آمالهما، ونعود حيث تركنا روزه مغمى عليها، فبعد أن مضى عليها بعض دقائق دخلت خادمتها فرأتها على تلك الحال، فاعتنت بها إلى أن ثاب إليها رشدها، ولما استفاقت شعرت بقوة حديدية، أعادت إليها حياة كانت تظنها من هنيهة قد قاربت الانطفاء. فإن مشاهدة عزيز الأخيرة وما رأت عليه من علائم الصحة والبشر، ومظاهر الود نحو خطيبته الجديدة قد قطع الشريان الأخير الذي يربط قلبها به، فخرجت من ذلك اليم مطلقة القياد، أقوى منها على كفكفة الدمع ومداواة جرح الفؤاد.
الفصل الثامن عشر
السفر
وفي اليوم العاشر من شهر مايو كانت باخرة فرنسية تمخر مياه المتوسط، وقد صفا لها وجه السماء، وسادت السكينة فوق سطح المياه، ووقف الخطيبان فوق ظهر السفينة، يتمعنان النظر بجمال الطبيعة، والنسيم يهب عليهما مداعبا، فيقبل ورد الخدود، ويرتشف كوثر الثغور.
وفي صباح اليوم الثاني رست السفينة في ميناء بيروت، فخرج المسافرون أفواجا إلى ظهرها، يرسلون النظر إلى تلك المدينة التي خصتها الطبيعة بجمال الموقع واعتدال الإقليم، فبسطت أجنحة سهولها بشكل نصف دائرة، ينتهي طرفاها بلسانين يدخلان في البحر، وكلها مزدانة بالمناظر الطبيعية الجميلة والمباني الفخمة، وقد بدت في أعلاها جبال لبنان بارزة بحلتها الخضراء، وقد بيض الثلج مفرقها، وأرسلت الغزالة من لحاظها سهاما أصابت كبد شيخوختها، فلمع بارق ثغرها بابتسامة أعادت إليها حرارة الشباب، واندفعت تشارك الطبيعة بهجتها.
وكانت الزوارق قد انتشرت حول السفينة انتشار الجراد، وجعلت نوتيتها تساعد المسافرين على النزول، فلم تكن ساعة حتى أقفرت الباخرة، وسار كل من المسافرين إلى وجهته.
وقضت أسرة حبيب ليلة في أحد فنادق بيروت، وفي اليوم التالي ساروا إلى جبال لبنان، فجعلوا يتنقلون في قراها، يتمعنون النفس بجمال مناظرها وجودة هواها، وكانت ماري أشدهم سرورا بتلك المشاهد الطبيعية التي لم تكن قد ألفتها، وكانت تقضي أكثر أوقاتها في الحقول، تجمع من زهور البرية ما استطاعت يداها الناعمتان قطفه، وتعود إلى منزلها مشرقة الوجه باسمة الثغر، فيقابلها والدها بالابتسام، ويتشاغل بحلاوة حديثها وقبلاتها عن مر التذكار، الذي ما فتئ يتردد في مخيلته منذ وجوده في تلك الجهات، التي قضى فيها غابر أيامه وماضي حياته.
أما عزيز، فكان همه التفكير في أمر مستقبله، والحصول على عمل يكون له من ورائه مركز حسن وثروة واسعة، وكثيرا ما كانت تتمثل له صورة روزه في خلوته مصوبة سهام عتابها إلى قلبه، فيهرب من ذلك التذكار، ويتلهى بمعاشرة ماري، والنظر إلى ألطف حركاتها، لائما قلبه على عصيانه وتفضيله تلك على خطيبته كونها تسويها جمالا وتزيدها غنى ووجاهة.
وكانوا قد انتهوا حينئذ إلى زحلة، فمكثوا فيها أسبوعا كاملا، ثم برحوها إلى بعلبك آسفين لفراقها، معجبين بجمال نهر البردوني الذي يتخلل تلك البلدة فيزيدها جمالا، ويجذب إليها قلوب النائين عنها.
نامعلوم صفحہ