قلب العراق رحلات وتاريخ
قلب العراق رحلات وتاريخ
اصناف
وقد مني ساطع بغير القبعة الإيرانية التي أوحت إليه بالمباراة. مني بأستاذ إيراني ينظم الشعر. كأن روح الأكاسرة جاءت تنتقم لإيران، جاءت تخلق لساطع قضية يقضى بها عليه، فقد سأله ذات يوم وزير المعارف أن يعين هذا الأستاذ الشاعر، معلما في إحدى المدارس. فرفض ساطع الطلب؛ لأن الشاب أجنبي، فقال الوزير: «سيتجنس بالجنسية العراقية.» ثم جاء الشاب يسأل ساطعا كم الراتب؟ ويقول: إن تغيير جنسيته هو أمر خطير. لقد كان التغيير موكولا بالراتب، حسب الظاهر، وكان الراتب محببا إليه التغيير. فصار عراقيا، ثم صار معلما في إحدى مدارس العراق.
ولكن حب بلاده، الرابض في فؤاده، استفاق بعد بضعة أشهر، فهيج فيه القريض، فنظم قصيدة باللغة العربية تبدأ بمديح إيران وتنتهي بهجو العراق وأهله وحكومته. فلا الجنسية، ولا العشرون دينارا، تفسد حب الأوطان. إلا أن قصيدة واحدة تكفي لتسلب الشاعر راحة باله - ووظيفته.
لقد عزل ساطع الشاب من وظيفته، فغضب الوزير وطلب أن يعاد إليها. فأبى ساطع، فأصر صاحب المعالي، ثم رفع القضية إلى جلالة الملك.
ولماذا يزعج الملك بمثل هذا الأمر، وهو من خصائص مدير المعارف؟ سأل ساطع نفسه هذا السؤال ثم، التمس إجازة بالسفر، وهو يقول: لهم أن يفعلوا ما يشاءون في غيابي. وكذلك كان، فقد أعيد الشاب إلى وظيفته لإرضاء صاحب المعالي، وأعفي منها بعد عشرة أيام.
وكان ساطع بعد عودته قد أدرك الحقيقة في حياته التعليمية، وهي أنه قرمية من السنديان، والحكومة تريد عيدانا من القصب أو من الخيزران. فاستعفى ساطع وتعين بعدئذ مديرا لكلية الحقوق.
مبارزة في علم التعليم
دعت الحكومة العراقية لجنة من الأساتذة الأميركيين المتخصصين بشئون التربية يرئسها الدكتور بول منرو، مدير المعهد الأممي وكلية التربية في جامعة كولمبيا بنيويورك، لدرس شئون المعارف في العراق واقتراح الإصلاحات اللازمة. فجاءت اللجنة، في آخر شباط سنة 1932، وعادت إلى بلادها في آخر نيسان، بعد أن قضت شهرين في ما تسميه «الكشف التعليمي» فزارت مدارس بغداد وغيرها من المدن، وبعض مدارس القرى والعشائر ، فوصلت جنوبا إلى البصرة، وشمالا إلى الموصل، ثم وضعت تقريرا قدمته لوزارة المعارف، بسطت فيه مشاهداتها وآراءها، ثم اقتراحاتها الإصلاحية.
وبما أن الأستاذ ساطع الحصري كان المدير العام في الدور السابق، ومن المسئولين - رسميا - عما آلت إليه أحوال المعارف، نهض للرد على التقرير، فجاء رده في 150 صفحة وقد ختم برسائل منه إلى الأستاذ منرو ومن الأستاذ منرو إليه، لا تخلو من الإشارات المزرية، والكلمات الوجيزة اللاذعة.
هذه هي المبارزة التي استوقفتني، فأغريت بها. قرأت الكتابين، لا كطالب علم من العلوم الاختصاصية، بل كمتفرج تروقه المبارزة بين عقليتين الواحدة غربية والأخرى شرقية، وهو يتمنى الفوز - لا أكتمك ذلك - للثانية. فهل كان ما تمنيت؟ لا، وا أسفاه! ولا كان ما خشيت، فقد نسي فارسي المغوار خصمه غير مرة، فوقف، ورمحه مخفوض؛ ليشرح حال رجل مغبون مجروح. وبكلمة أخرى قد حالت شخصية الفارس العربي دون هدفه، فما كان سيره إليه متصلا، ولا كان طعنه دراكا؛ ليوقع بالخصم ما كنت أتمناه.
أقف ها هنا في المجاز. إن بين العقليتين فرقا ظاهرا أصليا. فالواحدة تثق بمقدرتها، والثانية تتهمك في إثباتها. قد لا تكون العقلية الأميركية أقوى وأمتن، ولكنها أكثر تجربة وتمرنا. إن العقلية العربية في ترجيعها - اسمح بالاستعارة - وفي وقفاتها الشخصية، تفسح لمناظرها مجالا للتبريز. أو أنها تمضي طليقة فتجول جولاتها الواسعة، وهي تهتز وتعتز، فتبعد عن هدفها، أو تضيعه، أو تنسى الخط الأقصر إليه. أما العقلية الأميركية فهي تقف مكانها، ثابتة فيه، قانعة به، مسرورة حتى بحدوده، فتضرب وتناضل بقوة مذخورة، دون أن تجازف بشيء من تلك القوة في الجولات اللامعات. هي لا تعنى بروائع الوثبات ولا تقيم لها وزنا، أو أنها تخشى أن ينكشف ما قد يكون كامنا من سخف في درعها، فتكتفي في النهاية، وهي تبتسم ابتسامة الاطمئنان، بأن تعد طعناتها الصائبة، وأن يحسب فوزها فوزا نسبيا.
نامعلوم صفحہ