قلب العراق رحلات وتاريخ
قلب العراق رحلات وتاريخ
اصناف
ويلي من الأرقام! فسينبري لي غدا أحد أرباب التاريخ الحديث المحققين المدققين ويوبخني قائلا: إن في بغداد خمسة وخمسين جامعا وأربعمائة وعشرة مقاه. فينبري له محقق مدقق آخر ويقول: المقاهي هي ثلاثمائة وتسعون عدا، والجوامع تسعة وأربعون. وتحتدم بعد ذلك المناقشة، فيخرج من أحد المقاهي جاحظها ليعدها، ويتبرع أحد الأئمة أو المؤذنين بإحصاء الجوامع والمساجد!
وعندئذ يتبين أننا كلنا في خطأ معيب. وإن كان الفرق، صاعدا أو نازلا، لا يتجاوز العشرة أو العشرين. بيد أن ذلك في علم التاريخ ارتقاء يذكر. والفضل فيه لمن وجه السؤال ذات يوم إلى أحد الصيادين الذي كان يسقف السمك على شاطئ النهر، تحت المقهى، بالقرب من جسر مود، إلى جانب الكرخ. سألته: وهل تعرف كم ببغداد من المقاهي؟ فأجاب: بقدر ما في دجلة من السمك. فقلت: وكم تظن عددها في طرف هذا الشارع؟ فقال: كله قهاو، ولا يحصيها إلا الله!
فرحت أعدها - أحصيها - فإذا هي، من تمثال الملك فيصل إلى الجسر، تسعة مقاه لا غير.
ويلي من الأرقام! فقد يتعطل الفونوغراف في أحد هذه المقاهي، فيولي «أبناء الدومينو والشيشة» وجوههم شطر مقهى آخر، فونوغرافه عامر، وألحانه صياحة - كردية تركية مصرية - فيضطر صاحب المقهى المعطل فونوغرافه أن يقفل بابه، ويودع أصحابه. أو قد يجيء كردي بفونوغراف جديد، وينصبه تحت النخيل، ويضع حوله طاولتين وديوانين من الخشب العادي المسوس، فيزداد عدد هذه المقاهي أو ينقص، قبل أن يصدر هذا الكتاب، مقهى أو اثنين. •••
أعوذ بالخيال من الأرقام. وأعيذك، أيها القارئ العزيز منها. تعال إذن نعتصم بالخيال الشعري. وعندي منه الآن ما لا ينكره العقل، ولا ينفر منه التاريخ.
هاك دجلة، وهاك القفة فيه. تلك القفة التي صنعت بعد الطوفان في مرفأ أور الكلدانيين. وهي اليوم، كما كانت في زمن العباسيين على الأقل، تصنع من الخوص، وتطلى بالقار داخلا وخارجا. فلو عاد إلى هذا الوجود أحد نواتي بغداد القديمة لكان يهلل للقفة، وبحمد الله أنها لا تزال على شكلها الأول، وأن ألف سنة لم تغير شيئا فيها. وقد يكون النوتي البغدادي الذي يحرك مجذافها اليوم من سلالة صياد الرشيد، وقد يكون الجد كذلك لسلالة مقبلة من الصيادين تستمر ألف سنة أخرى. فيجيء رحالة القرن الحادي والثلاثين، ويقف فوق دجلة على جسر معلق من حديد، فيرى القفة، ويعثر بعد ذلك على نسخة من هذا الكتاب، فيستشهد مؤلفه على ألف سنة في الأقل من عمرها.
بائعة اللبن «أم اللبن» (تصوير الدورادو).
وما هذا كل ما في القفة! فبينا صاحبها يجذف من حين إلى حين؛ ليحفظ خط سيرها في مجرى النهر، يبدو لك كنز آخر من الكنوز التي لا تمسها يد الفناء، ولا تعبث بها يد التغيير. هناك، على وجه دجلة، في صباح يوم شمسه كريمة، ترى اللؤلؤ في نقط الماء التي تتساقط من المجذاف، وهو يرتفع فوق الموجة، وترى حول الموجة، وهو يغطس فيها، ذوب اللجين وقد تخلله الذهب الوهاج.
فلو عاد إلى هذا الوجود شاعر من شعراء نينوى، أو غادة من عيد بابل، أو كاهن من كهان أور لهلل - لهللوا كلهم - لهذه الشمس الشارقة، المقيمة على عهدها، الثابتة في خيرها، الناثرة على دجلة، حتى حول مجذاف «القفاف» لؤلؤ الذكريات، وذهب الآمال، الذكريات والآمال التي تنعشنا اليوم وتحيينا، كما أنعشت وأحيت أهل أور، وأبناء نينوى وبابل.
وفي هذه الأرض المنبسطة أرض العراق تجيء الشمس في الشروق والغروب لطيفة النور؛ ناعمة الوهج، لا تحمل الكنانة، كما يصورها الشعراء، لتطارد النجوم، وترمي بسهامها القباب والأبراج.
نامعلوم صفحہ