ولا في ذلة العبدان عار
وما أنت بخير من يوسف بن يعقوب - عليهما السلام - وقد بيع للعزيز عبدا، ولا أنا ممن يعامل الناس بالجفاء.» فأراد السر وليم أن يشكره فخنقته العبرات واعتقل لسانه عن الكلام، فتركه الحكيم ودخل الخيمة وجلس، فقدموا له الطعام فأكل، ثم أمر أن يقدموه للسر وليم فأبى أن يأكل. وقبل بزوغ الفجر قام الخدم ورفعوا الخيام وحملوها على الجمال، ثم أيقظوه وأيقظوا الحكيم وقدموا لهما فرسين مسرجين، فركب الحكيم على فرسه وأشار إلى السر وليم أن يركب الثانية، وساروا جميعا يتقدمهم الحرس الإنكليزي خوفا من أن يتعرض لهم أحد في أثناء مسيرهم في المعسكر. فلما خرجوا من المعسكر سار اثنان من فرسان الحكيم في المقدمة واثنان في الساقة؛ لكي لا يباغتهم عدو في الطريق. وكان السر وليم يلتفت إلى خيام الصليبيين والقمر مشرق عليها ويودعها بالعبرات الغزار فالتفت إليه الحكيم وقال: «تصبر للعواقب وانتظرها
فأنت من العواقب في اثنتين
تريحك بالمنى أو بالمنايا
فإن الموت إحدى الراحتين»
فقال الفارس في نفسه: «يا حبذا الموت!» ولكنه لم يجب الحكيم بشيء خوفا من إطالة الوعظ والإنذار، فلما رأى الحكيم منه ذلك نادى واحدا من رجاله وقال له: «قص علينا قصة تخفف عنا مشقة السرى.» وكان هذا الرجل راوية من مشاهير الرواة، فجعل يقص النوادر وينشد الأشعار إلى أن بدت غرة الصباح، فنزل الحكيم ورجاله وصلوا الصبح والفارس ينظر إليهم ويتعجب من شدة تدينهم وورعهم، ثم ركبوا وجدوا السير إلى أن بلغوا أرضا كثيرة الحزون والآكام، فرأوا عن بعد غبارا قد سد الآفاق، ومن تحته كوكبة من الفرسان قد أطلقوا الأعنة وأشرعوا الأسنة، فنادى الحكيم رجاله قائلا: «كونوا على حذر.» فقال له السر وليم: «علام تخاف هؤلاء الفرسان ونحن الآن في هدنة؟!» فقال: «إن هؤلاء من فرسان الهيكليين الذين لا عهد لهم ولا ذمام، فإن الأسد ريكارد والنسر فيليب يعفوان عند المقدرة، ودب الألمان ينام إذا شبع، وأما هؤلاء الذئاب فلا يعفون عن شيء ولا يشبعون، وقد جاءوا الآن ليقطعوا عنا طريق الماء، ولكن خاب مسعاهم وساء فألهم، وأوردهم القضاء والقدر حتفهم، فهيا بنا نقابلهم بالسيف والقنا.» فقال السر وليم: «أما أنا فليس لي في منازلتهم أرب؛ لأنني قد أقسمت بالله أن لا أحارب أحدا من جنود النصارى.» فقال له الحكيم: «إن لهم في قتلك الغرض الأول لكي لا تشهد بنكثهم لعهد الهدنة، هذا ونحن لم تجر لنا عادة أن نجبر أحدا على الحنث بيمينه، فاذهب مع الجمال والعبيد إلى لحف تلك الأكمة، وأنا أقابل هؤلاء الأنذال بفرساني وسينصرنا الله عليهم ونتبعكم بعد قليل.» فسار السر وليم مع العبيد والجمال وهو يقول: «إن هؤلاء الهيكليين لا يستحقون أن ترعى لهم حرمة؛ لأنهم لم يرعوا حرمة الهدنة.»
أما الحكيم فتفرق هو وفرسانه وأحاطوا بالهيكليين إحاطة الهالة بالقمر أو الأكمام بالثمر، وابتدروهم برمي النبال فانهالت عليهم انهيال السيل، وكان الهيكليون بالخوذ والمغافر والدروع والسراويل والقفافيز والجراميق، وكلها من ذكر الحديد والزرد النضيد. وكانت دروع الزرد مسبغة على خيولهم أيضا حتى كنت ترى الفارس وفرسه فتحسبهما قطعة واحدة من الحديد. ثم بوق واحد منهم فاجتمعوا تحت لوائهم وهجموا على جنود الحكيم هجمة تزحزح الجبال، فالتقاهم الحكيم وجنوده بالبيض الصفاح، وكانت بينهم ساعة تشيب الأطفال وتقصر الآجال، هذا والحكيم يصرخ في رجاله ويحرضهم على القتال إلى أن كل الفريقان من الكر والفر. ثم بوق الهيكليون ثانية فاجتمعوا كلهم تحت لوائهم وأقاموا ساعة يتداولون وكأنهم ندموا على ما فعلوا أو رأوا أنهم أخطئوا الغرض، فألووا أعنة خيولهم وساروا الهوينا وتركوا قتلاهم وقتلى عدوهم في ساحة القتال. فنادى الحكيم رجاله وقال: «ادفنوا قتلاكم واجمعوا سلب أعدائكم وسيروا بنا في إثر الجمال.» فقيدوا الجرحى، وجمعوا أسلاب القتلى، وساروا على أثر الجمال إلى أن وصلوا إلى غور الأردن، فوجدوها عند الينبوع الذي نزل السر وليم عنده لما كان ذاهبا إلى عين جدي، فركض العبيد للقاء مولاهم وهنأوه بالسلامة وأخذوا فرسه وحلوا حزامها، وكان السر وليم واقفا بجانب الينبوع والدموع ملء عينيه فالتفت إليه الحكيم وقال: «هي شدة يأتي الرخاء عقيبها
وأسى يبشر بالسرور العاجل
فقد دنونا من منازلنا وسترى فيها ما تحب وتشتهي.» فحاول السر وليم أن يشكره على إحسانه فمنعته العبرات والزفرات عن الكلام. ثم صلى الحكيم ورجاله صلاة الظهر وأكلوا ما حضر من الزاد وقدموا للسر وليم فلم يأكل ولم يشرب. فقام إليه الحكيم وجس نبضه فقال: «أراك متعبا ومحتاجا إلى الراحة.» ثم أخرج حنجرا وصب منه في كأس من الماء وسقاه، فلم يكن إلا برهة قصيرة حتى وقع عليه سبات عميق.
الفصل الثالث والعشرون
نامعلوم صفحہ