فقال الفارس: «أتنصح لي أن أستر ذنبي بترك مذهبي؟»
فقال الحكيم: «أخطأت، فإن صلاح الدين لا يجبر أحدا على ترك مذهبه، فاسمع النصح واتجر به، فإنه قادر أن يرقيك إلى أرفع المناصب، ولو علمت مقاصد هؤلاء الملوك والأمراء المتجمعين هنا ومضمون شروط الصلح التي ذهبت بها إلى السلطان صلاح الدين ما تأخرت عن قبول نصيحتي؛ فإنهم كلهم يترضون وجهه، وقد عرضوا عليه شروطا للصلح لا يمكنه أن ينتظر أحسن منها، وبعضهم خاطبه سرا وعرض عليه أن ينضم إلى جنوده ويقاتل عساكر النصارى معه. ولكن صلاح الدين لا يقبل هؤلاء الخائنين في معسكره ولا يعقد شروط الصلح إلا مع قلب الأسد، وفي نيته أن يسمح له ببعض مدن الساحل ويبيح له أن يبقي شرذمة من جنوده في بيت المقدس لحماية الحجاج، ويسمي نفسه حامية أورشليم، وفي نيته أيضا أن يشرف واحدة من نسيبات الملك ريكارد اسمها الأميرة جوليا بضمها إلى حرمه.»
1
فكان الحكيم يتكلم والسر وليم يسمع كلامه ولا يكترث له حتى ذكر الأميرة جوليا، فأجفل ولا إجفال الجمل، وكاد يغيب عن الصواب وقال في نفسه: «بلغت خيانة هؤلاء الملوك مبلغا يفوق التصديق، فسولت لهم نفوسهم أن يشتروا الصلح بمن وقفت نفسي على حبها وضحيت شرفي وحياتي على مذبحه.» ولكنه كظم الغيظ وحاول أن يستعلم من الحكيم كل ما يعلمه من أمر هذا الزواج، فقال: «وأي مسيحي يوافق على اقتران صلاح الدين بأميرة مسيحية؟»
فقال الحكيم: «ألم يبلغك أن أمراء المسلمين يتزوجون كل يوم بفتيات النصارى في الأندلس بلا ممانع ولا معارض؟ وإذا تزوج السلطان صلاح الدين ببنت عم الملك ريكارد أباح لها البقاء على دينها وممارسة فرائضه، وأنزلها المنزلة الأولى بين نسائه.»
فقال السر وليم: «معاذ الله أن يسمح الملك ريكارد لأميرة عريقة في الحسب والنسب أن تصير زوجة لصلاح الدين ولو أحلها فوق كل نسائه!» فقال الحكيم: «أخطأت، فإن فيليب ملك فرنسا وغيره من أقيالكم قد وعدونا ببذل الجهد في إتمام هذا الأمر حسما لهذه الحروب التي أبادت رجالهم، ورئيس صور تكفل بعرض الأمر على الملك ريكارد وإقناعه بالتسليم به، إلا أن صلاح الدين أخفى غرضه عن مركيز منسرات ورئيس الهيكليين؛ لأنه يعلم أنهما يكرهان ريكارد ولا يحبان أن يحوز هذا الشرف. والآن أنصحك أن تبادر إلى صلاح الدين حالا، وأنا أبعث معك برسالة إليه فيرفع مقامك ويكرم مثواك، ولا تظنن أنك تترك بلادك وديانتك لأن صوالح البلادين ستصير واحدة عن قريب، ولصلاح الدين منفعة من قيامك في بلاطه؛ لأنك تخبره كيف يعامل ملوككم نساءهم، فيعامل هذه الأميرة مثل معاملتهن وفقا لما ستشترطونه عليه من الشروط. واعلم أن الله سبحانه قد فتح لصلاح الدين كنوز الدنيا وبسط على الخافقين ظله الظليل، فإذا لذت به أسبغ عليك عطاياه وحماك من الإنس والجن، فإنه هو الذي قال فيه الرشيد النابلسي:
هذا الذي كانت الأيام تنتظر
فليوف لله أقوام بما نذروا
وقال فيه ابن الشحنة الموصلي:
وإني امرؤ أحببتكم لمكارم
نامعلوم صفحہ