ورسا اليخت إلى قصر النيل حوالي الساعة الثانية صباحا، وعاد الزوجان إلى عمارة شليخر في سيارة أحمد عاصم، وكان محجوب أفاق قليلا، ولكنه لبث متعبا منهوك القوى، وما اعتور روحه وحالته المعنوية كان أدهى وأمر. تركت نكسة السكر في روحه آثارها فانقبض صدره، وخمدت نشوته، وامتعضت نفسه، وأحس الدنيا بحواس المريض، وغابت إحسان قليلا وجاءته بفنجان قهوة، وجلست قبالته على الشيزلنج، قالت له: أفرطت في الشراب ...
فأحنى رأسه بالإيجاب وإن ذكر الأسباب الأخرى التي كدرت صفوه، وقال بسخط: لقد قبلت الدعوة إلى هذه الرحلة على غير إرادتي ...
فقالت تدافع عن الرحلة: وما ذنب الرحلة؟ ... كانت رحلة جميلة طيبة ...
فقال بحدة: يا له من صفيق سي عفت بك هذا!
فابتسمت إحسان، وترددت مليا، ثم غمغمت: انتهى ... أوقفته عند حده.
فثبت عليها عينيه الجاحظتين الذابلتين المحمرتين متسائلا، فأوجزت له ما حدث، ولكنه أبى إلا أن تسهب ولا تترك كبيرة ولا صغيرة، فروت له الحادثة بحذافيرها، حتى انفجر قائلا: صفيق ... وقح، ولكنك أحسنت كل الإحسان، يا لهم من أرذال جميعا! ...
واتقدت عيناه، بيد أنه تساءل: بأي حق يعيب أي إنسان في هذه الدنيا وهو ما هو رأيا وفعلا؟ ... وقال وكأنه يجيب نفسه: نستغفل الناس إذا شئنا، ولكن لا نسمح لمخلوق بأن يستغفلنا.
فتفكرت في قوله وعلى شفتيها ابتسامة غامضة، وعاد يفكر في والديه، فصدقت نيته على مد يد المعونة إليهما حتى ينفض عن حياته أي ظل للكدر، ثم عجب كيف أن تغيرا هينا في الجسم قد يذهب بهجة الدنيا في غمضة عين، ويحيل لذاتها وصفاءها ألما وكدرا يزهقان النفس. واقترحت عليه إحسان أن ينام، ولكنه أراد أن يرتاح قليلا بمكانه من المقعد، فمضت هي إلى الفراش. وعاد يتساءل: ماذا يحدث لو لازمه هذا التغير فدأب على تناول الحياة بحواس المرض والامتعاض؟! واقشعر بدنه! ... ولم يجد سوى جواب واحد: الانتحار! هكذا قد يقضي على نفسه من كرس نفسه للأنانية! ومع ذلك يوجد في هذه الدنيا أناس يؤثرون التعب والأهوال على السلامة، كصاحبه القديم علي طه، ولا يمكن أن يسلم مخلوق بأنه ليس لهم لذاتهم الخاصة بهم في نضالهم وكفاحهم، فأية لذة هذه؟! أحقا للإيثار لذة كلذة الأثرة؟ إنه يجل هذه اللذة ويحتقرها. وتمثل له علي طه بوجهه الجميل وحماسه المتقد، وذكر عهد دار الطلبة ومأمون رضوان، فتحول رأسه وهو لا يدري إلى الفراش، ورنت عيناه إلى إحسان وقد غطت في سبات عميق، فبدت له الذكريات في إطار من الدهشة والأحلام ...
44
واستيقظ في ضحى اليوم الثاني - الجمعة - وعاودته في الحال ذكريات الليلة الماضية مقرونة بإحساساتها المحزنة، وغادر الفراش بهمة متوثبة، واستحم بالماء البارد لينعش جسمه ونفسه، وعاد إلى الصالة، فالتقى بزوجه، وقد سألته برقة: كيف أنت الآن؟
نامعلوم صفحہ