فاختلس إليها نظرة ماكرة، وقال بخبث وشيطنة: وتحية ؟ ... يا لها من فتاة كاملة!
فصمتت لا تدري ما تقول، ثم غمغمت: أجل ...
وكان يلحظها بخبث، وسر سرورا كبيرا، وعاد إلى الشقة يخامره شعور الظافر المنتصر. وظل ذاك المساء مغتبطا حتى ناداه جرس التليفون، وما وضع السماعة على أذنه حتى تجهم وجهه، وفتر حماسه، كأنما ألقي على لهيب قلبه الفرح الراقص ماء بارد. كان المتكلم سالم الإخشيدي، وقد أخبره أن البك سيزور الشقة مساء الغد ...
33
ما لجرح بميت إيلام.
جعل يردد هذا الشعر قبيل مساء اليوم الثاني وهو يتأهب لمغادرة البيت، ثم تساءل: متى يموت جرحه إذن؟! كان عظيم الثقة بنفسه وبفلسفته، ولكنه شعر في اضطرابه وألمه بأن الفلسفة إذا خرجت من الدماغ إلى دنيا الحقائق قد يحدث لها ما يحدث للقذيفة إذا انطلقت من المدفع؛ تتفجر وتتناثر. حاول أن يستعيد رباطة جأشه وبروده، حاول أن يقول: «طظ.» ولكنه، أخفق، أو أخفق مؤقتا على حد تعبيره، وجعل يتساءل: ترى هل علمت؟ ثم نظر إلى التليفون فرجح أن يكون طير إليها النبأ السعيد! فالتليفون هو القواد الثاني في هذه الشقة؟ ترى ما حقيقة شعورها؟! أمسرورة هي بذاك اللقاء المرتقب؟! ... أتنتظر على لهفة أم بغير مبالاة؟ ... أيحطم هذا الرأس الجميل كما تحطم جوزة الهند ليرى ما فيه؟ وتلوث حية الغيرة في قلبه نافثة سمها القتال، وغادر البيت، وسار في شارع ناجي على غير هدى، وقصارى ما يطمح إليه أن يمسك زمام عقله، أو أن يثوب إلى رشده. ووجد نفسه أمام حانة «لاروز»، فمال إليها بلا تردد، كأنها هي هدفه المطلوب، وكان طلاب الجامعة يتقاطرون عليها فرارا من جو يوليو القائظ، متهافتين على الجزء التابع لها من الطوار، ولكنه كره الازدحام، وانتبذ مكانا داخلها، فلم يلق حوله إلا شابا يجلس إلى مائدة غير بعيدة منفردا بكأسه، وقبل فوات خمس دقائق على جلوسه كان يرفع الكأس إلى شفتيه الممتلئتين، ويفرغها حتى الثمالة، ثم صفق يطلب أخرى. شرب بشراهة لا عهد له بها، وإن كان يوجد في حانة لأول مرة في حياته. وما انفك عقله متفكرا مشغولا لا يغيب به عما حوله، ولم يكن غضبه لاضطرابه بأقل من اضطرابه نفسه. كبر عليه أن يأسى على معنى تافه من المعاني التي ثار عليها وكفر بها. أغضبه حقا لعرضه؟ ... وما عرضه؟ ألم يتحرر من هاتيك الأغلال جميعا؟ كلا، إنه لا يغضب لعرضه، ولا عرضه بالشيء الذي يستحق الغضب، ولكنه يعاني الغيرة. وتفكر مليا، ثم عاد يحادث نفسه: هل الغيرة طبيعية أو تقليد اجتماعي كالعرض؟ بل صفة طبيعية بلا مراء. إن الحيوان يعاني لأواءها كالإنسان سواء بسواء، فنحن نغار ما دمنا نحب، وما دمنا نرى أنفسنا جديرين بأن نحب كذلك. هكذا حدث نفسه، ولكنه لم يقتنع كل الاقتناع، ولا ارتاح الارتياح كله، بقي في النفس شيء. ألا ترى أن هذه الغيرة توشك أن تفسد عليه جميع ما أفاد من فلسفته وتحرره؟ إنه ينتقد ويحلل ويحطم، ولكن وراء ذلك تتخايل لعينيه أشباح مخيفة؛ سيارة تقف أمام عمارة شليخر، ينزل منها البك الأنيق، المصعد، الجرس، باب الشقة يفتح، مساء الخير أيها العروس ... جاء زوجك الطبيعي، ثم ... كيف تلقاه؟ في نفس الحجرة وعلى نفس الفراش ... وصفق بشدة يطلب كأسا جديدة، ولاحت منه عند ذاك التفاتة إلى الشاب المنفرد بكأسه - بكئوسه - فوجده يحدق فيه بدهشة وسرور؛ فقد راقبه الشاب منذ حضوره، وراح ينظر إلى اضطرابه وحركاته غير الإرادية، ويتساءل عما يقلقه، ولكن في سرور ولذة شأن المنتشي الثمل. ولما التقت عيناهما ابتسم، فابتسم له محجوب، والسكارى سريعو التعارف إلى بعض وإن كانت مودتهم سطحية، فتبودلت التحية، وبدا الشاب الغريب وكأنه يلوذ بصاحبه من وحدته التي جعلها السكر أفظع من أن تحتمل، وعاذ به محجوب من أذكاره وآلامه فدعاه إلى مائدته، وسرعان ما جلسا وجها لوجه، شابين ثملين لا يقيمان لشيء وزنا، وتعارفا، ثم قال الشاب الغريب: رأيتك آخذا في حديث عنيف مع نفسك، فوددت لو حملت عنك بعض هذا العناء ...
فضحك محجوب ضحكة عالية جدا دلت على انفلات الزمام من يده، وسأله: أحقا كنت أحادث نفسي؟ - أجل، وكنت محتدا ... بل حانقا ...
وكان لا بد أن يتكلم؛ لأنه دعا بمتكلم، ولأنه أراد أن يروح عن نفسه، ولم يجد في ذلك من بأس؛ فحالته وحالة صاحبه أذنتا بحديث أهوج ماجن لا يعرف الحدود. سأله: ومتى يحادث الإنسان نفسه؟ - في أحوال نادرة ... - اضرب مثلا. - في السرور الفائض والحزن البالغ، أو في حالات لا هي إلى السرور الفائض ولا الحزن البالغ! - وماذا يبقى من الحالات غير ما ذكرت؟ - الحالات التي يحادث الإنسان فيها غيره ...
فقال محجوب متحيرا وهو يقبض على كأسه: لا أكاد أفهم شيئا ... - ولا أنا! في مجلس الأنس، كما في مجلس النواب، ليس بالمهم أن تفهم ما يقال، ولكن المهم أن تتكلم. - كيفما اتفق؟ - وكيفما أحببت ...! - ولذه الاقتراح، فطرح التفكير ظهريا، وراح يقول وقد احمرت عيناه الجاحظتان من الشراب: أنا في الحجرة، والكبش في الحقل ... - كتب محمد الدرس ... - اعمل لدنياك كأنك تموت غدا، واعمل لآخرتك كأنك تعيش أبدا. - ولكنك لن تعيش أبدا، وربما لم تعش حتى مطلع الصباح؛ لأنك تفرط في الشراب ... - إذن نطلب كأسا أخرى. - علام يدل امتلاء الحانات بالواردين؟ - يدل على أن دستور 1923 أفضل من دستور 1930. - أتحسب أن دستور 1923 يعود؟ - أين هو الآن؟ - في ضريح سعد مع جثث الفراعنة. - فليحفظوه هنالك حتى نستحقه. - هل أنت وفدي؟ - كلا ... أنا حنبلي! - وأي فرق بين الاثنين؟ - الحنبلي ينقض وضوءه خيال الكلب. - والوفدي؟ - ينقض وضوءه خيال الظل. - إذن أنت حر دستوري! - أنا؟ ... أنا في الحقل ...! - أنت كبش إذن ذو قرنين!
واضطرب محجوب، وبهت، وكأنه يستيقظ من هذيانه على مطرقة، وحدج صاحبه بنظرة ملتهبة، لكن وجده يبتسم منشرح الصدر، متأهبا لتلقي كل ما يقذفه به، فحمل نفسه على السرور حملا، وسأل الشاب الغريب: خبرني أحق أن القواد في نعيم؟
نامعلوم صفحہ