وأحس ما وراء التساؤل من ملل، فارتبك وقال: توجد آثار كثيرة، ولكن لم يصرح بزيارتها ...
وهبطا أدراجا فوجدا نفسيهما في حجرة صغيرة مستطيلة، تتحلى جدرانها بالنقوش والصور، ولا يكاد يعلو سقفها كثيرا على طول الهامة، وألقيا على المكان نظرة عامة، ثم تعلق الشاب بالصور، فقال بصوت خافت: فلنشاهد الصور، انظري إلى ألوانها الزاهية ...
وبدآ بالحائط القريب من المدخل، وقد حلي بصور تمثل صاحب المقبرة وعلى يساره زوجه، بينهما أطفال، ويحيط بهم جميعا خدم وحشم، وعلى الحائط الذي يليه شاهدا منظر حقل مترامي الأطراف، تحرثه محاريث تجرها الثيران، ووقف هنا وهناك فلاحون عرايا، وتحولت تحية من المنظر بلا ريث، وانتقلت إلى الحائط الثالث، وأدرك محجوب أنها مرت خجلة من صور العرايا، وتفحص الصور بعينيه الجاحظتين، فجرت على شفتيه ابتسامة خبيثة، واضطرب مجرى دمه، وقوي شعوره بأنهما منفردان. ولم يتحول عن منظر الحقل، ولا حول عينيه عن صور العرايا، حتى ملأت عليه نفسه تلك الحقيقة الرائعة، وهي أنهما منفردان أمام العرايا، وخيل إليه من إدمان النظر أن الصور تتجسم لعينيه، وأن الحياة تدب فيها، والدماء تتدفق في عروقها، فتكتسي بشرتها بذاك اللون الخمري ذي الوهج، وتلتمع في محاجرها نظرات خاطفة، ثم تشرئب أعناقها نحو ... الفتاة الهاربة، موردة الخدين من الخجل. وخفق فؤاده بعنف، والتهبت جوارحه من قوة العاطفة، وعبثا حاول أن يملك زمام نفسه، وذكر مجيئها بمفردها، وحديثهما في السيارة، ورقة حاشيتها، وانفرادهما معا، ثم وجودهما في هذه المقبرة تغشاهما وحشة الأجيال، فخال الثمرة دانية القطوف، وعنف هياجه حتى صار وحشا فاقد العقل والإرادة، وازدرد ريقه بصوت غريب، وعيناه ثابتتان على العرايا وإن باتا لا يريان شيئا: هلا نظرت إلى هذا الحقل الحافل ...
فقالت باقتضاب وبلهجة ناطقة بالملل: ليس به ما يستحق الرؤية ...
فعطف رأسه وقال بصوت كالهمس: لشد ما أنت ملولة يا آنسة.
ودنا منها خطوة فحاذاها، وجعل ينظر معها إلى صورة خادم تعجن، وانحنى قليلا كأنما ليعاين جزءا من الصورة، فلامس كتفها ويمناها، ثم اعتدل ونظر في عينيها، وقال بصوت متهدج: ألم يعجبك شيء؟
فضحكت ضحكة رقيقة وقالت بصراحة: الحق أننا لم نجد ما يستحق عناء الرحلة ...
فقال محجوب بصوته المتهدج وعيناه تثقبان عينيها: ولكن المكان جميل وهادئ ...
وانتبهت إلى تهدج صوته، وشعرت بحدة نظرته النارية، فاختلج بصرها، ونظرت إلى الأرض، ثم قطبت في حيرة وقالت: آن لنا أن نذهب ...
فهز رأسه، وهم أن يقول شيئا، ولكن أعياه القول، فأمسك بيدها، ولكنها سحبت يدها بسرعة، وألقت عليه نظرة إنكار، فلم يبالها، واسترد يدها بقوة، وقال وصفحة وجهه تموج بعاصفة: «دعينا نمكث قليلا.» وتملكه شيطان الشهوة، فجذبها نحوه بعنف، وأحاطها بذراعيه، وأهوى إليها بفم يحترق إلى التهامها، ولكنها صدته بيمناها، وباعدت رأسها عنه، ولاح في وجهها الجميل الغضب، وصاحت به صوت رن رنينا مزعجا في المقبرة الصامتة: أجننت! ... دعني ... اترك يدي ...
نامعلوم صفحہ