وما هي إلا أن أخذ في البحث والتحقيق، فألم بالحكماء والفلاسفة، وبالشعراء والكتاب، وبالصناع وأهل الفن، يحادثهم ويسألهم ويعلم علمهم، حتى انتهى إلى هذه النتيجة، وهي أنه أحكم الناس حقا؛ ذلك لأنه رأى هذه الطبقات كلها شديدة الغرور، قوية الإيمان بحظها من العلم أو الفلسفة أو الشعر أو الفن، شديدة الجهل بنفسها، ورأى أنه هو الرجل الوحيد الذي لا يغره شيء، ولا يعلم إلا شيئا واحدا هو أنه شديد الجهل بكل شيء، وكان القدماء قد كتبوا على معبد «دلف» هذه الحكمة القديمة «اعرف نفسك بنفسك»، فما أسرع ما اتخذها سقراط شعارا له وقاعدة لحياته وحواره وتعليمه - وما أسرع ما اعتقد أنه قد أصبح شيئا يشبه الأنبياء، وأن «أبلون» قد كلفه مهمة عظيمة الخطر، هي أن يبث الحكمة في الناس ويعلمهم أن يعرفوا أنفسهم بأنفسهم. من ذلك الوقت جد سقراط في تأدية رسالته، وتحقيق الواجب الذي كلفه إياه «أبلون»، فتتبع الشباب الأثيني في كل مكان، وأخذ عليه كل سبيل، حتى لقد كان يمشي في طريقه، فإذا رأى شابا يمضي لعمل من أعماله، أخذ عليه الطريق ومنعه أن يمضي، وأخذ يلقي عليه أسئلة عادية لا قيمة لها، فيجيبه الشاب أجوبة تلائم هذه الأسئلة، ولكنه يمضي في السؤال، ويمضي الشاب في الجواب، وإذا هما في حوار فلسفي قد أنسى الشاب عمله، وجمع حولهما الناس. وقد ظهر تأثر الجماعة الأثينية بسقراط وجزع الطبقات الأرستقراطية من سلطانه على الشبان في نحو سنة 425 قبل المسيح، حين أخذ الشاعر التمثيلي المشهور «أرستفان» (Aristophane)
الذي كان لسان الأحزاب الأرستقراطية المحافظة، يعرض بسقراط في قصصه التمثيلية المضحكة، ولا سيما في قصة الطير والضفادع، ولا سيما في قصة السحاب التي خصصت كلها لسقراط والهزؤ به.
وأصبح سقراط شيئا يخيف الأرستقراطية لأنه كان شديد العبث بالعادات والأخلاق الموروثة. ولكنه، لسوء حظه، لم يرض الديمقراطية، بل كان بها شديد العبث أيضا. ألم يكن يتخذ الدين موضوعا لحواره؟ ألم يكن يتخذ النظم الديمقراطية موضوعا لهذا الحوار؟ ألم يكن يظهر كلما سنحت له الفرصة سخطه على حكم الشعب واستهزاءه بهذا الحكم؟ ثم أليس هو الذي عارض أشد المعارضة حين أرادت جماعة الشعب أن تحاكم القواد الأثينيين المنتصرين الذين اتهموا بالتقصير في جمع الغرقى في موقعة «أرجينوس» (Arginus) ؟ أبى سقراط على جماعة الشعب محاكمة هؤلاء القواد، وكان هو من رؤساء الجلسة في ذلك اليوم. ولكن جماعة الشعب حاكمت هؤلاء القواد وقضت عليهم بالموت، وأنفذت فيهم هذا القضاء، وأكرهت سقراط؛ ثم لم تلبث أن ندمت على ما قدمت، وأحست أنها قد حرمت أثينا ظلما عشرة من قوادها الماهرين حين كان احتياجها إلى الرجال شديدا.
كان سقراط قليل الميل إلى الديمقراطية؛ كما كان شديد البغض للاستبداد، عدوا للأرستقراطية، وقد أغضب هذه الطبقة كما أغضب الشعب: أغضبها حين أبى على الطغاة الثلاثين ما أرادوه عليه من المعونة، وحين عرض نفسه بذلك الخطر. ومن هنا لم ينته القرن الخامس حتى كان سقراط قد ألب على نفسه الديمقراطية المنتصرة والأرستقراطية المنهزمة، كما أنه كان قد ألب على نفسه الشعراء والفلاسفة والمعلمين، لأنه صرف عنهم الشباب من جهة، ولأنه كان شديد السخر بهم من جهة أخرى. فما هي إلا أن تم انتصار الديمقراطية على الطغاة الثلاثين، حتى تقدم اثنان من الأثينيين، أحدهما شاعر، بقضية إلى الشعب يتهمان فيها سقراط تهما عدة: منها أنه أفسد الشباب، ومنها أنه لا دين له، ومنها أنه يعبث بالنظم السياسية القائمة. وحوكم سقراط، فلم يكن موقفه من قضاته موقف الرجل الذي يريد أن يدافع عن نفسه حقا ويثبت براءته حقا، وإنما كان موقفه من القضاة موقف الساخر بهم، المزدري لهم، ومع ذلك فقد صدر الحكم عليه بكثرة قليلة جدا. وكانت العادة عند الأثينيين وغيرهم من القدماء أن يصدر في مثل هذه القضايا الجنائية حكمان: الأول يثبت إدانة المتهم أو ينفيها، والثاني يقرر العقوبة التي يستحقها المتهم إذا ثبتت إدانته. وكانت العادة إذا ثبتت إدانة المتهم أن يسأل عن العقوبة التي يرى أن يستحقها، وأن يسأل المدعي عن العقوبة التي يرى أن المتهم خليق بها، ثم تفصل المحكمة بين هذين الجوابين، فتقر إحدى العقوبتين اللتين اقترحهما المتهم والمدعي. فلما صدر الحكم بإدانة سقراط سئل عن العقوبة التي يرى أن يستحقها، فأجاب ساخرا مستهزئا: أنه يرى أن تطعمه الدولة مجانا بقية حياته؛ لأنه أنفق هذه الحياة في تعليم الأثينيين وتهذيبهم. وسئل المدعون فطلبوا الموت، وكان القضاة قد سخطوا لهذه السخرية القاسية، فأقروا في حكمهم ما طلب المدعون، وقضي بالموت على سقراط.
وليس من شك في أنه لو أحسن الدفاع عن نفسه لبرئ. وليس من شك في أنه لو لم يسخر من القضاة بعد إدانته لما حكم عليه إلا بالغرامة كثيرة أو قليلة؛ ولكن موقفه أحنق عليه القضاة، ثم انتهت به هذه السخرية إلى أن اعتبر مهينا للدولة، فعوقب معاقبة من تثبت عليه الخيانة العظمى أو الخروج على النظام القائم.
أما إذا أردنا أن نتبين نصيب هذا الحكم من العدل أو الجور، فنحن مضطرون إلى أن نرى فيه رأيين مختلفين: أحدهما أن أثينا لم تكن ظالمة حين قضت بالموت على هذا الرجل الذي خرج بفلسفته وتعليمه على النظام القائم، واتخذ القوانين سخرية وهزءا، وانتهى إلى أن أهان الشعب ممثلا في المحكمة. والآخر أن أثينا - وإن كانت قد عدلت في حكمها، بالقياس إلى نظمها وقوانينها - فليس من شك في أنها قد أساءت حين قضت بالموت على رجل لا لشيء إلا أنه خالف الجمهور في الرأي. وبهذا الحكم كانت الديمقراطية الأثينية عدوة لحرية الرأي. وحسبك بهذا سبة وعارا، وحسبك به مجدا وفخارا لسقراط.
صدر الحكم على سقراط والأثينيون في حفلة من حفلاتهم الدينية، قد أرسلوا وفدهم إلى «أبلون» في جزيرة «دلوس» (Dellos)
وكان «أبلون» صاحب «دلوس» هذه إلها خاصا لليونانيين يخالف من وجوه كثيرة «أبلون» صاحب «دلف» الذي كان إلها للدوريين خاصة واليونانيين جميعا. فكانت أثينا تعنى عناية خاصة بإله «دلوس»، وترسل إليه وفدا من الحجيج في كل سنة يقيمون الحفلات حول معبده في الجزيرة التي يقال إنها كانت سابحة على وجه الماء حينما هبطت أم أبلون من السماء، وكانت حاملا وكانت هاربة من زوج «زوس» (Zeuss)
كبير الآلهة؛ فأوت إلى هذه الجزيرة السابحة، ولم تكد تأوي إليها حتى استقرت في مكانها، وولدت هذه الإلهة «أبلون» و«أزتميس» أخته. وكانت العادة عند الأثينيين ألا ينفذ حكم الموت أثناء هذا العيد؛ فإذا قضي بالموت على متهم أثناء هذا العيد انتظر في السجن حتى يؤوب الحجيج ثم ينفذ فيه الحكم. فاضطر سقراط إلى أن ينتظر أياما في سجنه. وأخذ أصحابه وتلاميذه يختلفون إليه في السجن كل يوم يقضون معه بياض النهار في حوار وجدال كأن لم صدر عليه حكم، وكأنه لم يكن ينتظر الموت، حتى آب الحجيج وآن تنفيذ الحكم. في هذا اليوم أقبل تلاميذ سقراط على أستاذهم كعادتهم، ولكنهم كانوا جزعين مضطربين وكان هو كعادته هادئا مطمئنا مبتسما، فكان بينه وبينهم حوار معروف هو آية من آيات الفلسفة والبلاغة الإنسانية، وهو الحوار الذي صوره أفلاطون في كتابه «فيدون» (Phédon)
والذي يثبت فيه سقراط خلود النفس، والذي كان له التأثير العظيم في الحياة الرومانية أيام الإمبراطورية حين كان القياصرة يقضون بالموت على زعماء الرومان وأشرافهم؛ فإذا أنفذ إليهم أمر قيصر أن يموتوا استعدوا للموت هذا الاستعداد الجميل، فعنوا بأجسامهم العناية العادية، وأخذوا في أمورهم كما يأخذون من قبل. فمنهم من كان يجد، ومنهم من كان يلهو؛ حتى إذا فرغوا من ذلك قرءوا «فيدون»، ثم قتلوا أنفسهم تنفيذا لأمر قيصر.
نامعلوم صفحہ