الوجه الثالث : إن مذهب الجبرية : أنه لا مؤثر في حدوث الممكنات إلا الله ، وإذا كان كذلك ، كان تخصيص بعض الناس بخلق الكفر والمعصية فيه ، والبعض الآخر بخلق الإيمان والطاعة. تخصيصا لا لمخصص.
وأيضا : مذهب الجبرية : أنه لا حسن ولا قبح في العقول. وعلى هذا التقدير تخصيص بعض الأفعال بالإيجاب ، والبعض بالندب ، والبعض بالتحريم : تخصيصا لا لمخصص أصلا. ومجوز هذا ، يلزمه أن يحكم باستغناء الممكن عن المرجح. وذلك يقتضي نفي الصانع.
وهذان الوجهان ، نحن لخصناهما للقوم. وما رأينا أحدا منهم دار حولهما.
واعلم : أن الجواب المعتمد عن الوجه الثاني : إنا بينا فيما تقدم : أنه إن لزم على مذهب الجبرية القول بأن الصانع موجب بالذات ، لا فاعل بالاختيار ، لزمهم على مذهبهم : نفي المؤثر بالكلية ، وتجويز أن يترجح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح. ولا شك أن هذا أقبح وأقطع مما ألزموه علينا.
وأما الوجه الثالث من الوجوه التي نسبناها إليهم :
فجوابه : إن مذهبهم : أن حصول الفعل لا يتوقف على الداعي. وحينئذ يلزمهم على هذا المذهب ، عين ما ألزموه علينا.
وبالله التوفيق
وأما بيان أن كل من نفى كون العبد موجدا ، فإنه يتعذر عليه الاعتراف بالنبوة. فبيانه من ثلاثة وجوه :
الأول : إن العجز إنما يدل على صدق المدعي ، إذا اعتقدنا أنه لا يجوز ظهوره عقيب دعوى الكذاب. فمن اعتقد أنه لا خالق لجميع أنواع الكفر والفواحش إلا الله تعالى. فكيف يمكنه أن يقول : إنه لا يجوز من الله تعالى إظهار المعجز عقيب دعوى الكذاب؟ بل نقول : إنه لا يفسده في إظهار المعجز عقيب دعوى الكذب ، إلا أن ذلك قد يؤدي إلى الجهل والتلبيس.
فمن قال : إنه تعالى هو الخالق لكل كفر ، وكل جهل ابتداء. فكيف يمكنه أن يقول : إنه تعالى لا يجوز منه أن يفعل ما قد يؤدي إلى الجهل والتلبيس؟ لا يقال : الدليل على أنه لا يجوز من الله تعالى إظهار المعجز على يد الكذاب : أنه تعالى قادر على أن يعرفنا صدق الأنبياء عليهم السلام على سبيل الضرورة. فوجب أيضا أن يقدر على أن يعرفنا صدقهم بالدليل ، وإلا لزم المعجز. ثم إنه ثبت أنه لا دليل سوى المعجز ، فلو جوزنا من الله تعالى أن يظهر المعجز على يد الكاذب ، فحينئذ لزم أن لا يقدر الله تعالى على أن يعرفنا صدق الأنبياء على سبيل الاستدلال. وذلك يفضي إلى تعجيز الله تعالى ، وأنه محال.
لأنا نقول : هذا الكلام ضعيف من وجوه :
الأول : لا نسلم أنه تعالى لما قدر على أن يعرفنا صدق الأنبياء على سبيل الاضطرار ،
صفحہ 109