وأما البرهان : فهو إن العبد يمكنه أن يأتي بالأزيد مما أتى به ، وبالأنقص عما أتى به ، وبفعل آخر مغاير لما أتى به. فلما كان قادرا على الكل ، كان رجحان بعض هذه الممكنات على البعض ، لا بد أن يكون لأجل أن القادر المختار : خصص ذلك النوع ، وذلك المقدار بالوقوع. دون المغاير ، ودون الأزيد والأنقص. لكن القصد إلى إيقاع الشيء بقدر خاص ، وكيفية خاص ، مشروط بالعلم بذلك القدر. لأن القصد إلى الشيء ، بدون الشعور بماهيته : محال. فثبت : أن خالق الشيء لا بد وأن يكون قاصدا إليه ، وثبت : أن القاصد إلى الشيء عالم بماهية ذلك الشيء ، الذي قصد إليه. وذلك يدل : على أن خالق الشيء ، لا بد وأن يكون عالما به.
وأما المقدمة الثانية : وهي قولنا : إن العبد غير عالم بتفاصيل أفعال نفسه. فيدل عليه وجوه:
الأول : إن النائم والساهي قد يصدر عنهم كثير من الأفعال الاختيارية ، مع أنه لا شعور لهم بتفاصيل تلك الأفعال لا بكميتها ولا بكيفيتها.
الثاني : إن الإنسان إذا حرك بدنه وجثته ، فلا شك أن بدنه مؤلف من أجزاء كثيرة موجودة بالفعل.
أما عند من يثبت الجوهر الفرد (1)، فلا شك فيه. وأما عند من ينكره ، فلا شك أنه معترف بأن مجموع البدن ، مؤلف من الأعضاء البسيطة أعني العظام والغضاريف والأعصاب
وقد وقف الرازي حيال هذه المسألة مواقف مختلفة يجعلها الدكتور محمد صالح الزركان ثلاثة : فمرة أنكر الجوهر الفرد في «المباحث المشرقية» وفي «شرح الإشارات» لابن سينا ، ومرة ثانية توقف الرازي في «الملخص» و «نهاية العقول» ورأى أن أدلة الطرفين لا تخلو من قوة. وكان يقول إنه ليس أول من توقف في هذه المعضلة بل سبقه إليها إمام الحرمين وأبو الحسين البصري. ومرة ثالثة وقف فيه مع القائلين بإثبات الجوهر الفرد وذلك في كتاب من أقدم كتبه وهو «الإشارة» وفي «الأربعين في أصول الدين» و «المحصل» و «التفسير الكبير» و «المعالم في أصول الدين» ودافع عنه في «المطالب العالية» (الرازي وآراؤه الكلامية والفلسفية ص 419 437). وانظر كتب الرازي : معالم أصول الدين ص 35 ؛ محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين 164 168 ؛ المطالب العالية الجزء السابع (وقد خصصه لبحث أدلة الطرفين) المباحث المشرقية 2 / 38.
صفحہ 84