Principles of Invitation and Its Methods 4 - University of Madinah
أصول الدعوة وطرقها ٤ - جامعة المدينة
ناشر
جامعة المدينة العالمية
اصناف
-[أصول الدعوة وطرقها ٤]-
كود المادة: IDWH٤٠٤٣
المرحلة: بكالوريوس
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
نامعلوم صفحہ
الدرس: ١ الدعوة وصلتها بالحياة وأثر الإسلام في الاجتماع
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(الدعوة وصلتها بالحياة وأثر الإسلام في الاجتماع)
١ - الدَّعْوَةُ وَصِلَتُهَا بِالْحَيَاةِ
الأَحْوَالُ السياسيةُ قَبْلَ الإسْلامِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلينَ، وعلى آلِهِ، وأصحابِهِ، ومنِ اهتدَى بهديهِم إلى يَوْمِ الدينِ، وبَعْدُ:
فَأُرحِّبُ بِكمْ -أيُّها الأُخوةُ الكِرامُ- في هذا اللقاءِ الأولِّ في المحاضراتِ التي سأسجلُها لكم -إن شاءَ اللهُ تعالى- في مُقررِ أصولِ الدعوةِ، وهذا المُقررٌ مُهمٌّ للمسلمين؛ لأنَّه يُعطيهمْ فِكرةً واضحةً عن كثيرٍِ من المباحثِ الإسلاميةِ التي يحتاجُ إليها المسلمُ، ثم هي بعدَ ذلك تُوجِّهُهُم -بفضل الله ﵎ إلى أن يسلكوا طريقَ الأنبياءِ والمرسلينَ في الدعوةِ إلى اللهِ ربِّ العالمين، على المنهجِ الذي سَلَكَهُ نبيُّ الهُدى والرحمةِ ﵌.
والمحاضرةُ الأولى التي معنا في هذا اللقاء تحت عُنوانٍ كبيرٍ، ألا وهو: "الدعوةُ وصلتُها بالحياةِ" وهذا العنوان تحته موضوعاتٍ متعددةٍ، وهي ثلاثةٌ إذا أردتُ أن أحصرَها الآن، وسندرسُ -إن شاء الله تعالى- في كل محاضرةٍ موضوعًا منها.
والموضوعُ الأولُ في هذا اللقاء بعنوان: "أَثَرُ الإسلامِ في السياسةِ" وتحته العناصر التالية:
العنصرُ الأولُ: الأحوالٌ السياسيةُ قبل الإسلام، ويشتملُ على النقاط التالية:
أ- تعريفٌ السياسةِ: لغةً واصطلاحًا:
السياسةُ في اللغةِ: جاء في (المصباح المنير): ساسَ زيدٌ الأمرَ يسوسه أي: دبَّره وقامَ بأمرِهِ، وجاء في (لسان العرب): السُّوسُ: الزيادةُ، يقول: ساسُوهم سَوْسًا، والسياسة: القيامُ على الشيء بما يُصلِحُهُ.
هذا هو تعريفُ السياسة في اللغة.
أما تعريفُ السياسةِ اصطلاحًا فلها تعريفاتٌ متعددةٌ؛ وقبلَ أنْ أُعَرِّفَها في الاصطلاحِ، أودُّ أنْ أُشيرَ إلى أنَّ استتبابَ أيِّ أمرٍ من أمورِ أيِّ مجتمعٍ بشريٍّ لا بد فيه من عدلٍ قائمٍ، وقد أشار إلى ذلك ابنُ خلدونَ ﵀ ﵎ في مواضِعَ من مقدمته، ومما ذكرَ ﵀ من قولٍ في هذا:
1 / 9
إنَّ الاجتماعَ الإنسانيَّ ضَروريٌّ، ويعبر الحكماءُ عن هذا بقولهم: الإنسانُ مَدنيٌّ بالطبع، أي: لا بد له من الاجتماعِ الذي هو المَدنيةُ في اصطلاحهم، وهو معنى العُمرانِ ... إلى أن قالَ: ثم إنَّ هذا الاجتماعَ إذا حصلَ للبشر وتم عُمران العالَم بهم، فلا بد من وازعٍ يدفع بعضَهم عن بعضٍ.
وهذا ما أودُّ أن أشيرَ إليه في أنه: لا بد للمجتمعِ البشريِّ من عدلٍ قائمٍ يسودُهم وينطلقون من خلالِهِ، وهذا ولا شكَّ يكون بسلوكِ الصراطِ المستقيم، صراطِ اللهِ الذي له ما في السمواتِ وما في الأرضِ، وقد جاءتْ الشرائعُ الإسلاميةُ ببيانِ هذه الأمور، وتوضيحِها، ودعوةِ الناس إليها.
وبناءً على ذلك، أُذكرُ بعضَ التعريفاتِ لكلمة السياسةِ في الاصطلاح، فقد قيل فيها: بأنها تدبيرُ شُئونِ الدولةِ الإسلاميةِ، التي لم يرِدْ بحكمها نص صريح، أو التي من شأنها أن تتغير وتتبدل بما فيه مصلحة الأمة، ويتفق مع أحكام الشريعة وأصولها العامة.
وعرفها بعضُهم بأنها: هي تحقيق الحاكم الذي يسوس أمر الأمة للمصلحة التي تُعود على الأفراد والجماعات، وذلك بتطبيق أحكام استُنبطت بواسطة أُسس سليمة، أقرتْها الشرعية، مثل: المصالح المرسلة، سد الذرائع، الاستحسان، العرف، الاستصحاب، الإباحة الأصلية، وكل ذلك فيما لم يرد فيه نصٌّ.
ب- النقطةُ التاليةُ في هذا العنصر هي بعنوان: "الحياةُ السياسيةُ خارج الجزيرة العربية قبل الإسلام":
وأَضْرِبُ في ذلك بعضَ النماذج، وأبدأ بنموذج الهند والصين قديمًا، فأقول فيما كان من سياسة في الهند: كانت تقوم على اعتبار القوة الإلهية مصدرًا لكل القواعدِ والأنظمةِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ، وكانت ترتكز على قوانين:
1 / 10
"مانو" و"برهما" وتقسِّمُ المجتمعَ إلى طبقاتٍ، وعلى هذا التقسيم يتفاوتُ الأفرادُ في الحقوق والحريات السياسية والمدنية.
أما الصينُ: فكانت تقوم على أساس: أنَّ الإمبراطور يستمد سلطتَه من السماء، فهو يحكم وفقًا للحق الإلهي الذي يُخَوِّلُه سلطةً مطلقةً، فالملكُ في نظرهم: ابنُ السماء، ولكن ظهرت فيما بعد نظرياتٌ واتجاهاتٌ سياسيةٌ حقيقيةٌ على يد الفيلسوف الصيني الشهير: "كنفوشوس" وكذلك: "منشسيوس" وكان لها الأثر الكبير في توجهات الحياة السياسية في الصين قديمًا.
جـ- النقطة التالية تحت هذا العنصر هي بعنوان: "نموذجُ اليونان والرومان السياسي أيضًا":
ويتمثل النموذجُ السياسيُّ الرومانيُّ في أنَّ الفكرَ المثاليَّ المجردَّ طغى على حساب الحركة عندهم، ففشل في إيجاد دولةٍ تعبر عن حقيقة العصر، وآمالِ الشعب؛ أما الرومانُ فقد كان طُغيان الحركة مسيطرًا على الممارسة السياسية، والحركةُ عندهم تعني: القوة، ونشر النفوذ، والسيطرة على المجتمعات الأخرى، وحتى حين تنصَّرت الدولةُ الرومانيةُ على يد الإمبراطور: "قسطنطين" فإنَّ التشريعاتِ والمؤسساتِ لم تتغير هناك، وبقي الأمرُ على ما هو عليه.
د- النقطة الرابعة تحت هذا العنصر وهي: "في بيان السياسة عند العرب قبل الإسلام":
والعربُ قبل الإسلامِ قد وُجد في بعض الممالِكِ عندهم -وخاصة في جنوب الجزيرة العربية- بعضُ القواعد، أو القوانينُ، أو التنظيمُ السياسيُّ في بعض المناطق، ولكن لم يكن للعرب في بلاد الحجاز نوعٌ من الحكومات المعروفة الآن، ولم يكن لهم قضاءٌ يحتكمون إليه، أو جهازُ أمنٍ يُقرُّ النظامَ ويحافظُ عليه، ولا حتى جيشٌ يدرأ عنهم الأخطارَ الخارجيةَ، ولم يكن ثَمَّة سلطة تضرب على أيدي المعتدين، وتُوقِعُ العقاب على المجرمين، وإنما كان الرجلُ المعتدَى عليه يثأر لنفسه بنفسه، وعلى قبيلته بعد ذلك أن تشدَّ أزرَه.
1 / 11
وقد وُجد في مكةَ نوعٌ من الوظائفِ التي لم تكن موجودةً في بلد من البلاد العربية؛ وذلك لمركزها الديني بين البُلدان، ووفود الحُجاج إليها من كل مكان، وقد كانت هذه الوظائفُ متمثلةً -مثلًا- في الحجابة والسقاية والرفادة، وقد اعتبر العرب هذا نوعًا من أنواع السلطات السياسية، ولكنَّ الأقربَ أنها وظائفُ شرفيةٌ، تَطَلَّبْتَها طبيعةُ البلاد، وظروفُ الحجاج، وليست نوعًا من أنواع السلطة السياسية.
ومما يؤكد الفراغَ السياسيَ التي كانت تعيشه بلادُ الحجاز، ما حصل عندما جاء أبرهةُ الأشرمُ؛ لهدمِ الكعبة، فخرج له عبدُ المطلبِ، وسأله أن يردَّ عليه إبلَه، ولم يناقشْهُ في مصير مكةَ وأهلِها، كما أن مكةَ اختلفوا في وضع الحجر الأسود عند تجديد بناء الكعبة، ولو كان هناك ثَمةُ سلطة سياسية في البلاد لكانت هي المرجعُ في مثل هذه المشكلة.
وقد عَرف العرب مع هذا نوعًا من الممارسات شبه السياسية، مثل: الأحلاف، والجِوار؛ وأحلاف الجاهلية منها ما هو على الخير: كحلف الفضول، الذي تعاقدت فيه بُطونٌ من قريشِ في دار عبدِ الله بنِ جدعانَ، على ألا يجدوا في مكة مظلومًا إلا قاموا معه؛ حتى تُردَّ عليه مظلمتُه، ومنها ما هو على الشر: كتحالف بطونِ قريشٍ على حصار النبيِّ ﷺ وأصحابِه، وبني هاشم في شِعب أبي طالب.
وكان عندهم أيضًا الجوارُ: والجوار: هو الحمايةُ والمَنعةُ للمستجير، ولم يكن الجوارُ في الجاهلية مقصورًا على الحمايةِ من الظلمِ؛ بل تعدَّى بهم الأمرُ إلى إجارةِ الظالمينَ، وهو ما حرَّمه الإسلامُ، وتوعَّد فاعِلَه بالعذابِ.
ولقد كانت قبائلُ
1 / 12
العربِ قبل الإسلام متفرقةً متناحرةً، كما أخبر المولى ﷾ عنهم؛ ممتنًّا على رسوله ﷺ بقوله: ﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال: من الآية: ٦٣).
ونحن نعلم ما كان عليه الحالُ بين الأوسِ والخزرجِ في المدينة، ولم تكن بقيةُ قبائلِ العرب بعيدةً عن هذا الواقِعِ، فقد كانتْ قلوبُهم شتَّى، تثور الحروبُ بينهم لِأتْفَهِ الأسبابِ.
أَبْرَزُ المَعالِمِ السياسيةِ الداخليَّةِ والخارجيةِ للدَّولةِ الإسلامِيةِ
أَنْتَقِلُ بعد ذلك إلى العنصر الثاني في هذا اللقاء، وهو بعنوان: "أَبْرَزُ المعالم السياسية الداخلية والخارجية للدولة الإسلامية" ويشتمل على النقاط التالية:
أ- النقطة الأولى: أبرز التشريعات السياسية للدولة الإسلامية:
بعد أن أشرتُ إلى الأحوال السياسية قبل الإسلام عند غير المسلمين قبل البعثة، وعند عربِ الجاهليةِ قبلَ الإسلامِ، يحسنُ بنا هنا أن نوردَ بعضَ ما تضمَّنَه وما جاء به الإسلامُ من سياسةٍ فريدةٍ أسعدتْ الأفرادَ والمجتمعاتِ.
وأَبْدأُ بأبرز التشريعاتِ في ذلك فأقول:
بدأت الدولةُ الإسلاميةُ تتخذ طابعَها وتتشكل تشريعاتُها السياسية في شُئونها الداخلية وعلاقاتها الخارجية، وكان صاحبُ السلطةِ فيها هو رسولُ الله ﵌ وصحابتُه ﵃ هم أعوانُه ووزَراؤُه؛ شئونهم الداخلية والخارجية تحكمها الشريعةُ الإسلاميةُ، وكان من الصحابة -رضوان الله عليهم- الرضا والتسليم، وقد وصفهم ربُّهم- ﷾ بذلك بقوله: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (النور: ٥١).
وصحابةُ النبي ﵌ هم ساداتُ المؤمنين، وجاء الشرعُ بما ينظم شئونَ الإنسانِ في كل المجالات، ومن ذلك ما يتعلق بالسياسة في كل مجالاتها الداخلية والخارجية،
1 / 13
يحددُ العلاقةَ بين الراعي والرعية، وبين أفرادِ الرعية مع بعضهم، يحدد لكلٍّ مسئولياته، ويعرفه بواجباته، فجاءتِ النصوصُ الشرعيةُ من الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة ببيان هذه السياسةِ، ومنها على سبيل المثال:
قولُ الله- ﵎: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى: من الآية: ٣٨) وهذا فيه بيانٌ لطبيعة السلطة في الإسلام.
وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة: ١٢٣) وفي هذا بيان لنوعٍ من العلاقة الخارجية.
وقال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: ١٧٩) وفي هذا حفظٌ للحدود، وإقامةٌ لها؛ كي تُحفظ النفسُ، ويُحفظ المالُ، وكلُّ ذلك في إطار تحقيق الأمن الداخلي للمجتمع.
هذه أبرز التشريعاتِ السياسيةِ للدولةِ الإسلاميةِ؛ وأعني بها: التشريعاتِ عمومًا.
ب- أَنْتَقِلُ بعد ذلك إلى النقطة التالية في هذا العنصر، وهي بعُنوان: ملامحُ السياسة الداخلية للدولة الإسلامية:
لقد كان رسول الله ﵌ يستمدُّ سياستَه الداخلية لهذه الدولة الإسلامية من وحي الله ﷾ ومن الصعب -في هذا اللقاء السريع- أن أحيطَ بجوانبِ السياسية الداخلية لهذه الدولة في عهد رسول الله ﵌ وتنظيمِها، ولكن يمكن الإشارةُ إلى شيء من هذه السياسة وهذا التنظيم، الذي كان يقوم به النبي ﵌ لتعرف الأمة شيئًا عن السياسةِ الداخليةِ للدولةِ الإسلاميةِ في عهدِها الأولِّ، وما يجب أن تكون عليه الحكوماتُ بعد ذلك:
فمن ملامحِ هذه السياسة: أن النبي ﵌ كان يقوم بمهمة البلاغِ، فكان يتلقى الوحيَ ويبلغه للناس، وكان يدعو الناسَ للإسلام مع الحرص على التأليف بينهم، وكان
1 / 14
يحذِّرُهم ﵌ من الشرك، وكان يتولَّى الفصلَ في المنازعاتِ، وتعيينِ الوُلاةِ، وجمعِ الأموال الزكوية ونحوِها، وإنفاقها في مصارفها.
وكان ﵌ يستشير أصحابَه فيما يستجدُّ له من الأمور، فقد ثبتتْ مُشاورتُه لهم في أمورٍ كثيرةٍ، والمشاورة لم تكن قاصرةً على أمور الحرب، أو الجانب العسكري فحسب؛ بل كانت تتعدى إلى ما وراء ذلك.
وكان ﵌ يستخلفُ على المدينة حين غيابِه، أو يؤمِّر على البعوث والسرايا ونحوها، إذا لم يخرج هو ﵌ كما كان يحرص على توزيع مَهام الدولة توزيعًا دقيقًا، فكان هناك صاحبُ السر، وكان هناك الكتابُ -أعني: كتابَ الوحي- وكتاب الرسائل، وكتاب العُهود، والصلح والمواثيق، وكان هناك صاحبُ الخَتْم، وغير ذلك.
والنبيُّ ﵌ جعل مسئوليةَ حمايةَ البلدِ على كل قادر من أفراد الرعية، فلم يكن هناك جيشٌ محددٌ؛ بل كان ﵌ ينادي الناسَ بالجهاد، ثم يختار منهم مَن يصلح لذلك، مع اعتنائه ﵌ الكامل باختيار من يراه الأصلحَ؛ لخوض غِمار هذه الحروب، والمَهام العسكريةِ.
هذه أبرزُ الملامحِ السياسية الداخلية للدولة الإسلامية في عهد النبي ﵌.
جـ- أَنْتَقِلُ إلى نقطة أخرى تحت هذا العنصر وهي بعنوان: العلاقاتُ الخارجيةُ للدولة الإسلامية:
تتمثل العلاقةُ الخارجيةُ للدولة الإسلامية في عهد الرسول ﵌ مع غيرِها بمظاهرَ، منها:
أولًا: الدعوةُ والجهادُ: كانت العلاقاتُ الخارجيةُ للدولة الإسلامية مع غيرها من الدول مبنيةً على أساس الدعوةِ إلى الله ﷾ ولم يكن من سياسةِ الدولة
1 / 15
الإسلامية اللجوءُ إلى الحرب إلا بعد عِدة مراحلَ، وكان من السياسة القتالية الإسلامية تحقيقُ الهدف بأدنى حد من الخسائر حتى في صُفوفِ العدوِّ، وذلك بالنهي عن قتل الشيوخ، والنساء، والأطفال، وعدم قطع الأشجار.
ويدل على ذلك أن رسولَ الله ﵌ كان إذا أَمَّر أميرًا على جيش أو سَرية أوصاهُ في خاصتِه بتقوى الله، ومَن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: «اغزوا بِسم الله في سَبيلِ اللهِ، قاتلوا مَن كَفَرَ باللهِ، اغْزوا ولا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِروا، ولا تَمْثُلُوا، ولا تقتلوا وَلِيدًا» وهذا في الحقيقة مظهرٌ جميلٌ من مظاهر الإسلام، وحرصِه على عدم سَفْكِ الدماء.
وكان القتالُ في الإسلام -كما هو معلوم، وسيأتي حديثٌ لذلك مستقِلٌّ إن شاء الله تعالى- له أهدافٌ يحققها، وكانت من ورائه متطلباتٌ تدعو إليه، وإذا وقَعَ بعد استنفاذ الجَهد في ذلك، كان النبي ﵌ كما جاء في هذا الحديث- يحذرُ من الغدر والخيانة، أو التمثيل بالأعداء، أو قتلِ الأطفال والنساء والشيوخ، وهذا في الحقيقة من عَظَمة دينِ الله ﵎ ونحن نردُّ به على مَن يتهمون الإسلامَ بالإرهابِ، أو العنفِ، أو ما إلى ذلك.
أيضًا من مظاهر العلاقات الخارجية للدولة الإسلامية إرسالُ الرسلِ والرسائل:
حيث كان النبيُّ ﵌ يبعثُ مع بعضِ صحابتِهِ مِن الرسائل الدعوية إلى المُلوك وغيرهم، ومنها -مثلًا-: كتابه ﵌ إلى هِرقلَ عظيمِ الروم، الذي أرسل به دِحيةَ بنَ خليفةَ الكلبيَّ ﵁ وكتابه أيضًا إلى كسرى عظيمِ فارس، الذي أرسل به عبدَ اللهِ بنَ حُذافةَ السُّهميَّ، وكتابه إلى النجاشي ملك الحبشة، الذي أرسل به
1 / 16
عمروَ بنَ أميةَ الضمريَّ، وكتابه إلى المقوقس ملك مصر والإسكندرية، الذي أرسل به حَاطِبَ بنَ أبي بلتعةَ، إلى غير ذلك من الكُتُب التي بعث بها رسول الله ﵌ من الملوك، وغيرهم.
وكان الهدفُ منها دعوةَ هؤلاء الناس إلى الله ﵎ وهذا أيضًا في الحقيقة بيانٌ لوظيفة النبي ﵌ في البلاغ، وأنه كان يتحرَّى بدعوته الناس جميعًا.
وهذا من العلاقات الخارجية في الحقيقة للدولة الإسلامية.
ومن العلاقات أيضًا الخارجية للدولة الإسلامية العهود والمواثيق:
فالعهودُ والمواثيقُ نوعٌ من العلاقات الخارجية للدولة الإسلامية مع غيرها، فقد كانت تُعقد عهودٌ ومواثيقٌ في عهد النبي ﵌ وما زال المسلمون -إلى يومنا هذا- يحتاجون إلى إجراء هذه العهود، وتِلْكُمُ المواثيقِ مع الدول الأخرى، والبلاد المختلفة.
وقد أجرى النبيُّ ﵌ صلحًا مع كفارِ قريشٍ، وقد سمَّى الحق ﵎ هذا الصلحَ فتحًا، كما في قول الله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ (الفتح: ١) رغم أنَّ الناظرَ في بنود هذا الصلح قد يجدُ أنَّ فيه إجحافًا بالإسلام والمسلمين، ولم يرْضَهُ في أول الأمر بعضُ الصحابة، ولكنَّ النبيَّ ﵌ الذي كان يتبع الوحيَ، وكان مؤيدًا بتأييد الله ﵎ له، أجرى هذا الصلحَ وهو يعلم أن لهذا الصلحِ -الذي أجراه- ثمارًا جليلةً عظيمةً، فقد كان صلحُ الحديبية بمثابةِ النصر للدولةِ الإسلاميةِ، وانتشارِ الإسلام بشكلٍ أوسعَ في الجزيرة العربية وما حولها.
ومن أبرز نتائجه:
أن هذا الصلحَ كان مقدمةً بين يدي الفتح الأعظم الذي أعز اللهُ به رسولَه ﵌ وجندَه، وأيضًا من نتائجه: اعترافُ قريشٍ بمكانة المسلمين كفريق قوي، تُبرَمُ معه المعاهداتُ.
1 / 17
ومن ثماره أيضًا: تَفَرَّغَ الرسولُ ﵌ لمخاطبة قادةِ بعضِ الدول -كما أشرت سابقًا: كقيصر، وكسرى، والنجاشي، وأمراء الأعراب، ودعوة هؤلاء جميعًا إلى الإسلام.
وكان من ثماره: تفرغ الرسول ﵌ لمحاربة اليهودِ، حيث خرج رسولُ الله ﵌ بعد نحوٍ من شهرينِ إلى غَزوةِ خَيبرَ.
وبهذا تتضحُ لنا أبرزُ المعالمِ للسياسةِ الخارجيةِ للدولةِ الإسلاميةِ.
خَصَائِصُ النِّظامِ السياسيِّ في الإسْلامِ
أَنْتَقِلُ بعد ذلك إلى العنصر الثالث في هذا اللقاء وهو بعنوان: خَصائِصُ النظام السياسي في الإسلام:
وهذا في الحقيقةِ عُنصرٌ مُهِمٌّ؛ لأنه يبين أيضًا مكانةَ هذا الدين، وكيف أن الإسلامَ سارَ بالمسلمين وسلكَ بهم مَسلكًا حسنًا، وأن نظامَه السياسي كغيرِه من الأنظمة هو أحدُ مفرداتِ منظومةِ دينِ الإسلامِ، كالتربية الإسلامية مثلًا، وما إلى ذلك.
وهذه الخصائصُ الخالدةُ التي جاء بها الإسلامُ تُبرِزُ دورَه في أنه دينٌ إلهيٌّ، جاء لِيُقَوِّمَ حياةَ الأفراد والمجتمعاتِ.
لهذا سأذكرُ هنا -إن شاء الله ﵎ أهمَّ خصائصِ النظام السياسي في الإسلام؛ لنعرِفَ أيضًا عظمةَ هذا الدين، الذي جاء به النبيُّ الأمينُ ﵌.
أُولَى خصائصِ النظام السياسي في الإسلام: الربانيةُ:
وهذه الربانيةُ تتمثل في رَبانيةِ المصدر وربانية الوِجهةِ؛ أما ربانيةُ المصدِر: فلها ثمارٌ عديدةٌ، ومعنى ربانية: يعني: أن هذا النظام جاء من عند الرب الخالق -جل في علاه- الالتزامُ بما جاء من عند الله سبحانه له ثمارٌ عديدة، منها:
العِصمةُ من التناقض، وأيضًا: البراءةُ من التحيز والميل لمصلحة طائفة من البشر، أو بلد دون آخر، وأيضًا: الاحترامُ وسهولةُ الانقيادِ، وأيضًا: التحرُّرُ من عُبُودية الإنسانِ للإنسان، والعبوديةُ هي: الذلُّ والخضوعُ والانقيادُ، وقد انحرفتِ الأنظمةُ السياسيةُ الوضعيةٌ بتذليل
1 / 18
الأَتْبَاع للمتبوعين، وانحرفت في جانب آخر من جوانب العبودية وهو أنَّ السادةَ قد يُحرِّمون على أَتْبَاعهم مَا يَشَاءُونَ، وَيُحِلِّلُون لهم ما يشاءون.
أما في الإسلامِ فالمشرعُ هو الله ﵎ فلا ربَّ سواه، ولا عبوديةَ لأحدٍ إلا لَهُ هو.
وهذا معنى رَبانيةِ المصدر.
أما ربانيةُ الوِجهة: فمعناها: أن يبتغي الإنسانُ بعمله ربَّ العزةِ والجلال ﷾ فالإنسانُ المسلمُ هو الذي تكون أعمالُه كلُّها لله ﷾ كما قال -جل ذكره-: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الأنعام: ١٦١، ١٦٣) هكذا يُعلن الإنسانُ المؤمنُ تَوجُّهَهُ لله ﷾ في جميعِ أمورهِ، ومن جملتها: منهجه السياسي الذي يسير عليه.
ولعلكم تلاحظون: أن الأمرَ في هذه الآية مُوجَّهٌ للنبي ﵌ أولًا: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي﴾ وإذا كان إمام الدولة خاتَم الأنبياء والمرسلين -صلوات الله وسلامه عليه- الذي يتلقى الوحيَ من ربه، هو أولُ العابدين لله، هو أولُ الخاضعين لله، هو أولُ المستجيبينَ لله، فلا شكَّ أن غيرَه من بابِ أولى، والعملُ بالنظام السياسي الإسلامي أمرٌ يُتعبَّدُ اللهُ ﵎ به.
فالسياسيُّ المسلمُ هو الذي يسيرُ على شَرْعِ الله، مُخلصًا في ذلك نيتَه لله ﵎ ولا شكَّ أنه مأجورٌ عند الله ﷾ على عملهِ، ويدل على ذلك حديثُ النبي ﵌ الذي يقول فيه: «سَبْعةٌ يُظلهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه ...» وذكر منهم: «الإمام العادل».
وفي المقابل فإن مَن أعرَضَ عن السياسةِ الإسلاميةِ وعَمِلَ بخلافِها، فإنَّه ولا شك معرَّضُ للعقوبة من الله ﷾ ويدل على ذلك قولُ النبي ﵌: «ما مِن عبدٍ اسْتَرْعَاهُ اللهُ رَعَيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا بِنُصْحِهِ، إلَّا لَمْ يَجِدْ رائحةَ الجنةِ».
1 / 19
الخاصيةُ الثانيةُ من خصائص النظام السياسي في الإسلام: الشمولُ:
النظامُ السياسيُّ في الإسلام كما أنه نِظامٌ رَبانيٌّ فهو أيضًا نظامٌ شاملٌ يشملُ الدنيا والآخِرةَ، يشمل جميعَ الأفرادِ والمجتمعاتِ، يلبي حاجاتِ المجتمعاتِ في أي عصرٍ، وفي أي مصرٍ، وفي أي زمانٍ، وفي أي مكانٍ؛ لأن مصدرَه اللهُ ﵎ الخالقُ، وهو القائل في كتابه: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ (الأنعام: من الآية: ٣٨).
فالنظامُ السياسيُّ في الإسلام لم يأتِ قاصرًا على ما يَهُم الحاكم، أو على ما يهم المحكوم؛ بل جاء شاملًا لكل ما يحتاجُه النظامُ من بيانٍ لواجبات الأمير وحقوقِه، وواجبات المأمور وحقوقه، وجاء أيضًا بما يُنظم علاقةَ الدولةِ الإسلاميةِ بغيرِها من الأمم والشعوب، من المسلمين وغير المسلمين، ويدل على هذا الشمول قولُ الحق ﵎: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: من الآية: ٨٩).
قال ابنُ الجوزيِّ ﵀ ﵎ في تفسير هذه الآية-:
لكل شيء من أمور الدِّينِ إما بالنصِّ عليه، أو بالإحالةِ إلى ما يُوجِبُ العلم، مثل: بيانُ رسول الله ﵌ أو إجماعُ المسلمين؛ وعن أبي ذر -رضي الله ﵎ عنه- قال: "لقد تركنا محمدٌ ﵌ وما يُحرِّكُ طائِرٌ جَناحَيْهِ في السماء إلا ذَكَرَ لنا منه عِلْمًا".
وهذا في الحقيقة واضحٌ من خلال التشريعاتِ الربانيةِ التي جاءت من عند الله ﵎ لأنه من المعلومِ أن اللهَ ﷿ أكملَ لنبيه الدينَ، وأتم بذلك علينا نعمتَه، ورضي لنا الإسلامَ دينًا، ولم يقبضْ ربُّ العزة والجلال نبيَّه وحبيبَه ومصطفَاهُ -صلوات الله وسلامه عليه- إليه إلا بعد أن بلغ البلاغَ المبينَ، واللهُ ﷿ أنْزَلَ عليه في عَرفاتٍ في حَجَّة الوداع قولَه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ﴾ (المائدة: من الآية: ٣).
وهذا يدلُّ بوضوحٍ على أن الإسلامَ لم يدعْ شيئًا يحتاج إليه الفردُ أو الجماعةُ إلا وأتى به، ومن ذلك ما يتعلق بالنظام السياسي
1 / 20
الخاصيةُ الثالثةُ من خصائص النظام السياسي في الإسلام هي: العالميةُ:
النظامُ السياسيُّ في الإسلام له صفةُ العالميةِ؛ لأنه منزلٌ لجميع الناس على حدِّ سواء، وصالحٌ لهم جميعًا بِحَسَبِ طبيعتهمِ الإنسانيةِ، بغض النظر عن الجنسِ أو اللونِ أو اللغةِ، وبصرف النظر عن المكان والزمان، فالدينُ الإسلاميُّ وما جاء به من النُّظُمِ له هذه الخاصيةُ في الزمان والمكان، فعالميةُ الزمانِ تعني: أنها صالحةٌ إلى قيام الساعة، وعالمية المكان تعني: أنها صالحةٌ على أي جزء من أجزاء المعمورة، فهي صالحةٌ للناس جميعِهم على اختلافِ أجناسهِمْ ولغاتِهِمْ.
ولقد جاءتْ الآياتُ والأحاديثُ ببيان هذه الصفةِ، ومن ذلك: قولُ الحق ﵎ في كتابه: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ (الأعراف: من الآية: ١٥٨) وقال اللهُ ﷿ عن النبي ﵌ وخاطَبَهُ بذلك: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: ١٠٧) صلوات الله وسلامه عليه.
فَبِعثَةُ النبيِّ ﵊ بِعثةٌ عامَّةٌ، بعثةٌ شاملةٌ، ليست محدودةً، ولَا لَقَوْمٍ دونَ قومٍ، كما كان الحالُ عليه الأنبياء السابقين قبل بعثة النبي ﵌ ولذلك نجد أنَّ النبيَّ ﵌ ذكرَ في حديثهِ أنه فُضِّلَ على الأنبياءِ بفضائلَ، كقوله: «فُضلتُ عَلَى الأنبياءِ بِخَمْسٍ ...» وفي رواية: «بِست ...» وذكر منها ﵌ قوله: «وكان النبيُّ يُبعثُ إلى قومه خَاصةً، وبُعِثْتُ إلى الناس عَامةً».
ولهذا أخبر النبي ﵌ أن هذا الدينَ سيبلغُ الآفاقَ، وذلك في قوله: «ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بَلَغَ الليلُ والنهارُ» ويعني بهذا: «الأمر»: الدينَ والوحيَ والتشريعَ الذي بُعثَ به ﵌ وذكر أنَّ اللهَ ﷿: «لا يتركُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَر إلا أدخلَهُ اللهُ هذا الدينَ، بِعِزِّ عَزيزٍ أو بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بهِ الإسلامَ، وذلًّا يُذِلُّ اللهُ بهِ الكُفْرَ».
1 / 21
ولأنَّ الإسلامَ هو آخرُ الأديانِ ولا دينَ بعده، فلا بد أن يكون صالحًا لكل زمانٍ ومكانٍ إلى قيام الساعةِ، كما أنَّ بقاءَ المصدرِ الأصليِّ لهذا الدين سليمًا لم يُحرَّفْ دليلٌ قاطِعٌ أيضًا على عالَميةِ هذا الدينِ وأنظمتِه باختلاف أنواعِها.
ويدل على هذه العالميةِ قولُ الحق ﵎: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: من الآية: ٨٩) كما يدل على بقاء هذا المصدرِ دونَ تحريفٍ أو تبديلٍ أو تغييرٍ ليلبيَ احتياجاتِ البشر على مدى الأزمانِ والعُصُورِ قولُ الحق ﵎ في القرآن الكريم: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: ٩).
الخاصيةُ الرابعةُ من خصائص النظام السياسي في الإسلام: الوسطيةُ:
جاء الإسلامُ وَسَطًا في عقيدتِه، ووسطًا في شريعتِه، وذلك بين الغُلُوِّ والتقصيرِ، وكذلك أيضًا وسطًا في أنظمتِه، ومن جُملتِها: النظامُ السياسيُ في الإسلام، فلا هو نِظامٌ دِيكْتَاتُوريٌّ مُفْرِطٌ، ولا نظامٌ دِيمُقراطيٌّ مُفَرِّطْ، وهو بهذا خيرُ نظامٍ عَرَفَتْهُ البشريةُ.
وسمةُ الوسطيةِ من السماتِ الجليلةِ العظيمةِ لدين الإسلام ﵎ والدينُ الإسلاميُّ وسطٌ في كلِّ الأمور بين الإفراطِ والتفريطِ، وقد وَصَفَ اللهُ ﷾ هذه الأمةَ بالوسطيةِ في كتابه، فقال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة: من الآية: ١٤٣).
والوسطُ هو العدلُ الخِيارُ.
ولهذا، كانتْ هذه الأمةُ وكان هذا الدينُ متميزًا بهذه المَيزةِ الجليلةِ، ألا وهي الوسطيةُ، وبهذا ارتفعَ على جميعِ الأديانِ، وهيمنَ عليها، وهو بحقٍّ دينُ التوسطِ والاعتدالِ، ونحن إذ نُقدِّمُه للبشرية نقدمه بهذه السماتِ والصفاتِ الجليلةِ العظيمةِ الرفيعةِ العاليةِ.
الخاصيةُ الخامسةُ والأخيرةُ من خصائص النظام السياسي في الإسلام: موافقةُ الفِطرةِ:
هذا الدينُ الذي جاء من عند الله ﷿ يتفقُ مع الفطرةِ البشريةِ، ويوافقُ
1 / 22
قدراتِ الإنسانِ وإمكانياتِه وحاجاتِه، ولذلك يمكن أن نقولَ بأنَّ الدينَ جاء موافقًا للفِطرة الإنسانيةِ، واللهُ ﷿ قد فَطَرَ عبادَه على الإسلام، فَإِذَنْ الإسلامُ -بِناءً على ذلك- يتفقُ ويوافقُ الفطرةَ؛ قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ (الروم: من الآية: ٣٠).
ويقولُ الرسولُ ﵌ كما في حديث أبي هريرة: «كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ على الفِطرَةِ ...» والتغييرُ يأتي على الإنسانِ بعدَ ذلك نتيجةَ المجتمع الذي الذي يعيشُ فيه؛ ولذلك قال: «فأبَواهُ يُهوِّدَانِهِ، أو يُنصرانِهِ، أو يُمجِّسانِهِ».
وموافقةُ الفطرةِ في المجالِ السياسيِّ الإسلاميِّ يَظهَرُ في أُمورٍ متعددةٍ؛ الإتيان بالأنظمة والتشريعات السياسية الممكنةِ التطبيقِ في واقعِ البشرِ، فالتشريعاتُ والأنظمةُ السياسيةُ ممكنةُ التطبيقِ في واقع البشرِ، كذلك أيضًا مما يُوافقُ الفِطرةَ في المجال السياسي الذي جاء به الإسلامُ هو أنَّ النظر إلى الحاكمِ في الإسلام على أنه بَشرٌ، له حقوقُهُ، وعليه واجِباتُهُ، ويُنظرُ أيضًا إلى المحكوم على أنَّه بشرٌ، له حقوقٌ، وعليه واجباتٌ، وهذا في الحقيقةِ أيضًا مِن سَمَاحةِ وعَدْلِ الإسلامِ.
هُناك خاصيةٌ أخرى من خصائص النظام السياسي في الإسلام، وهو أنه: نِظامٌ أخلاقيٌّ، ويشمل ذلك أمرينِ:
الأمرُ الأولُ: إتيانُهُ بالتشريعاتِ الأخلاقيةِ الفاضلةِ، وحثُّ الناس على الالتزام بها.
ثانيًا: أنَّ الغايةَ في الإسلامِ لا تُبِرِّرُ الوسيلةَ -كما هو الحالُ في كثيرٍ من الأنظمةِ السياسيةِ.
ومن المُلاحظِ: أنَّ الصِّبغةَ الأخلاقيةَ الظاهرةَ مَيْزَةٌ واضحةٌ للنظامِ السياسيِّ في الإسلامِ عن سائرِ الأنظمةِ السياسيةِ القديمةِ والمعاصرةِ، فالإسلامُ إلى جانبِ أنه أتى بأنظمةٍِ متعددةٍِ راعَى في هذه الأنظمةِ الأخلاقَ الكريمةَ التي جاء بها النبيُّ الأميُّ محمدُ بنُ عبد الله ﵌.
1 / 23
وهذه الخصائصُ تجعل النظامَ السياسيَ في الإسلامِ في أعلى مَراتبِ الأنظمةِ في العَالَمِ كلِّهِ، وبالتالي نحن ندعو المسلمينَ جميعًا إلى أن يلتزموا -أولًا- بالنظامِ السياسيِّ في الإسلامِ، وندعو غيرَ المسلمين إلى أن يقفوا على جَمَالِ الإسلامِ بخصائِصهِ التي جاء بها.
وأَكْتَفَي بهذا، وَصِلِّ اللهمّ وسلِّمْ وبَاركْ على نبينا مُحمدٍِ، وعلى آلِهِ، وصحبِهِ، وسَلَّم.
٢ - أَثَرُ الإسلامِ في الاجتماعِ
نِظامُ المجتمَعِ في الإسلامِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين، وبعد:
فهذه هي المحاضرة الثانية في سلسلة هذه المحاضرات، وهي تحت العنوان السابق: "الدعوةُ وصلتُها بالحياة".
وسأتكلمُ في هذه المحاضرة عن الموضوع الثاني تحت هذا العنوان الكبير، وهو: "أثرُ الإسلام في الاجتماع" وتنقسم هذه المحاضرة إلى عناصر متعددة:
العنصر الأول: نظام المجتمع في الإسلام؛ ويشتمل على النقاط التالية:
أ- أهمية النظام للمجتمع:
من الحقائق الثابتة التي أشار إليها العلامة ابنُ خلدون في مقدمته: أن الاجتماع الإنساني ضروري، وهو ما يُعبر عنه بقول بعضهم: الإنسان مدني بالطبع، ومعنى ذلك: أن المجتمع ضروري للإنسان وهو ما يؤيده الواقع، فالإنسان يُولد في المجتمع ويعيش فيه ويموت فيه، وإذا كان المجتمع ضروريًّا للإنسان ولا بد من وجوده، فإن النظام على أيِّ نحوٍ كان ضروريًّا للمجتمع، لا يُتصور وجوده بدونه؛ لأن الأفراد لا يمكنهم العيش بحرية مطلقة داخل المجتمع، وإلا كان في ذلك هلاكُهم أو اضطراب حياتهم، وانقلاب مجتمعهم إلى مجتمع حيوانات كالذي نشاهده في الغابات.
ولهذا كان لا بد من نظام للمجتمع يتضمن الحدود التي يجب أن يقف عندها الجميع، والضوابط العامة التي يجب أن يلتزموا بها في سلوكهم؛ حتى يستطيعوا العيشَ بأمان واستقرار.
1 / 24
وإذا كان لكل مجتمع نظام على نحوٍ ما، فإن هذا النظام لا بد له من أساس وأصول يرتضيها المجتمع، ويقوم عليها نظامه الذي يسير بموجبه، والنظام يكون صالحًا أو فاسدًا تبعًا لصلاح أو فساد أساسه وأصوله التي يقوم عليها؛ لأن الفرعَ يتبع الأصل في الصلاح والفساد، وإذا كان نظام المجتمع قد يكون صالحًا أو فاسدًا فإن صلاحه وفساده ينعكس على أفراده، ويتأثرون به، ويتحمَّلون تَبعاتَه فيسعدون به، أو يشقَون.
وعلى هذا فيجب على مَن يريد الخير لنفسه ولمجتمعه أن يبحث ويتحرى عن الأساس الصالح الذي يقوم عليه نظام المجتمع؛ ويسعى لتثبيت هذا الأساس، وإقامة نظام المجتمع عليه.
والواقع أن الإسلام كفانَا مئونةَ البحث والتحري عن هذا الأساس الذي يقوم عليه النظام الصالح والمجتمع؛ كما كفانا مئونة البحث عن طبيعة هذا النظام الصالح وخصائصه، مما يجعل الأمر سهلًا ميسورًا لبناء مجتمع صالح الذي يسعد به الناس جميعًا.
ب- وبناءً على ما قلتُ، أنتقل إلى النقطة التالية في هذا العنصر، وهي بعنوان: أساس نظام المجتمع في الإسلام؛ لأنه إذا كان المجتمع الصالح لا يسعد إلا إذا كان النظام صالحًا، وقد ذكرتُ أن الإسلام كفانا مئونة ذلك.
فلنتعرف الآن في هذه النقطة على: أساس نظام المجتمع في الإسلام:
إن أساس نظام المجتمع في الإسلام هو العقيدة الإسلامية؛ لأن المطلوب من كل إنسان أن يحمل هذه العقيدة، ليعرف مركزَه في الحياة، وعلاقته بالكون والغرض الذي من أجله خُلق، وهذه العقيدة هي الموجهة لأفكار الإنسان وسلوكه، وسائرِ تصرفاته، ولا يمكنه التخلي عنها في شأن من الشُئون.
وحيث إن الإنسان اجتماعيٌّ بالطبع -كما قلنا- فمنِ البَدهي أن تكون العقيدة الإسلامية هي الموجهة له في بناء هذا المجتمع، أو بكلمة أخرى يجب أن تكون العقيدة الإسلامية
1 / 25
هي الأساس لبناء المجتمع ونظامه؛ حتى يعملَ الأفراد في ضوء عقيدتهم كأفراد وأعضاء في المجتمع، كما يعمل المجتمع كجماعة منظمة في ضوء هذه العقيدة التي يحملها أفرادُه، ويترتب على ذلك أن كل من يحمل هذه العقيدة، ويدين بها ويلتزم بمقتضاها يكون أهلًا للانتماء إلى هذا المجتمع الإسلامي، فيصبح عُضوًا فيه، ويساهم في بقائه وتحقيق أغراضه، والتمتع بمزاياه، وتحمل تبِعاته، مهما كان جنسه، أو نوعه، أو لونه، أو لغته.
والحقيقة أن تقديم الإسلام هذا الأساسَ لإقامة المجتمع البشري كان حدثًا ضخمًا وفريدًا في التاريخ البشري، ما كان الناس يعرفونه ولم يخطر ببالهم؛ فالرومان واليونان والفرس والعرب قبل الإسلام أقاموا مجتمعاتِهم على أساس الجنس، أو القبيلة، أو السلالة، أو الإقليم، وبنَوْا على هذا الأساس أباطيلَ كثيرةً، تولَّد عنها الظلم والبغي وإهدار كرامة الإنسان، فلما جاء الإسلامُ بهذا الأساس الجديد لبناء المجتمع ونظامه كان ذلك انقلابًا هائلًا في الحياة البشرية؛ تكريمًا للإنسان، ووضعًا للأمور في نِصابها.
فليس من اللائق بالإنسان بناءُ مجتمعه على أساس الجنس أو القبيلة أو الإقليم كما كانت تفعل المجتمعات الجاهلية قبل الإسلام؛ ذلك لأن أصل البشر واحد، ولا يمكنه حجبَ هذه الحقيقة لاختلاف الناس بالأنساب والأجناس؛ لأن أجناسهم وشعوبهم المختلفة كالأغصان للشجرة الواحدة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (النساء: من الآية: ١).
وفي الحديث الشريف: يقول النبي ﵌: «كلكم لآدم، وآدمُ من تراب ...» وكذلك لا معنى لاتخاذ الإقليم أساسًا للمجتمع البشري؛ لأن الأرض خلقها الله للناس، فهي إقليمهم، وهي وطنهم المشترك، قال تعالى: ﴿وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ﴾ (الرحمن: ١٠).
1 / 26
وأيضًا فإن الجنس والقبيلة والسلالة لا يصلح واحد منها أن يكون أساسًا للمجتمع البشري؛ لأنه بطبيعته ضيق لا يمكنه أن يسعَ الناس جميعًا، فليس بمقدور أحد أن يكون من هذا الشَّعب أو القبيلة أو الجنس بعد أن خلقه الله من غيرها، وإنما الممكن المقدور للإنسان أن يعتنق العقيدة الإسلامية، فيكون من أعضاء المجتمع الإسلامي، ومن يرفض اعتناق هذه العقيدة فإن الإسلام والعقيدة الإسلامية والمجتمع الإسلامي لا يرفض قَبوله فيه إذا رغب هو في الانتماء إليه؛ بشرط إعلان ولائه له، وخضوعه لنظامه عن طريق عقد الذمة، وفي هذه الحالة سيجد غيرُ المسلم مكانًا أمينًا في هذا المجتمع الفكري، ويتمتع بحقوق العامة والخاصة، وبحماية تامة لنفسه وماله وعرضه.
وعلى هذا، فقول البعض: إن إقامة المجتمع على أساس العقيدة الإسلامية بغير اضطهاد غير المسلمين، وإكراههم على تبديل دينهم قولُ باطل هو من قبيل التشويش والتضليل والجهالة؛ لأن الإسلام يقرر: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين﴾ (البقرة: من الآية: ٢٥٦) والفقهاء يقررون قاعدةَ: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا".
خَصائِصُ النِّظامِ الاجتماعيِّ في الإسلامِ
أنتقلُ بعد ذلك إلى العنصر الثاني من عناصر هذه المحاضرة، وهو بعنوان: خصائص النظام الاجتماعي في الإسلام، ويشتمل هذا العنصر على النقاط التالية:
أ- المعالم البارزة لخصائص النظام الاجتماعي:
بعد أن بينت أساس النظام الاجتماعي في الإسلام، وما يترتب على هذا الأساس، أود أن أبين هنا خصائص هذا النظام، أو معالمه البارزة، وهذا أمر مهم للغاية، والواقع أن خصائصه مشتقة من أساسه، أو قائمة عليه، وهي كثيرة، أهمها:
مراعاة الأخلاق، والالتزام بمعاني العدالة، والعناية بالأُسرة، وتحديد مركز المرأة في المجتمع، وتحميل الفرد مسئولية إصلاح المجتمع.
1 / 27