Preventing the Permissibility of Figurative Language in the Quran for Worship and Miraculousness
منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز
ناشر
دار عطاءات العلم (الرياض)
ایڈیشن نمبر
الخامسة
اشاعت کا سال
١٤٤١ هـ - ٢٠١٩ م (الأولى لدار ابن حزم)
پبلشر کا مقام
دار ابن حزم (بيروت)
اصناف
آثَارُ الشَّيْخِ العَلَّامَةِ مُحَمَّد الأَمِيْن الشِّنْقِيطِيِّ (٤)
مَنْعُ جَوَازِ المَجَازِ فِي المُنَزَّلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالإِعْجَازِ
تَأليف
الشّيْخِ العَلَّامَةِ مُحمَّدِ الأَمِين بْن محمَّد المخْتار الجكني الشِّنْقِيطِيِّ
(١٣٢٥ هـ - ١٣٩٣ هـ)
إشراف
بَكر بن عَبدِ اللهِ أَبُو زَيد
دَارُ عَطَاءَاتِ العِلمِ - دار ابن حزم
_________
[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: قال محقق هذه الطبعة:
• اعتمدنا في المقابلة على الطبعة القديمة للكتاب، التي طبعت في حياة الشيخ ﵀.
• صححنا الكتاب بنحو ما تقدم في أضواء البيان.
• راجعنا الأشعار على مصادرها من كتب الشواهد والدواوين لكثرتها، وضبطنا ما هو بحاجة إلى ضبط.
• أحلنا على الكتب التي صرح الشيخ بالنقل عنها.
انتهى من «مدخل إلى مشروع: آثار الشيخ الشنقيطي» (ص: ١٦ مقدمة «أضواء البيان»)
وانظر «عن الكتاب» بطاقته بالشاملة.
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبيِّنا محمد ﷺ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الحمد لله الذي صان هذا الكتاب العزيز الجليل، عن أن يقع فيه ما وقع في التوراة والإنجيل، من أنواع التَّحريف والتغيير والتبديل، وقال: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لَا يَمَسُّهُ إلا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩)﴾ [سورة الواقعة: ٧٧ - ٧٩]. وقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)﴾ [سورة الحجر: ٩].
أما بعد:
فإنَّا لَمَّا رأينا جُلَّ أهل هذا الزمان يقولون بجواز المجاز في القرآن، ولم ينتبهوا لأن هذا المنزل للتَّعبُّد والإعجاز كله حقائق وليس فيه مجاز، وأن القول فيه بالمجاز ذريعة لنفي كثير من صفات الكمال والجلال، وأن نفي ما ثبت في كتاب أو سنة لاشك في أنه مُحال= أردنا أن نبين في هذه الرسالة ما يفهم منه الحاذق الذائق أن القرآن كله حقائق، وكيف يمكن أن يكون شيء منه غير حقيقة، وكل كلمة منه بغاية الكمال جديرة حقيقة؟!
إنه لقول فصلٌ وما هو بالهزل، أخباره كلها صدق، وأحكامه كلها عدل.
والمقصود من هذه الرسالة نصيحة المسلمين وتحذيرهم من نفي
1 / 3
صفات الكمال والجلال، التي أثبتها الله لنفسه في كتابه العزيز، بادعاء أنها مجاز وأن المجاز يجوز نفيه، لأن ذلك من أعظم وسائل التعطيل.
ومعلوم أنه لا يصفُ اللهَ أعلمُ باللهِ من اللهِ ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (١٢٢)﴾ [سورة النساء: ١٢٢] وهذا أوان الشروع في المقصود وسميته "منع جواز المجاز في المنزَّل للتعبد والإعجاز" ورتبته على مقدمة وأربعة فصول وخاتمة.
المقدمة: في ذكر الخلاف في وقوع المجاز في أصل اللغة، وأنه لا يجوز في القرآن على كلا القولين.
الفصل الأول: في بيان أنه لا يلزم من جواز الشيء في اللغة جوازه في القرآن، وذكر أمثلة لذلك.
الفصل الثاني: في الجواب عن آيات زعموا أنها من المجاز نحو ﴿جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾ الآية [سورة الكهف: ٧٧].
الفصل الثالث: في الأجوبة عن إشكالات تتعلق بنفي المجاز ونفي بعض الحقائق، ويشتمل على أمور لها تعلق بالموضوع.
الفصل الرابع: في تحقيق المقام في آيات الصفات مع نفي المجاز عنها.
الخاتمة: في وجه مناظرة النافي لبعض الصفات بالطرق الجدلية.
1 / 4
المَقَدِّمَة
اعلم أولًا أن المجاز اختُلِفَ في أصل وقوعه، قال أبو إسحاق الإسفرائيني، وأبو عليٍّ الفارسيُّ: إنه لا مجاز في اللغة أصلًا، كما عزاه لهما ابن السُّبكي في "جمع الجوامع" (^١).
وإن نقل عن الفارسيِّ تلميذه أبو الفتح: أن المجاز غالب على اللغات كما ذكره عنه صاحب "الضياء اللامع" وكل ما يسميه القائلون بالمجاز مجازًا فهو -عند من يقول بنفي المجاز- أسلوب من أساليب اللغة العربية.
فمن أساليبها: إطلاق الأسد مثلًا على الحيوان المفترس المعروف، وأنه ينصرف إليه عند الإطلاق وعدم التقييد بما يدل على أن المراد غيره.
ومن أساليبها: إطلاقه على الرجل الشجاع إذا اقترن بما يدل على ذلك. ولا مانع من كون أحد الإطلاقين لا يحتاج إلى قيد والثاني يحتاج إليه؛ لأن بعض الأساليب يتضح فيه المقصود فلا يحتاج إلى قيد، وبعضها لا يتعين المراد فيه إلا بقيد يدل عليه، وكل منهما حقيقة في محله. وقس على هذا جميع أنواع المجازات.
وعلى هذا، فلا يمكن إثبات مجاز في اللغة العربية أصلًا، كما
_________
(^١) (١/ ٣٠٨ مع حاشية البناني).
1 / 5
حققه العلامة ابن القيم ﵀ في "الصواعق" (^١)، وإنما هي أساليب متنوعة بعضها لا يحتاج إلى دليل، وبعضها يحتاج إلى دليل يدل عليه، ومع الاقتران بالدليل يقوم مقام الظاهر المستغني عن الدليل، فقولك: "رأيت أسدًا يرمي" يدل على الرجل الشجاع، كما يدل لفظ الأسد عند الإطلاق على الحيوان المفترس.
ثم إن القائلين بالمجاز في اللغة العربية اختلفوا في جواز إطلاقه في القرآن.
فقال قوم: لا يجوز أن يقال في القرآن مجاز، منهم ابن خُوَيز مِنداد من المالكية، وابن القاص من الشافعية، والظاهرية.
وبالغ في إيضاح منع المجاز في القرآن الشيخ أبو العباس ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى؛ بل أوضحا منعه في اللغة أصلًا.
والذي ندين الله به ويلزم قبوله كل منصف محقق: أنه لا يجوز إطلاق المجاز في القرآن مطلقًا على كلا القولين.
أما على القول بأنه لا مجاز في اللغة أصلًا -وهو الحق- فعدم المجاز في القرآن واضح، وأمَّا على القول بوقوع المجاز في اللغة العربية فلا يجوز القول به في القرآن.
وأوضح دليل على منعه في القرآن إجماع القائلين بالمجاز على
_________
(^١) انظر: مختصر الصواعق (٢/ ٦٩٠ فما بعدها).
1 / 6
أن كل مجاز يجوز نفيه، ويكون نافيه صادقًا في نفس الأمر، فتقول لمن قال: رأيت أسدًا يرمي، ليس هو بأسد، وإنما هو رجل شجاع، فيلزم على القول بأن في القرآن مجازًا أن في القرآن ما يجوز نفيه.
ولا شك أنه لا يجوز نفي شيء من القرآن، وهذا اللزوم اليقيني الواقع بين القول بالمجاز في القرآن وبين جواز نفي بعض القرآن قد شوهدت في الخارج صحته، وأنه كان ذريعة إلى نفي كثير من صفات الكمال والجلال الثابتة لله في القرآن العظيم.
وعن طريق القول بالمجاز توصل المعطلون لنفي ذلك فقالوا: "لا يد، ولا استواء، ولا نزول"، ونحو ذلك في كثير من آيات الصفات؛ لأن هذه الصفات لم ترد حقائقها؛ بل هي عندهم مجازات، فاليد مستعملة عندهم في النعمة أو القدرة، والاستواء في الاستيلاء، والنزول نزول أمره، ونحو ذلك، فنفوا هذه الصفات الثابتة بالوحي عن طريق القول بالمجاز.
مع أن الحق الذي هو مذهب أهل السنة الجماعة إثبات هذه الصفات التي أثبتها تعالى لنفسه، والإيمان بها من غير تكييفٍ، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل. وطريقُ مناظرة القائل بالمجاز في القرآن هي أن يقال: لا شيء من القرآن يجوز نفيه، وكلُّ مجاز يجوز نفيه، ينتج من الشكل الثاني: لا شيء من القرآن بمجاز، وهذه النتيجة كلية سالبة صادقة، ومقدمتا القياس الاقتراني الذي أنتجها لا شك في صحة الاحتجاج بهما؛ لأن الصغرى منهما وهي قولنا: لا شيء من
1 / 7
القرآن يجوز نفيه مقدمة صادقة يقينًا، لكذب نقيضها يقينًا، لأن نقيضها هو قولك: بعض القرآن يجوز نفيه، وهذا ضروري البطلان، والكبرى منهما وهي قولنا: وكل مجاز يجوز نفيه صادقة بإجماع القائلين بالمجاز، ويكفينا اعترافهم بصدقها؛ لأن المقدمات الجدلية يكفي في قبولها اعتراف الخصم بصدقها، وإذا صح تسليم المقدمتين صحت النتيجة التي هي قولنا: لا شيء من القرآن بمجاز، وهو المطلوب.
* * *
1 / 8
فصل
فإن قيل: كل ما جاز في اللغة العربية جاز في القرآن؛ لأنه بلسان عربي مبين.
فالجواب: أن هذه كلية لا تصدق إلا جزئية، وقد أجمع النظار على أن المسوَّرة تكذب لكذب سورها، كما تكذب الموجهة لكذب جهتها. وإيضاح هذا على طريق المناظرة أن القائل به يقول: المجاز جائز في اللغة العربية وكل ما جاز في اللغة العربية فهو جائز في القرآن، ينتج من الشكل الأول: المجاز جائز في القرآن.
فنقول: سلمنا المقدمة الصغرى تسليمًا جدليًّا؛ لأن الكلام على فرض صدقها، وهي قولنا: المجاز جائز في اللغة العربية، ولكن لا نسلم الكبرى التي هي قوله: وكل جائز في اللغة العربية جائز في القرآن، بل نقول بنقيضها، وقد تقرر عند عامة النظار أن نقيضَ الكلية الموجبة جزئية سالبة، فهذه المقدمة التي فيها النزاع وهي قوله: كل جائز في اللغة جائز في القرآن، كلية موجبة منتقضة بصدق نقيضها الذي هو جزئيةٌ سالبة، وهي قولنا: بعض ما يجوز في اللغة ليس بجائز في القرآن، فإذا تحقق صدق هذه الجزئية السالبة تحقق نفي الكلية الموجبة التي هي قوله: كل جائز في اللغة جائز في القرآن، والدليل على صدق الجزئية السالبة التي نقضنا بها كليته الموجبة كثرة وقوع الأشياء المستحسنة في اللغة عند البيانيين، كاستحسان المجاز وهي
1 / 9
ممنوعة في القرآن بلا نزاع. فمن ذلك ما يسميه علماء البلاغة الرجوع، وهو نوع من أنواع البديع المعنوي، وحدَّه الناظم بقوله:
وَسَمّ نقضَ سابقٍ بلاحقٍ ... لِسِرِّ الرجوع دُونَ ماحِقِ
فإنه بديع المعنى في اللغة عندهم وهو ممنوع في القرآن العظيم؛ لأن نقض السابق فيه باللاحق إنما هو لإظهار المتكلم الوَلَه والحيرة من أمر كالحب مثلًا، ثم يظهر أنه ثاب له عقله وراجع رشده، فينقض كلامه الأول الذي قاله في وقت حيرته غير مطابق للحق، كقول زهير:
قف بالدِّيار التي لِم يُعْفِها القِدَمُ ... بلى وغَيَّرَها الأرواحُ والدِّيَمُ
فقوله: بلى وغيَّرَها إلخ. عندهم ينقض به قوله: "لم يُعْفِها القدم" إظهارًا؛ لأنه قال الكلام الأول من غير شعور، ثم ثاب إليه عقله فرجع إلى الحق، وهذا بليغ جدًّا في إظهار الحب والتأثر عند رؤية دار الحبيب، ولا شك أن مثل هذا لا يجوز في القرآن ضرورة.
ومن الرجوع المذكور قول الشاعر:
أليس قليلًا نظرةٌ إن نظرتُها ... إليك وكَلَّا ليس منك قليلُ
أثبت القلةَ ونفاها إيذانًا بأن إثباته لها أولًا قاله من غير شعور لما خامره من الحب. ومن أمثلته ودهشته من غير الحب قول أبي البيداء:
وَمَا لِيَ انتصارٌ إنْ غَدَا الدَّهرُ جائرًا ... عليَّ، بلى إنْ كانْ مِنْ عِنِدك النَّصر
أثبت ما نفاه من النصر للدلالة على شدة دهشته من نوائب الدهر.
وقصدُنا التمثيل، مع العلم بأن نسبته الجَوْر للدَّهر لا تجوز، لقوله ﷺ: "لا تسبُّوا الدهر، فإن الله هو الدَّهر".
1 / 10
ومن ذلك ما يسميه البلاغيون: إيراد الجد في قالب الهزل، كقول الشاعر:
إِذَا ما تَمِيمِيٌّ أتاك مُفاخرًا ... فَقُلْ عدِّ عَنْ ذا كيف أكلك للضَّبِّ
فإن قوله: كيف أكلُكَ للضَّبِّ، يظهر أنه هزل وهو يقصد به تعييرهم بأكلهم الضَّب. وهذا من البديع المعنوي، فهو بديع المعنى، مع أنه لا يجوز في القرآن لاستحالة الهزل فيه، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤)﴾ [سورة الطارق: ١٣ - ١٤].
ومن ذلك حسن التعليل بأنواعه الأربعة المعروفة عند البيانيين، فإنه بديع المعنى عندهم؛ لأنه من البديع المعنوي وهو لا يجوز في القرآن.
وسنذكر لكل قسم منها مثالًا لنطبق عليه الجواز في اللغة والمنع في القرآن.
فمثال الأول من أقسامه قول أبي الطيب:
لم تحكِ نائلَكَ السحابُ وإِنَّما ... حُمَّتْ بِهِ فصبيبُها الرُّحضَاء
فهذا بديع معنوي عند أهل البلاغة، ولا يخفى أن القرآن لا يجوز أن يقع فيه مثل هذا الكذب الذي يدعي صاحبه أن السحاب أصابته الحُمَّى من الغيرة من كرم الممدوح، فانصبَّ منه العرق لشدة الغيرة، وأن ماءه هو ذلك العرق الكائن من شدة الغيرة.
وقول أبي هلال العسكري:
زَعَمَ البنفسج أنه كعذاره ... حُسْنًا فسلُّوا مِن قفَاه لسانَه
1 / 11
ومعلومٌ أن القرآن لا يجوز فيه مثل هذا الكذب الذي يدعي صاحبه أن علة خروج ورقة البنفسج إلى الخلف كذبه وافتراؤه في زعمه أنه كعذار المشبَّب به في الحسن.
ومثال الثانِي منها قول أبي الطيب:
مَا بهِ قَتْلُ أعادِيه ولكنْ ... يتَّقي إخلافَ ما ترجو الذِّئابُ
فَهذا من البديع المعنوي عند أهل البلاغة، ولا يجوز أن يقع في القرآن مثل هذا الكذب الظاهر، الذي يزعم صاحبه أن الممدوح ما قتل أعداءه إلا لأجل الوفاء للذِّئاب بما عودهم عليه، من أنه يقتل لهم الرِّجال ليأكلوا من لحومهم. ومعلوم أن الحامل له على قتل الأعداء غير الوفاء للذِّئاب.
وقولُ الآخر:
تقولُ وفي قولها حشمةٌ ... أتبكي بعينٍ تراني بها
فقلتُ إذا استَحسنت غَيرَكم ... أمرتُ الدُّموعَ بتأديبها
فهذا الكذب الذي يدَّعي صاحبه أن علة بكائه تأديبه عينه بالدموع من أجل استحسانها لغير المحبوب لا يجوز مثله في القرآن.
ومثال الثالث منها قول مسلم بن الوليد:
يا واشيًا حَسُنَتْ فينا إساءَتُه ... نجَّى حذارُك إنساني مِن الغرق
فهذا من البديع المعنوي عندهم، ومعلوم أن القرآن العظيم لا يصح فيه أن يحسن الله إساءة من أساءَ إليه.
ومثال الرابع منها قول الخطيب القزويني:
لَوْ لَمْ تكنْ هِمَّةُ الجوْزاءِ خدمتَه ... لَمَا رأيتَ عليها عقدَ منتطقِ
1 / 12
فهذا من البديع المعنوي عندهم، ومعلوم أن هذا الكذب الذي صرَّح صاحبُه بأن الجوزاء ناوية لخدمة الممدوح، وأن الكواكب التي حولها المعروفة بنطاق الجوزاء أنها نطاق شدَّتْه عليها لعزمها على التشمير لخدمة الممدوح= لا يجوز وقوع مثله في القرآن.
ومن ذلك الإغراق والغلو من أنواع المبالغة، فإن الإغراق جائز مطلقًا عند البلاغيين.
والغلو يجوز عندهم في بعض الأحوال ويمتنع في بعضها.
والإغراقُ عندهم هو ما أمكن عقلًا واستحال عادةً، كقول الشاعر:
ونُكرِمُ جارَنَا ما دامَ فينا ... ونُتْبعُهُ الكرامةَ حيثُ مالا
ومعلوم أن المستحيل عادة لم يقع بالفعل وإن جاز عقلًا، وهذا لا يجوز في القرآن؛ لأنه كذب.
والتحقيق أن هذا البيت من الإغراق لا من التبليغ كما زعمه البعض؛ لأن اتباعه الكرامة في كل مكان ارتحل إليه دائمًا مما تمنعه العادة وإن جاز عقلًا.
وكقول أبي الطيب:
كَفَى بجسمي نحولًا أنَّني رجلٌ ... لولا مخاطبتي إياكَ لمْ تَرَني
لأنه يجوز عقلًا وصول الشخص في النحول إلى هذه الحال وإن امتنع عادة، ومعلوم أن مثل هذا لا يجوز في القرآن.
والغلو -عندهم- ما لا يمكن عقلًا ولا عادة، كقول أبي نواس:
1 / 13
وأخَفْتَ أهلَ الشِّركِ حتَّى أنَّه ... لتَخَافُكَ النُّطَفُ التي لمْ تُخلقِ
ومثل هذا البيت لا يجوز عند أهل البلاغة، ولكن الغلو عندهم يجوز في بعض الأحوال ككونه خارجًا مخرج الهزل والخلاعة كقوله:
اسْكَرُ بالأمس إن عزمتُ على الشُّـ ... ـربِ غدًا إنَّ ذا مِن العجب
وكقول النطَّام:
توهَّمَه طَرْفي فآلم طرْفه ... فصارَ مكانَ الوهم في خدِّه أثر
ومرَّ بفكري خاطرًا فجرحتُه ... ولمْ أَرَ خلْقًا قَطُّ يجرحُه الفكرُ
وككونه متضمنًا حُسْن تخييل كقول أبي الطيب يصف فرسًا:
عَقَدَتْ سنابكُها عليها عِثْيَرا ... لو تبتغي عنقًا عليهِ لأمكَنَا
وقول المعَرِّي يصف سيفًا:
يُذيبُ الرعبُ منه كلَّ عَضْب ... فلولا الغمدُ يمسكُهُ لَسَالا
فمثل هذا كله جائز عند البلاغيين؛ بل هو عندهم بديع معنوي، ومعلوم أن مثله لا يجوز في القرآن.
وما زعمه كثير من أهل البلاغة من أن الغلو جاء في القرآن إلا أنه جاء مقترنًا بما يجعله مقبولًا وهو اقترانه بما يقربه إلى الصحة ممثلين بقوله تعالى: ﴿يَكَادُ زَيتُهَا يُضِيءُ﴾ [سورة النور: ٣٥].
فإنه كلام باطل ومنكر من القول وزور. سبحان الله وتعالى علوًّا كبيرًا عن أن يكون في كلامه ما هو قريب من الصحة؛ لأن القريب من الصحة ليس بصحيحٍ في نفس الأمر، والله يقول: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ [سورة النساء: ١٢٢]. ويقول: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ [سورة النساء: ٨٧].
1 / 14
ويقول: ﴿أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ [سورة البقرة: ١٤٠].
ويقول: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [سورة الأنعام: ١١٥].
فهذا الكلام الذي قاله تعالى لا شك في أنه صحيح. وقوله: يكاد. معناه يقرب. ولا شك أن ذلك الزيت يقرب من الإضاءة ولو لم تمسسه نار، ولكنه لم يُضيء بالفعل كما هو مدلول الآية الكريمة.
فإن قيل: قد جاء في كلامه ﷺ ما يدل على جواز الإغراق، وذلك في قوله ﷺ في بعض روايات حديث فاطمة بنت قيس ﵂: "وأبو جهمٍ لا يضع عصاه عن عاتقه".
ومعلوم أنه يضعها في بعض الأوقات كأوقات النوم والصلاة وغير ذلك.
فالجواب: أن قوله ﷺ: "لا يضع عصاه عن عاتقه" كناية عن كثرة ضربه النساء.
والمراد بلفظ الكناية لازم معناه، ولازم معناه المراد به الذي هو كثرة ضرب النساء واقع صدقًا بلا شك كما جاء مصرحًا به في بعض روايات الحديث في قوله: "وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء"، فظهر أن المقصود من لفظ الكناية في الحديث واقع حقًّا بلا شك من غير كذب في مدلول اللفظ بخلاف الإغراق كقوله:
* وَنُتْبِعه الكرامةَ حَيث مَالا *
وقوله:
* لَوْلَا مخاطبتي إياك لمْ تَرني *
1 / 15
فإنه مستعمل في نفس موضوعه وهو كذب لاستحالته عادة، وليس مستعملًا في لازمٍ صادقٍ كالحديث، فاتضح الفرق.
فإن قيل: الكناية هي اللفظ الذي أريد به لازم معناه -كما ذكرتم- ولكن من تمام تعريفها جواز إرادة المعنى الأصلي، وبذلك القيد تفارق المجاز، كقول الشاعر:
فَمَا يَكُ فِيّ من عَيبٍ فإنِّي ... جبانُ الكلْبِ مهزولُ الفصيلِ
وقول الخنساء في صخر:
طويلُ النّجادِ عظيمُ الرما ... د سَادَ عشيرته أمردا
فإن جبان الكلب، ومهزول الفصيل، وعظيم الرماد: كنايات عن الجود، وطويل النجاد كناية عن طول القامة، مع أنه يجوز في كلها قصد المعنى الأصلي؛ لأن الجواد مهزول الفصيل لنحره أمه، وصرفه اللبن عنه في الحقوق. وكذلك هو جبان الكلب لكثرة غشيان الضيوف بيته. وكذلك هو كثير الرماد لكثرة وقود الحطب لقرى الضيف، وطويل القامة طويل النجاد أيضًا، فلا مانع من قصد هذه المعاني الأصلية، وإن كان المراد الانتقال منها إلى لوازمها، ولو أردنا أن نقصد المعنى الأصلي في الحديث لقوله: "لا يضع عصاه عن عاتقه" لأدى ذلك إلى الكذب المستحيل أو الإغراق في كلامه ﷺ.
فالجواب: أن الفرق بين الكناية والإغراق واقع على كل حال؛ لأن المراد بلفظ الكناية لازم معناه، وإن جاز قصد أصله معه بالنظر إلى ذاته، مع أنه ربما امتنع قصده لعارض كما في هذا الحديث، كما نبه
1 / 16
عليه بعضهم.
والمراد في الإغراق نفس المعنى المطابقي لا لازمه، وإرادة نفس المعنى في الإغراق يلزمها كذب اللفظ، وإرادة لازمه في الكناية تكون معها القضية صادقة، فظهر الصدق في أحد القصدين والكذب في الآخر.
والحامل عند البيانيين على الإغراق والغلو هو ألا يظن أحد أن الوصف المبالغ فيه غير متناه في الشدة أو الضعف، إلا أن العبارة في الإغراق والغلو كاذبة في نفس الأمر لما قدمنا من أن الإغراق في المستحيل عادة، والغلو في المتسحيل عادة وعقلًا، وكلاهما كذبٌ يُنزَّه الكتاب والسنة عن مثله.
ومن ذلك تجاهل العارف، فإنه من البديع المعنوي عند علماء البلاغة؛ لأنه إما لمبالغة في المدح بالكذب، كقوله:
ألَمْعُ برقٍ سرَى أم ضوءُ مصباحِ ... أم ابتسامتُها بالمنظر الضاحي
وقول نابغة ذبيان:
ألمحةٌ من سنا برقٍ رأى بصري ... أمن وجْهُ نُعمٍ بَدا لي أم سنا نارِ
وقول الآخر:
أهذه جنَّةُ الفرْدَوسِ أمْ إرم ... أم حضرةٌ حفَّها العلياءُ والكرم
وإما لإظهار التوَلُّه والتحيّر من الحبِّ كقوله:
بالله يا ظبيات القاع قُلْنَ لنَا ... ليلايَ منكنَّ أمْ لَيلى مِن البَشَرِ
وإما لمبالغةٍ في الذَّمِّ بالكذب كقول زهير:
1 / 17
وَمَا أدري وسوف أخالُ أدْرِي ... أقومٌ آلُ حصنٍ أم نساءُ
وإما لتوبيخ بلا موجب كقول فاطمة الخارجية:
أيا شجر الخابور مَا لكَ مورقًا ... كأنك لم تجزع على ابن طَرِيف
ومعلومٌ أنه لا يجوز شيء من ذلك كله في القرآن لاستحالة التجاهل على الله تعالى.
وقد فطِن السكَّاكي لهذا فَعَدل عن لفظ "التجاهل"، وسماه سَوْق المعلوم مساق غيره لنكتة، ليدخل فيه مواضع من القرآن زعم أنها منه، وعبارة الجمهور بلفظ "التجاهل"، ولا تخفى استحالته على الله تعالى.
ومن ذلك أحد ضربي القول بالموجب؛ لأنه عند البلاغيين ضربان، وهو عندهم من البديع المعنوي أيضًا، وأحد ضربيه لا يجوز وقوع مثله في القرآن، وهو حمل لفظ وقع في كلام الغير على معنى يحتمله، وليس هو مراده، وذلك الحمل إنما يكون بذكر متعلق آخر غير المتعلق الذي يقصده المتكلم، أعني بذلك شيئًا يناسب المعنى المحمول عليه، سواء كان متعلقًا اصطلاحيًّا كالمفعول والجار والمجرور، أو لا.
فالأول كقوله:
قلت: ثقَّلْتُ إذ أتيتُ مرارًا ... قال: ثَقَّلتَ كاهلي بالأيادي
قلتُ: طوَّلتُ. قال: لا؛ بل تطوَّلتَ ... وأبرمتُ، قال: حبلَ ودادي
والشاهد في قوله: "ثقلت وأبرمت" دون قوله "طولت"؛ لأن مراده بقوله "ثقلت" يعني عليك؛ بأن حملتك المئونة الثقيلة والمشقة بإتياني مرارًا، فحَمَله المخاطب على غير مراد المتكلم بأن جعل معناه: أن
1 / 18
كثرة زيارته له نِعَم منه عليه ومِنَن أثقل حملها كاهله، وهو ما بين كتفيه.
وقوله "أبرمت": يعني أبرمتك أي أمللتك بكثرة التردد عليك. فحمله المخاطب على غير مراد المتكلم بأن جعل معناه "أبرمت" أي: أتقنتَ وأحكمتَ حبل الوداد بيننا بكثرة زيارتك لي.
وأما قوله: "طولت": فليس من القول بالموجب؛ لأن المخاطب صرح بنفيه حيث قال: لا، بل تطولت، فلم يقل بموجبه بل نفى موجبه صريحًا.
ومن هذا النوع الذي متعلقه اصطلاحي قول القاضي الأرَّجاني:
غَالطَتني إذْ كَسَتْ جسمي الضَّنا ... كسوةً عَرَت من اللحم العظاما
ثُمَّ قالتْ أنت عندي في الهوى ... مثل عيني صدقت لكن سقاما
لأن مرادها بقولها: "مثل عيني": أنه كعينها في المحبة إليها، فحمله على غير مرادها بأن قال: إنه كعينها في السقم لأنه سقيم من حبها فأشبه عينها في السقم. وسُقْم أعين النساء ضعف خَلْقي وتكسُّر يكون في جفونهن.
وقوله "لكن سقاما": بين فيه مراده بمتعلق اصطلاحي وهو التمييز، لأن التمييز متعلق عامله، والمعنى: صدقت في تماثلي مع عينها، ولكن لا في الحب إليها؛ بل في كون كل منا سقيمًا.
ومن هذا الضرب قول ابن دويدة المغربي في أبيات يخاطب بهما رجلًا أودع بعضَ القضاةِ مالًا، فادعى القاضي ضياعه:
إنْ قال قدْ ضاعتْ فصدِّق أنَّها ... ضاعت ولكنْ منكَ يعني لو تَعي
1 / 19
أو قال قدْ وقعت فصدِّق أنَّها ... وقعتْ ولكن منه أحسنَ موقعِ
فقد حمل الكلام على غير المراد بذكر متعلقه الاصطلاحي وهو الجار والمجرور الذي هو "منك" في البيت الأول، و"منه" في الثاني.
ومن هذا الضرب قول الآخر:
وقَالوا قَدْ صَفَتْ مِنَّا قلوبٌ ... لَقَدْ صدقُوا ولكن مِن ودادي
فمراده صفاء قلوبهم من الغل والدَّنسَ فحمله المخاطب على صفاء قلوبهم أي: فراغها وخلوها من مودته.
وأما البيتان اللذان قبل هذا البيت وهما:
وإخوان حسبتُهم دروعًا ... فكانوها ولكن للأعَادِي
وخلِتُهُم سهامًا صائباتٍ ... فكانوها ولكن في فؤداي
فمعناهما قريب من القول بالموجب وليس منه، إذ ليس فيهما حمل صفة وقعت في كلام الغير على معنى آخر، وإنما فيهما ذكر صفة ظُنَّت على وجه، فإذا هي بخلافه.
قال بعض علماء البلاغة: ويمكن جعل مثلها ضربًا ثالثًا، والثاني وهو الذي لم يكن متعلقه اصطلاحيًّا نحو قوله:
لَقدْ بُهِتُوا لمَّا رَأوني شَاحِبًا ... فقَالُوا بهِ عين فقلتُ: وعارضُ
أرادوا بالعين إصابة العائن، فحملهَ هو على إصابة عين المعشوق بذكر ملائمه الذي هو العارض في الأسنان التي هي كالبرد، فكأنه قال: صدقتم فإن بي عينًا، لكن بي عينها وعارضها، لا عين العائن، ووجه كون هذا الضرب من القول بالموجب ظاهر لأنه اعترف
1 / 20
بما ذكر المتكلم فقال بموجبه، ثم حمله على غير مراده، وحمل كلام المتكلم على غير مراده تارة يكون بإعادة المحمول الذي هو المسند كقوله: قال: ثقلت كاهلي، بعد قوله: قلت ثقلت، وقول بعضهم:
جاءَ أَهلِي لمَّا رَأوني عَليلًا ... بحَكيمٍ لشرح دائي يُسْعف
قال هذا بهِ إصابةُ عَينٍ ... قَلتُ عينُ الحبيبِ إن كنت تعرف
وتارة يكون بغير إعادة المحمول أعني المسند، كقوله: "فقلت وعارض"= فإن مثل هذا كله لا يجوز منه شيء في القرآن لأنه مغالطة، وقول بما يعلم قائله إنه باطل لعلمه بأن ما حُمِل عليه كلام المتكلم غير مراده.
وما زعمه كثير من أهل البلاغة من أن هذا الضرب من ضَرْبَي القول بالموجب هو الأسلوب الحكيم، وأنه جاء في القرآن في قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ الآية [سورة البقرة: ١٨٩]. وقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيرٍ فَلِلْوَالِدَينِ﴾ الآية [سورة البقرة: ٢١٥].
فهو غير صحيح؛ لأنه ليس في الآيتين الحكم بوقوع نسبة خبرية إيجابًا أو سلبًا حتى يقال بموجبها أو لا يقال به.
وقد أجمع عامة النظار على أن التصديق لا يوجد بالفعل إلا عند وجود التصور الرابع، الذي هو تصور وقوع النسبة بالفعل أو عدم وقوعها، سواء قلنا بأنه مركب أو بسيط، فالشاك في وقوع النسبة يتصور ثلاثة تصورات، وهي تصور الموضوع الذي هو المحكوم عليه، وتصوّر
1 / 21