Poetry of Islamic Conquests in Early Islam
شعر الفتوح الإسلامية في صدر الإسلام
ناشر
مكتبة الثقافة الدينية
ایڈیشن نمبر
الأولى ١٤٢٦هـ
اشاعت کا سال
٢٠٠٥م
اصناف
المقدمات
تقديم
...
بسم الله الرحمن الرحيم:
تقديم:
بقلم الأستاذ الدكتور شوقي ضيف أستاذ الأدب العربي بآداب القاهرة والمشرف على البحث:
يصحح هذا البحث ما كان قد استقر في نفوس كثرة الباحثين من أن الشعر العربي ظل في عصر صدر الإسلام ثابتًا عند موضوعاته ومعانيه القديمة، وأن الإسلام لم يخلف فيه آثارًا واضحة إلا بعض خيوط ضئيلة مبثوثة في قصائد شعراء المدينة، أما من وراءهم من شعراء نجد وغير نجد فقد ظلوا لا يتحولون ولا ينحرفون بأشعارهم عن صورة الشعر الجاهلي وما عبر عنه من مشاعر وأحاسيس وأفكار وأخيلة.
وكأن الشعراء حينئذ لم يمس الإسلام قلوبهم ولا نفوسهم مع تحولهم من الحياة الوثنية المادية إلى حياة الدين الحنيف الروحية، ومع تلاوتهم للقرآن الكريم وما يصور من عظمة الله وجلاله، ومع استئصال الإسلام لما كان في حياتهم من رذائل وآثام، ومع إحيائه لضمائرهم واستشعارهم مراقبة الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ومع تبتلهم إليه وعباداتهم ورفضهم لعرض الدنيا الزائل انتظارًا لما عنده من النعيم الدائم، ومع جهادهم في نشر الإسلام وبذل أرواحهم في سبيله مخلصين صادقين.
وفي ذلك مخالفة صريحة لطبائع الأشياء؛ إذ لا يستطيع أحد أن ينكر أن للأحداث الجسام آثارًا عميقة في حياة الناس ما تلبث أن تترك ظلالها وأصداءها في شعرائهم وما ينتجون من شعر، وهل الشعر إلا تعبير عن حياة الناس وكل ما يؤثر فيها من أحداث. ولم يكن الإسلام حدثًا جسيمًا فحسب، بل كان حدثًا خطيرًا في حياة العرب الروحية والاجتماعية والسياسية، فقد أخرجهم من عالم التعبد للأوثان وقُوَى الطبيعة إلى عالم التوحيد والإيمان بالكائن الأعلى مدبر الكون
1 / 5
ومنشئه، ومن عالم البغي والظلم والعدوان واقتراف الآثام إلى عالم الأمن والعدل والمساواة والأخلاق الفاضلة، ومن عالم التشتت في وحدات قبلية متنابذة إلى عالم التجمع في أمة واحدة متكافلة متعاونة يشد بعضها بعضًا كالبنيان المرصوص.
وطبيعي أن يترك ذلك كله آثارًا بعيدة في نفوس العرب، وأن يدفعهم إلى أنحاء جديدة من الإحساس والشعور والتفكير، إلا أن تكون عوائق تصدت لهم وصرفتهم عن الإسلام ودعوته وهداه، وهو ما لم يحدث، إنما الذي حدث أنهم آمنوا به أخلص الإيمان وأصدقه، وقاموا دونه يحمونه بسيوفهم وأرواحهم، حتى إذا أضاءت أقباسه في جميع أرجاء الجزيرة حملوها إلى أقطار الأرض في الشرق والشمال والغرب.
ليس من شك إذن في أن العرب قد تأثروا بالإسلام تأثرًا عميقًا، يستوي في ذلك الشعراء وغير الشعراء، وما كان الشعراء ليحرموا هذا التأثر، وهم يمتازون بدقة الحس ورقة الشعور وبتهيئهم دائمًا لتلقي الانطباعات من عصورهم وبيئاتهم. وكأنما غابت كل هذه الحقائق عن كثرة الباحثين في أدبنا العربي، فإذا هم يرددون أن روحانية الدين الحنيف لا تظهر في شعر صدر الإسلام ظهورًا بينًا، وهو ترديد مرده -في رأينا- إلى أنهم لم يطلعوا إطلاعًا كافيًا على مادة هذا الشعر ولا أحاطوا بها إحاطة دقيقة.
وقد رأى السيد النعمان القاضي أن يدرس جانبًا من هذه المادة الغزيرة، محاولًا أن يكشف فيه عن التأثيرات الإسلامية التي لم يتبينها هؤلاء الباحثون، واختار شعر الفتوح الإسلامية موضوعًا لدرسه، ومضى يستقصيه في مظانه الكثيرة من أدبية وتاريخية وجغرافية، باذلًا في ذلك كل ما يملك من قوة وجهد ووقت، غير حافل بعناء ولا بمشقة، حتى إذا استقصاه استقصاء دقيقًا أخذ يخضعه للدرس العلمي المنظم، واضعًا بين يديه تاريخ الفتوح ووقائعها الكثيرة، ونافذًا إلى تذوق الشعر ونقده وتحليله ورسم شخصيات الشعراء رسمًا دقيقًا، وكان كثير منها مجهولًا لمؤرخي الأدب العربي أو كالمجهول.
وقد استهل البحث بدراسة مفصلة للفتوح في صدر الإسلام، وما تطاير في وقائعها من أشعار كثيرة، مقارنًا بين ما نظم منه في مختلف الميادين، شرقية
1 / 6
وشمالية وغربية، من حيث بيئاته الجديدة وظروفها المختلفة، ومن حيث تسجيله للأحداث والمعارك، ومن حيث وفرته وقلته وحظوظ القبائل المضرية واليمنية، واختلاف هذه الحظوظ باختلاف مواهبها الشعرية.
ثم درس شعراء الفتوح دراسة قويمة وزعهم فيها على ثلاث طوائف: طائفة كانت تصوغ الشعر وتنظمه في الجاهلية قبل دخولها في الإسلام، وطائفة لم تكن تصوغه ولا كانت تنظمه قديمًا، فقد أنطقتها به وأسالته على لسانها الفتوح ومعاركها الدائرة، وطائفة لم تعرف أسماؤها ولا تبين الرواة أشخاصها، واتخذ من عمرو بن معديكرب الزبيدي مثالًا للطائفة الأولى وصوَّر شخصيته تصويرًا تامًّا، كما اتخذ القعقاع بن عمرو التميمي مثالًا للطائفة الثانية مبرزًا فيه صورة الشاب العربي المسلم الذي تمثل أشعاره استبساله العنيف في سبيل عقيدته وتراميه على حياض الموت ابتغاء رضوان الله وحسن مثوبته.
وأخذ بعد ذلك يدرس شعر الفتوح مستنبطًا مقوماته وانطباعاته وخصائص معانيه وأساليبه، ولاحظ شيوع الأراجيز والمقطوعات القصيرة فيه وفاء بحاجة المجاهدين إلى أناشيد قصيرة تستثير حماستهم وتشعل حميتهم، كما لاحظ تطورًا واضحًا في موضوعاته القديمة بتأثير الدوافع الإسلامية التي رافقتها وما صبته فيها من إشعاعات روحية. وتبين بجانب ذلك موضوعات جديدة لم يكن للعرب بها عهد، في مقدمتها حنين مؤثر كان يعصف بقلوب هؤلاء المحاربين حين يذكرون أوطانهم في الجزيرة ومن تركوا فيها من أهليهم وذويهم، ووصف لبعض مظاهر الطبيعة وألوان الحضارة في أوطانهم وبيئاتهم الجديدة.
ووقف طويلًا عند الطوابع الإسلامية في أشعار هؤلاء الفاتحين، وما أذاعوا فيها من روح الإسلام ومثاليته، وألفاظ القرآن الكريم ومعانيه ودعوته إلى التفكير في خلق السماوات والأرض والعظة بالأمم الدائرة، حتى إذا أكمل تصوير هذا الجانب تصويرًا دقيقًا بسط الحديث فيما ساد هذه الأشعار من طوابع شعبية لاشتراك ألسنة كثيرة فيها معروفة ومجهولة، ولدورانها في قصص شعبي كانوا يحكونه عن الأبطال والفرسان الفاتحين، ولما اتسمت به من قصر وسهولة وما
1 / 7
يتضح في كثير من جوانبها من أنها نظمت عفو الخاطر بديهة وارتجالًا دون تقويم أو تثقيف.
والبحث بذلك كله يفتح صفحة جديدة في مباحث الأدب العربي بعرضه لأول مرة شعر الفتوح الإسلامية ودارسته دراسة علمية فاحصة تكشف عن جوانبه وطوابعه الإسلامية وخصائصه الفنية كشفًا تامًّا دقيقًا إلى أبعد حدود الدقة، وقد استطاع به السيد النعمان القاضي أن يحمل أساتذته في كلية الآداب بجامعة القاهرة على أن يمنحوه درجة الماجستير في الآداب بلقب ممتاز أرفع ألقاب النجاح، وأنا أهنئه أخلص التهنئة بما بذل في بحثه من جهد علمي خصب، وما أدرك به من فوز جدير به، ولله ولي الهدى والسداد.
دكتور/ شوقي ضيف
1 / 8
مقدمة:
موضوع هذا الكتاب "شعر الفتوح الإسلامية في صدر الإسلام"، وهو يتناول الدراسة الفنية في شعر المحاربين من العرب المسلمين في فترة مشرقة من فترات تاريخهم، بل لعلها أكثرها إشراقًا، فهي الفترة التي تزخر بأسمى المشاعر الروحية الإسلامية، ويتجلى فيها أثر الإسلام عقيدة وفكرة في نفوس العرب، وفي حملهم على البذل والتضحية والفداء، كما أنها تصور الانقلاب الهائل الذي أحدثه الإسلام عن طريق الارتقاء بالنوازع الوجدانية القبلية والفردية الضيقة الحدود إلى وجدان متوحد، من أجل هدف واحد نبيل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢، ١٠٣] .
وإلى جانب هذا التمثيل الصادق للأخوة الإسلامية تمثل العرب دينهم خير دين ارتضاه الله لهم، وأن نبيهم الذي بعث فيهم إنما بعث إلى الناس كافة، وأنهم هم ورثته في هداية هذه الأمم الضالة إلى طريق الحق، وقد خلق هذا في نفوسهم شعورًا متوثبًا، لا يقنع بالانطواء على ما تأجج في صدورهم من ألق العقيدة، فاندفعوا ينتشرون بهذا الشعور خارج حدودهم إلى الشرق والشمال والغرب، لا يأبهون بقوة في الأرض، وهم على ثقة كاملة من نصر الله لهم، وكلهم أمل في إحدى الحسنيين، الشهادة أو الظفر.
وشعر الفتوحات الإسلامية في هذه الفترة يرسم صورة مشرقة للانطلاقة الهائلة الواسعة، التي انتزعت العربي من حيزه الضيق لتطوف به في أرجاء ممتدة وبعيدة لم يستشرفها من قبل، كما أنه يرسم صورًا رائعة للفروسية العربية في ذلك الإطار الجديد الذي وضعه الإسلام لتقاليدها، وصورًا رائعة أخرى للإيمان القوى، والتصديق العميق بما وُعد به المؤمنون المجاهدون، ولصنيع هذا الإيمان بتلك
1 / 9
النفوس؛ من اكتشافها لذواتها، ومعرفتها بقدرها، فراحت من ثم تدك بإيمانها معاقل الأكاسرة وعروش الأباطرة والجبابرة، وتقود ولاياتهم إلى حظيرة الإسلام.
وعلى هذا: فإن شعر الفتح بتصويره للآثار النفسية لما تمثله العرب من روح الإسلام، يكشف في جلاء عن الأسباب الفاعلة في انتقال هذه الأمة من ضلال وضعف وتخبط في عمايات الفتن والتناحر، إلى ما صارت إليه من اقتدار على رسم خريطة جديدة للعالم وقتذاك.
وفضلًا عن ذلك يرسم شعر الفتح صورًا لبأس المسلمين في حومات الوغى وزحمات القتال، لا يغادر في سبيل ذلك معركة أو اشتباكا، حتى ليعد وثيقة تاريخية هامة في هذا السبيل، تسجل النتائج الناجمة عن الفتوح، من احتكاك بالبيئات الجديدة، وتأثر النفوس العربية المنطلقة بتلك الأجواء الغربية في طبيعتها وحياتها، وسبل هذه الحياة، وعما استحدثته في ظروف البعد عن المواطن الأولى، من استشعار الاغتراب والحنين، وعن هجرة البذور الأولى للشعر العربي إلى الأمصار والمناطق المفتوحة، وتصوير حياة المسلمين في هذه البقاع، وعلاقاتهم بأولي الأمر فيها قبل استقرار المجتمعات الإسلامية.
وقد عنيت في هذا الموضوع الذي يتخذ تلك الفترة المهمة من تاريخ الإسلام مسرحًا له باستجلاء طبيعة الفتوح ومظاهرها، وطوابع الشعر، وخصائص الشعراء، متوخيًا بتلك العناية أن أعرض شعر الفتوح الإسلامية في معارض شتى، مكسوة بالتاريخ، ومحفوظة بتأثيرات الدين الجديد وروحه ومثله في نفوس المسلمين، لما لهذه الفترة من ارتباط وثيق بالدين الحنيف، ولما لهذه الفتوحات من صلة وثيقة بروح الأمة الإسلامية في هذا الزمان، وارتباطها بتصوير مجدها وعزها.
فشعر المعارك الحربية كان أبدًا ودائمًا ولدى جميع الأمم سجل فخرها، وعنوان بأسها وأناشيد بطولتها، وقد اخترت أن تكون رسالتي في هذا السبيل وسيلة متواضعة للفت أمتنا العربية في عزة حاضرها وتوثبها إلى مجد ماضيها وعظمته، واجتلاء تصوير الشعر لما اضطلع به المسلمون الأُوَل من واجبات مقدسة ضخمة في سبيل نشر معتقدهم، وما عانوا في هذا السبيل من حياة القلق والحركة
1 / 10
والانتشار والتمدد، وما قاسوا من مشقات النزوح والهجرة وأهوال الحروب وقسوة المعارك، والصراع الدامي في ملحمة لم يعرف تاريخ العقائد لها مثيلًا على مر العصور وكر الدهور.
وقد سدد عزيمتي إلى ذلك أن في الإمكان أن نجتلي في شعر هذه المعارك -برغم قسوتها- عواطف إنسانية عالية من النجدة والفداء، والإيثار والتضحية، والذود عن العقيدة، والتمكين لها في إطار من التاريخ، وأن ننظر في مظاهر الحقائق خلال معارض من الأخيلة والعواطف، فترى الشعر على صنع الخيال وتهويله معربًا عن حقائق التاريخ، مبينًا عقيدة الإنسان وبساطة إنسانيته وسموها.
ولا شك أن تصوير الشعر لهذا الحديث الفذ في تاريخ العقيدة الإسلامية ليس إلا تصويرًا لجوانب الحياة الإسلامية عامة في نفس الوقت؛ إذ إن الحقيقة التي لا جدال فيها أن الفتوح كانت أهم ما شغل حياة المسلمين، سواء من كان منهم تحت ظلال السيوف أو على حافة الميادين، فما من شك في أنهم كانوا يتنسمون أخبارها، ويترقبون ما يمكن أن تسفر عنه هذه الحركة الهائلة. فإذا بأنبائها من يوم إلى آخر تطلع عليهم في أقاصيص ممتزجة بغبار الوقائع وصهيل الخيل وصليل السيوف وصياح المحاربين، وإذا بهذه الروايات تنتشر في ربوع الديار العربية لتشغل كل اهتمامات المسلمين، ولتصبح زادًا لسمرهم، لا يزالون يقصونها ويزخرفونها ويعجبون بها.
ولهذا اندفعت في اختيار هذا الموضوع مقدرًا أهميته التي تتجلى في تصوير هذه الاهتمامات، التي استنفدت منازع المسلمين وشغلهم، وتصوير تلك الحياة الوجدانية الثرة، وتلك التجارب الطريفة التي تعرضوا لها في ظروف جديدة عن حياتهم السابقة كل الجدة، فصاغوها بما تأتي لهم من مشاعر، فكان هذا الشعر الذي يمثل وثيقة تاريخية ونفسية خطيرة في تاريخ الأدب العربي، من حيث كونه مرحلة حية من مراحله طالما أنكرها الدارسون وتجافوا عنها، ومروا عليها عابرين، لا يكلفون أنفسهم أكثر من أن يعزوا إليها موات الشعر أو خموده وضعفه؛ لغلبة النشاط الفكري الإسلامي عليه، نتيجة الاستعاضة بالقرآن الكريم والسنة الشريفة وتعاليم الدين.
1 / 11
قدرت هذا وتأتَّى لي أن أرى هذه المرحلة ليست كما وصفت، وإنما هي فترة حية، لم تستطع الظروف القاسية التي رافقتها من حركة الفتح والهجرات والصراع أن تذهب فيها بالمواهب الفنية للنفس العربية التي ألفت الشعر ومرنت عليه، وما كان لهذا التيار المتدفق عبر القرون من الماضي النفسي والوجداني البعيد لهذه الأمة أن ينقطع في هذه المرحلة ليتصل من جديد، أو يمحى ليخلقه العرب فيما بعد خلقًا آخر في عصر بني أمية، على ضخامة ما رافق هذه المرحلة من أحداث شملت جوانب الحياة الإسلامية.
ولقد يبدو غريبًا ونحن نعتبر شعر الحرب أناشيد بطولة الأمة وسجل عزها وخلودها ألا نجد في الدراسات الأدبية عناية بشعر الشعراء المحاربين في هذا الآونة، بل إننا لنعجب أن كثرتهم مجهولون ومغمورون، وبعيدون عن الأضواء، ومحرومون من الاحتفال بحيواتهم وشخصياتهم وشعرهم!
ولقد سلكت إلى قصدي نهج التبويب والتفصيل والترقيم، معتمدًا على التحليل والتركيب حينًا، والمقارنة والنقد حينًا آخر؛ لاستجلاء المقومات والطوابع الفنية للشعر، وربطها بمسبباتها والأصول التي صدرت عنها، ونظرت إلى موضوعي الذي آثرته فوجدت أن بعض الدارسين يربطون بين هذا الشعر وبين شعر الملاحم، ويفترضون أن هذه الأشعار المفرقة ليست إلا ملحمة في حاجة إلى النظم، فكان ضروريًّا أن أعقد تمهيدًا أقرر فيه حقيقة شعر الفتح وغنائيته، وأفرق بينه وبين شعر الملاحم القصصي الذي يختلف عنه في شروطه وقواعده، ثم وجدت أن الشروع في استكناه مقومات شعر الفتح يستوجب دراسة الفتوح ذاتها كوعاء لهذا الشعر، وتلك بدورها بحاجة إلى دراسة تلك الدوافع التي انثال المسلمون بوحي منها، ينساحون في الأرض حاملين في مواضع الاعتقاد منهم الأمن والثقة والأمل بما وُعدوا، إلى جانب الدعوة لهذا الدين الذي ارتضوه، وكان على الدارس إزاء هذا أن يتعقب هذا الانطلاق في إطار التاريخ شرقًا وغربًا وشمالًا وفي كل اتجاهاته؛ ليعرض من ثم لمواكبة الشعر للأحداث في الميادين المختلفة، متتبعًا الشعراء ومدى خصبهم وأصالتهم وأسباب ذلك، الأمر الذي يستدعي بالضرورة تصنيف الجيوش والإمدادات تصنيفًا يتعقب هذه الأصالة الفنية
1 / 12
وثراء الروح الشعري بين القبائل، مما سيترتب عليه اختلاف حظوظ الميادين المختلفة في وفرة النتاج الشعري أو قلته أو قدرته، ووسم الأمصار الإسلامية فيما بعد الفتوح بهذه الصفات على اختلافها.
وهكذا يذهب الباب الأول الذي يعالج الشعر في الفتوح بفصوله الثلاثة في هذا السبيل، بينما يذهب الباب الثاني الذي يعالج شعراء الفتح في التعريف بهم، ومناقشة ما يشيع حولهم من مشكلات، سببها تنوعهم وتعددهم بين شعراء قدماء مخضرمين، ومحاربين أنطقتهم الفتوح ولم يكن لهم شهرة بالشعر، ومجهولين ينسب شعرهم لغير قائل.
وكان طبيعيًّا أن يجد الدارس ضرورة إعطاء نموذج للشعراء المخضرمين الذين أسهموا في الفتوح بسيوفهم وألسنتهم كعمرو بن معديكرب الزبيدي، ونموذج آخر للشعراء المؤمنين الخلص الذين أنتجتهم الفتوحات كالقعقاع بن عمرو التميمي.
وبهذا يذهب الباب الثاني بفصوله الثلاثة في شعراء الفتح، ليعقبه الباب الثالث في فصول أربعة، تعالج في دراسة فنية مقومات الشعر وطوابعه، فتتناول في فصل منها أنواعه وموضوعاته، وما تطور منها وما لم يتطور، وما استحدث منها وسبب استحداثه ودواعيه، وتتناول الطوابع الإسلامية في فصل آخر، تتبين خلاله الآثار الإسلامية في هذا الشعر، من صدوره عن وجدان الجماعة، والأخوة الجديدة الإسلامية، وروح الدين ومثله، وتصور أحاسيس المحاربين ومشاعرهم الدينية الجديدة، وما تأتي لهم من صياغة المعاني الإسلامية المتعددة في أشعارهم.
وفي فصل آخر تناولت الدراسة ما وسم هذا الشعر من السمات الشعبية، التي بعثها تعلق المسلمين بأحداث الفتوح ورواياتها وزخرفتها والتغني بها، وما وجد من شعر مجهول القائل كثير، وعرضت الدراسة لأحاديث البطولة هذه بين الواقع والأسطورة، ولقصص الفرسان المشاهير وتلونها ونموها وتضخمها، كما حاولت الكشف عن هذه الآثار الناجمة عن كل هذا في الشعر الشعبي.
1 / 13
وأخيرًا تتجمع في الفصل الأخير من هذا الباب الطوابع الفنية الصرفة التي طبعت الشعر، والتي كانت أثرًا من الآثار الإسلامية في الصياغة ونتيجة للظروف المرافقة لولادة هذا الشعر.
وكان ضروريًّا بعد هذا، أن تُلَخَّص الدراسة تلخيصًا موجزًا، يكشف عما انتهت إليه وما حاولت أن تحققه.
ويتضح من خلال هذا المنهج: ما تهدف إليه الدراسة من تجلية القيم التاريخية والاجتماعية والفنية لشعر الفتح الإسلامي، والتعريف بشعرائه المجهولين، وتسليط الأضواء عليهم، وتبين القيمة الحقيقية لهذا الشعر، كجسر عبر عليه الشعر العربي من العصر الجاهلي إلى ما تلاه من العصور الإسلامية.
وإزاء هذا الهدف يجد الدارس نفسه مضطرًّا إلى دراسة حركة الفتح الإسلامي ذاتها باعتبارها وعاء هذا الشعر؛ إذ وجد فيها وزَكَا في أجوائها، وكان أثرًا من آثارها ونتيجة من نتائجها، وفضلًا عن هذا فإن الشعر لا يوجد منفصلًا عن الفتوح، وهو على كثرته متفرق لا يجمع شتاته جامع، وإنما ينتشر في تضاعيف كتب التاريخ الإسلامي المختلفة، وكتب الصحابة والفتوح، والجغرافيا التاريخية، وكتب الأدب، وهذه كلها كتب لا تُعْنَى بهذا الشعر إلا عناية قريبة، تجعل منه شاهدًا لحكاياتها، ومصداقًا لسردها الوقائع وقصها الأحداث، أو زينة لها في أغلب الأحيان.
ونفس الأمر يصدق على حركة الفتح ذاتها؛ إذ إن الكتب التي تتناولها لا يهمها إلا مجرد سرد الحوادث، دون النفاذ إلى الروح التي تكمن وراءها كعامل مؤثر في الحياة الإسلامية بعامة، وفي الحياة الأدبية بخاصة. وكذلك لا يهمها أن تكشف النقاب عن هؤلاء الذين قاموا بهذه الحركة، لا تشذ عن ذلك دراسة من الدراسات الأدبية التي تُعْنَى بالعصور المختلفة التي أعقبت الفتوح، فإنها لا تحاول التعرف على حركة الفتح ذاتها، ولا على أولئك الذين اشتركوا فيها وتغنوا بها، وإنما قنعت بأنه كان هناك فتح، ومضت تنظر فيما كان بعد ذلك، دون ربط بين سبب ونتيجة، على الرغم من أنه يبدو منطقيًّا لمن يدرسون العصور الأدبية التي أعقبت الفتوحات الإسلامية، ولمن يدرسون العصور الأدبية في الأقاليم الإسلامية
1 / 14
التي هاجر إليها الشعر أن يعنوا بدراسة حركة الفتح الإسلامي، وما تشتمل عليه من البذور الفاعلة من هجرة الدين واللغة والدم.
ولا شك أن المصادر التي تشتمل على شعر الفتح كثيرة ومتعددة، إلا أن المتقدمين من العرب عالجوا هذا الشعر لا بسبيل الفن وقيمه، وإنما فعلوا ذلك لغاية التاريخ، وفي مطالب الأحداث التاريخية والتراجم وما أشبه، كما فعل ابن عبد البر ٣٦٨هـ بتأريخه للصحابة تأريخًا إجماليًّا في "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" حينما يترجم لمن اشترك في الفتوح منهم، ذاكرًا أثارة من شعرهم إن كان له نصيب من الشعر، ومثله في ذلك ابن الأثير ٦٣٠هـ في "أُسْد الغابة في معرفة الصحابة" وإن كانت تراجمه أوسع، ومقدار ما يروي من الشعر أكثر، وعلى مثل هذا سار ابن حجر العسقلاني ٨٥٢هـ في "الإصابة في تمييز الصحابة" إلا أن تراجمه أشمل من صنيع سابقيه، وفيها فرصة لإيراد أكثر من رواية للحادثة الواحدة، وإن كان لا يُعْنَى بمناقشة ما يتعارض من الروايات وما يختلف من الأشعار، وبجانب كتب الصحابة هناك كتب التاريخ الإسلامي، وأكثرها اهتمامًا برواية شعر الفتوح "تاريخ الأمم والملوك" لابن جرير الطبري ٣١٠هـ، وهو يروي الشعر في ثنايا الوقائع أو في أعقابها، منسوبًا إلى صاحبه أو إلى أحد المسلمين، ومنها أيضًا "فتوح مصر" لابن عبد الحكم على ندرة ما يروي من الشعر، وكذلك "مروج الذهب ومعادن الجوهر" للمسعودي ٣٤٥هـ، و"فتوح البلدان" للبلاذري ٢٧٩هـ، وعلى الرغم من قلة ما يرويه من الشعر فإنه ينفرد أحيانًا برواية أشعار لا يرويها كتاب غيره، وكذلك "فتوح الشام" للواقدي ٢٠٧هـ، و"الأخبار الطوال" وغير ذلك.
وفي الحقيقة أن كثرة شعرالفتوح تقع في "معجم البلدان" لياقوت، فهو لا يذكر مدينة أو بلدة أو قرية أو محلة للجند إلا ويروي ما قيل في فتحها من الشعر، ولكنه لا يتحرى في الأغلب ذكر المناسبة القريبة، ولا يحدد الفتح تحديدًا تاريخيًّا قدر تحريه رواية كل ما قيل في فتحها بصورة عامة، قد تشمل عصورًا متعاقبة، دون أن يفصل بين الأشعار فصلًا تاريخيًّا، مما يضطر الدارس في أغلب الأحيان إلى التحقق من الشعر ومن قائله، ورد الشعر والشاعر إلى عصريهما.
1 / 15
ومن كتب الأدب التي عنيت بشعر الفتح "الأغاني"، وذلك في تراجم الشعراء الذين كان لهم بلاء في حركة الفتح، برغم اقتصاره على الترجمة لأولئك المشهورين من الشعراء دون عناية بغيرهم. وكذلك "الشعر والشعراء" لابن قتيبة" و"طبقات الفحول" لابن سلام، وما يرويانه من الشعر قليل إلى جانب ديوان أبي محجن الثقفي، وهو ديوان مفرد، ليس لشاعر من شعراء الفتح ديوان غيره.
هذا فضلًا عن كتب أدبية أخرى، لا يجد الباحث فيها غير قصائد قليلة، كذيل الأمالي، والخزانة، وديوان الهذليين، والمؤتلف والمختلف، والمفضليات، والحيوان، وغير ذلك كثير.
هذا عن مصادر الشعر. وقد يفيد الباحث من تعددها في التحقيق من أصالة الشعر، وصحة نسبته إلى صاحبه، أما عن المصادر العامة لحركة الفتح وحوادثه فهي كثيرة ومتعددة أيضًا، إلا أنها كثيرًا ما تختلف في تحديد التواريخ التي وقعت فيها بعض المعارك، وقليلًا ما تتفق على وقوع معركة في تاريخ واحد محدد، ونادرًا ما تشير إلى تصنيف الجيوش والإمدادات التي انطلقت من شبه الجزيرة إلى ميادين القتال، أو إلى الكيفية التي خرجت عليها في تصنيفها.
ومهمة الدارس هنا أن يحاول مقارنة الأحداث والوقائع في الروايات المختلفة في إطار التاريخ العام، وعلى ضوء ما يروى من الشعر لو كان في ذلك غناء، وتجميع هذه الأثارات من خلال الموضوعات التي لا تقصد إلى ما يبغي، ولم أطرافها ليكون منها -جاهدًا- صورة لتصنيف الجند قريبة من الأصل أو دالة عليه.
وكذلك تصعب مهمة الدارس أمام الاختلاط الذي يصادفه في حوادث الفتح وتضارب بعضها، فيعكف على تتبع الروايات التاريخية وتنسيقها، وتحري الدقة في ترتيبها زمنيًّا وميدانيًّا، ووضعها في إطار الخطة الإسلامية العامة للفتوح.
ويرجع هذا الاختلاط في حوادث الفتح إلى ما كان من وقوع هذه الأحداث في أكثر من ميدان في آن واحد، وإلى أن فتح بعض البلدان قد تكرر أكثر من مرة لانتقاضها وإعادة فتحها من جديد، وبهذا يؤرخ لفتحها مرتين، أو يكتفي بالتأريخ لها في المرة الثانية دون الأولى، فتضيع الحقيقة ويحدث الاضطراب.
1 / 16
ولا يستطيع باحث في هذا السبيل أن يجحد قيمة الفائدة التي تعود عليه إذا ما اهتدى خلال هذه الدروب الملتوية بدراسات المرحوم الدكتور محمد حسين هيكل عن الصديق أبي بكر والفاروق عمر، فكثيرًا ما كانت تكشف اللبس وتزيل الغموض، وتقود إلى الحقيقة في التأريخ للفتوح، وفي تحديد المواقع والأماكن، تحديدًا يساعد على اكتمال الصورة التي يحاول الدارس تكوينها، حتى لا يكون حديثه عنها حديثًا مجردًا عائمًا، ولترتبط الأسماء والمواقع بمدلولاتها ارتباطًا وثيقًا.
بينما كانت مصادر هذه الدراسة في بابها الخاص بشعر الفتح هي: كتب الصحابة والتاريخ والفتوح والجغرافيا التاريخية والأدب، فإن الباب الثاني الخاص بشعراء الفتح لم يقتصر على الكتب الأدبية الصرفة التي تترجم للمشهورين منهم، وإنما كان من الضروري الاعتماد على كل ما يمت إلى الفتوح بسبب، من كتب التراجم والصحابة والتاريخ والجغرافيا وغيرها.
وقد نظرت لدى محاولة الدراسة الفنية لهذا الشعر واجتلاء مقوماته وطوابعه إلى ما سبقني إلى هذا الموضوع أو بما يماثله، من دراسات للشعر الحماسي وشعر الحروب، فوجدت أن المتقدمين قد عالجوه بسبيل مطالب أخرى غير الدراسة الفنية؛ كالتاريخ واللغة في تفسير كلماتها، أو للإعراب في مناقشة وجوه، لا يعنيهم سوى جمعه فحسب، بعد أن يتخيروا أحسنه، دون تصنيف أو تنسيق ينتمي إلى التاريخ أو إلى الفن، ولا يربط بين مختاراتهم سوى وَحْدَة الموضوع.
ومن ثم فإن الباحث في هذا السبيل لا يجد دراسة بعينها تتعمق في البحث الفني في مقومات شعر البطولة والحرب، وتُعْنَى بالكشف عن طوابعه بعامة، وفي خلال هذه الحركة الهائلة في تاريخ الإسلام بخاصة.
وقد يصادف الدارس كتابًا أو كتابين لبعض الباحثين المحدثين في هذا السبيل فيظن فيهما غناء، ولكنه لا يلبث أن يصاب بخيبة أمل، فهذا كتاب يدرس "المجتمعات الإسلامية في القرنين الأول والثاني الهجريين" ويمهد لهذه الدراسة بدراسة تمهيدية ضافية لحركة الفتح الإسلامي، إلا أنها لا تسلم في أجزائها
1 / 17
التاريخية مما سار عليه الأقدمون، وهدف الدراسة التي يقوم عليها الكتاب في حد ذاته تمهيد لدراسة الظواهر الأدبية المختلفة عن استقرار المجتمعات بعد الفتوح، ومع ذلك فإنها لا تتعرض لشعر الفتح إلا تعرضًا طفيفًا.
وهذا كتاب آخر يدرس شعر الحرب في أدب العرب في صدر الإسلام إلى أبي فراس الحمداني، لا يشير إلى الفتح الإسلامي ولا إلى شعره بكلمة واحدة، برغم أن هذه الدراسة تجعل شعر الحرب في العصر الأموي نتاجًا لمنازع الحزبية والتسلط المذهبي وسطوة التاريخ، بينما تجعل شعر الحرب في العصر العباسي نتاجًا خالصًا لمنازع الفن وحده بعد تخلخل تلك السيطرة الحزبية والمذهبية. وكان منطقيًّا أن يأخذ شعر الفتح مكانة قبل هذين العهدين في تلك الدراسة كنتاج لتمثل الفكرة الإسلامية حتى تكتمل الصورة التي عُنِي البحث برصدها.
وإزاء هذا النقص يشعر الدارس لدى محاولة تقييم هذا الشعر أن عليه أن يعتمد كل الاعتماد على الانعكاسات الحرة الطليقة لهذا الشعر، وأن يضع النصوص الشعرية وحدها أمام ناظريه، معتمدًا عليها تمامًا في استكناه الأبعاد الفنية ومقومات الشعر وطوابعه، وعلى الله قصد السبيل.
النعمان عبد المتعال القاضي
1 / 18
تمهيد:
شعر الفتوح وشعر الملاحم:
هناك فكرة لا تزال تتردد وتشيع لدى بعض الدارسين، وهي أن الشعر الجاهلي الذي قاله أصحابه في أيام العرب ليس إلا ملحمة عربية كبرى، وإن كانت مقطعة الأوصال، وأن في المعلقات الجاهلية، وفي سائر ما نظم الجاهليون لما يُتنخل منه ملحمة عربية كبرى.
وهذه الفكرة تنسحب لديهم أيضًا على التاريخ الحربي للمسلمين، الذي يبدأ بغزوات النبي ﷺ، وينحدر إلى حروب الفتوح في ديار فارس وأرض الروم، وسائر الأقطار التي بلغ إليها المسلمون بسيوفهم. فيمثل هذا التاريخ في زعمهم ملحمة، تتكون من أجزاء ملحمية، تصف المعارك وتوجيه العسكر، وثورة العدو واستجاشة العدة، وترسم صورًا للالتحام والكر والفر والإقبال والإدبار، والرمي بالنبل والحجر، والطعن بالسيف والرمح، والخبط بالأعمدة وغيرها. وتصور أيضًا ما ينكشف القتال عنه من قهر أو ظفر، أو اندفاع الفائزين بالغنيمة والفخر، وانطواء الخاسرين على تضميد الجروح وإعداد الثأر١.
ويجد هؤلاء الدارسون ما يؤكدون به زعمهم فيما أثير مؤخرًا من دراسات بعض النقاد حول هوميروس وملحمتيه المشهورتين، وما انتهى إليه نفر منهم من الشك في شخصيته وإنكارها، وما قرره هذا النفر من أن اسمه ليس إلا عنوانًا فحسب للطائفة الشعرية التي جمعت من أفواه الأقدمين، وأن هاتين الملحمتين ليستا له بتمامهما. ويظلم هؤلاء الدارسون الذين يعتنقون هذه الفكرة أنفسهم، كما يظلمون الأدب العربي، في محاولتهم المتعفسة إيجاد ملحمة عربية على صورة من الصور، عندما يذهبون إلى أن كل شعر طال أو قصر، وصفت فيه المعارك، وسردت فيه أخبار البطولة، ورويت فيه ملاحمات الجلاد، هو من شعر الملاحم٢.
ولا يضير العرب في شيء أن يخلوَ أدبهم من الملاحم، وليس يفترض فيهم أن يحتفلوا بهذا الضرب من الشعر، فإن كان فاتهم الاحتفال به فما أشد عسف الدارسين
_________
١ "شعر الحرب في أدب العرب" ص١٧، ١٨.
٢ "شعر الحرب في أدب العرب" ص١٦.
1 / 19
الذين يتصيدون لهم في شعر الحرب ما يزعمون أنه يمت إليه بسبب وثيق، وهو في الحقيقة بعيد كل البعد؛ ذلك أن الملحمة الشعرية حكاية لأمر خارق عجيب، أو عمل حماسي عظيم، له أثره في حياة شعب بأسره، وهي فضلًا عن هذا سداها الخرافة، ولحمتها التلفيق.
وقد كانت حروب العرب مع الروم والفرس حوادث أساسية خارقة وعجيبة حقًّا، تناولها الشعراء والرواة والقصاصون، وصنعوا فيها القصائد والأناشيد والحكايات، وربما جسموها بالخيال، وموهوها بالمبالغة. لكننا لا نستطيع ان نعد هذا من شعر الملاحم في شيء؛ فشعر الفتوح شعر غنائي، يتغنى فيه المجاهدون بجهادهم وبلائهم، ويفخرون فيه بشجاعتهم وتفانيهم وفعالهم بالعدو. في حين أن شعر الملاحم شعر قصصي، يُعْنَى بحكاية الأحداث في إطار من التهويل والمبالغة، والإغراق في الخيال.
وبينما نجد مؤلف الملحمة أو مؤلفيها يحرصون على الاختفاء من عصورهم ليظهروا في عصر الموضوع والأبطال الذين تقوم عليهم ملاحمهم، فلا يكادون يذكرون أنفسهم، ولا يكادون يعنون بالتعبير عن عواطفهم الخاصة فيما يقصون من الحوادث، نجد شاعر الفتوح الإسلامية -شأنه شأن غيره من شعراء الحماسة- لا يملك اختيار موضوع بعينه، وإنما هو يصور ابتداء كل ما يعتمل في وجدانه ومشاعره، وما يعيش خلاله من أحداث يظهر وجدانه الشخصي فيما ظهورًا تامًّا وأساسيًّا، فيغني عواطفه الخاصة فيما يعبر عنه من المشاعر، وما يصوره من الأحداث.
وبهذا يدخل شعره في باب الشعر الغنائي عن هذا الطريق، بخلاف شعر الملاحم الذي يدخل في باب الشعر القصصي.
على أنه ينبغي أن نلاحظ بعناية ما يذهب إليه بعض النقاد العرب من المزج بين شعر الملاحم والشعر القصصي مزجًا في باب واحد دونما تفريق؛ إذ يعتبرون كلا منهما مثل الآخر١، والحقيقة أن الملحمة قلما تضم شعرًا قصصيًّا، ولكن ليس كل شعر قصصي ملحمة، فإن جاز أن نسمي كل ملحمة شعرًا قصصيًّا فلا يجوز أن نسمي كل شعر قصصي ملحمة.
_________
١ "شعر الحرب في أدب العرب" ص١٤.
1 / 20
على أن هؤلاء الذين يجعلون القصص الشعري ملحمة يجدون في الأدب العربي ما لا ينقضي جماله، من هذا القصص الكثير. ولكنا لا نستطيع أن نعده شعرًا ملحميًّا في قليل أو كثير، كما لا نستطيع أن نقبل أن يكون شعر الحرب -على إطلاقه- من شعر الملاحم كما زعم البعض.
والحقيقة التي لا تقبل الجدل أن العرب لم يحفلوا بالملحمة الشعرية أي احتفال، على الرغم من أننا نجد تاريخهم مملوءًا بالغير والأهوال؛ إذ لم يخلُ في أية حقبة من القتال والنزال من سحيق الجاهلية حتى عصورهم الأخيرة.
وليس يجدي شيئًا أن يلتمس هذا البعض للعرب أعذارًا في عدم احتفالهم بها، كمثل قولهم: إنه لو كان أمر الملاحم الفنية لديهم مألوفًا لورثنا عنهم كثيرًا منها١.
ويبدو هذا الزعم مجانبًا للصواب؛ إذ إن العرب عرفوا الملاحم منذ استهلال العصر العباسي، فقد كان هوميروس وإلياذته معروفين لديهم بعد نهضة الترجمة في المائة الثانية للهجرة٢. ويذكر الشهرستاني عن هوميروس ما يدل على معرفة العرب به؛ إذ يقول: "أوميروس الشاعر من القدماء الكبار الذي يجريه أفلاطون وأرسططاليس في أعلى المراتب، فيستدل بشعره لما كان يجمع فيه من إتقان المعرفة ومتانة الحكمة، وجودة الرأي وجزالة اللفظ، ثم ترجم مقطوعات من أشعاره بجمل معقودة الكلم على المواعظ والحكم، ذيلها بأن الشعر في أمة اليونان كان قبل الفلسفة، وإنما أبدعه أوميروس"٣.
ويذكر القفطي: أن حنين بن إسحاق كان ينشد أشعارًا بالرومية لأوميروس رئيس شعراء الروم٤.
وقد ترجمت الإلياذة إلى السريانية في أيام المهدي، على يد "تيوفيل الرهاوي" غير أن نقل الإلياذة إلى العربية لم يكن هينًا يومئذ؛ لما فيها من أساطير الديانات الإغريقية.
وهكذا لا ينبغي أن نُعنِّت العرب فنطلب إليهم أن يكون لديهم ملحمة شعرية، أو نحاول أن نتصيد لهم ملحمة أو ما يشبه الملحمة، في حين نرى ابن الأثير مثلًا في خاتمة
_________
١ المرجع نفسه ص١٧.
٢ مقدمة ابن خلدون ص٥٢١، "طبقات الأطباء" لابن أبي أصيبعة ج١ ص١٨٤.
٣ "الملل والنحل" بهامش الفصل لابن حزم ج٣ ص١٩.
٤ "أخبار الحكماء" ص١١٩، "تاريخ الحكماء" ص٦٧.
1 / 21
المثل السائر يتعجب من أنه لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها منظومة كالشهنامة، على أن لغة العجم بالنسبة إليها كقطرة في بحرها.
ولعله يبدو في جلاء أن العرب لم يعرفوا هذا الضرب من الشعر، حتى في أوج النهضة الثقافية التي أعقبت حركة الترجمة في العصر العباسي.
ولعل حبهم للقافية الواحدة يجري عليها روي القصيدة زهدهم في الملحمة فيما بعد؛ إذ كانت تقتضي آلاف الأبيات، ومن أين لهم بروي واحد يجري به الكلام إلفًا، زد على ذلك ميل العرب الفطري إلى الإيجاز، وغلوهم في اختصار الكلم، والتزامهم مقاطع الجمل القصيرة التي تحمل غزير المعاني، فكان أن لم يحاولوا -إلا في قليل- زيادة أبيات المطولات على المائة بيت؛ ذلك لأن شعر العرب يفتقر إلى الروية والفكرة، وهم أهل بديهة وارتجال، لا يعنون بالإلمام بطبائع الناس وأحوالهم، كما أنهم لا يحفلون بالتحليل والتطويل، وهم أشد الناس اختصارًا للقول، وأقلهم تعمقًا في البحث، فضلًا عن أن دينهم في بساطته قد حرمهم كثرة الأساطير والخرافات وهي أغزر ينابيع الشعر القصص الملحمي.
ولكن أملًا -بالرغم من كل هذا- لا يزال يداعب بعض الدارسين في أن يقيض الله للأمة العربية شاعرًا يتقدم إلى هذا التاريخ الحافل فيسجله ويصوره؛ ليكون للمعاصرين ولمن يأتي بعدهم كتاب فخر وسفر مجد، يتلوه الأنباء بعد الآباء١.
ويذهب هؤلاء الدارسون بعيدًا في أملهم عندما يقررون: أنه لا بد للأدب العربي من يوم ينهض فيه أقوامه إلى جمع ما تشتت من قصائد الشعراء في وصف الحروب العربية في الفتوح وغيرها، وما لابس ذلك من وشائج الحياة والموت في السلم والحرب، فتؤلف الملحمة الكبرى بعون ذلك الشعر.
وهذا ضرب من الأحلام اللذيذة ليس غير. فالعرب -كما تقدم- لم يعرفوا من فنون الشعر إلا الغنائي منه طوال ماضيهم، حتى إذا كانت العصور الحديثة واتصلوا بالآداب الغربية، وألفوا فنونها من الشعر الملحمي والتمثيلي؛ كانت تلك الفنون الشعرية الكبيرة في سبيلها إلى الانقراض، فحل النثر محل بعضها كالشعر التمثيلي، على حين انتهى شعر الملاحم، ولم يعد يستطيع الحياة، بعد أن تطورت الإنسانية وأصبحت عاجزة عن
_________
١ "شعر الحرب في أدب العرب" ص١٩، في "أصول الأدب" للزيات ص٢٢١.
1 / 22
تأتي فيه بما أتى القدماء في فجر الإنسانية، عندما ازدهر هذا الفن على نحو ساذج، خالٍ من التعقيدات العقلية والفنية، ولعل هذا يفسر الملاحم الحديثة التي حاولها عدد من الشعراء في اللغات المختلفة، ابتداء من عصر النهضة حتى القرن التاسع عشر، فطوى الزمن ملاحمهم في جوف أمواجه، ولم تعد الإنسانية تقرأ وتعجب إلا بالملاحم القديمة، كالإلياذة في الغرب، والماهبهاراتا والرميانا في الهند، والشاهنامة في فارس.
وإن كانت بعض الملاحم قد امتد بها العمر زمنًا انتقلت فيه من الأدب الفني إلى الأدب الشعبي النثري كما حدث في ملحمة عنترة، فإن الملحمة الشعبية هي الأخرى آخذة في الانقراض.
وهكذا يصبح مجرد التفكير في كتابة الملاحم في عصرنا الحديث ضربًا من المجازفة، يتنافى مع حقائق الأدب المعاصر، بل حقائق النفس الإنسانية، فكيف لمثل هذا الشاعر -الذي يحلم به هؤلاء الدارسون- أن يهيئ في نفسه تلك الطفولة الغضة، والسذاجة الساحرة، التي يكمن فيها جمال الملاحم القديمة؟!
وجملة القول: إن الأدب العربي يخلو تمامًا من شعر الملاحم بصفاته وشروطه وقواعده المعروفة له، وأن شعر الحماسة -بما في ذلك شعر الفتوح الإسلامية الذي نُعْنَى بدراسته هنا- لا يدخل في هذا الضرب من الشعر لمجرد كونه شعرًا حربيًّا، يُعنى بتصوير المعارك والالتحام، كما أنه لا ترتبط بهذا الضرب صلة ما تخول لبعض الدارسين أن يفترضوا أن أشعار العرب المفرقة في أيامهم ومعلقاتهم، وغزوات نبيهم وفتوحاتهم تكون ملحمة كبرى للعرب؛ ذلك لأن هذه الأشعار في مجموعها تدخل في باب الشعر الغنائي، الذي يُعنى الشاعر فيه بتغني عواطفه ووجدان قومه وجماعته كما يشعر به، ويصور أحداثًا يعيشها، بينما يُعنى شعر الملاحم باستدعاء أحداث خارقة عظيمة قديمة ومغرقة في القدم؛ ليحكيها في إطار من التلفيق والخرافية والتهويل، ويشبع فيها جوًّا أسطوريًّا يصور طفولة الأمة في فجر الإنسانية.
وإن كان قد فات العرب لأسباب معينة أن يحفلوا بهذا اللون، فمن العجيب أن نحاول إثبات معرفتهم به بطرق متعفسة، أو أن نحاول الاعتذار عنهم والتماس الحجج لهم، كأنما كان من المفروض عليهم أن تكون لهم ملاحم شعرية.
وسوف نرى أن شعر الفتح قد صور بالرغم من كل هذا أحداث الفتوح ومشاعر الفاتحين تصويرًا رائعًا، يمكن أن يكون كتاب فخر وسفر مجد، يتلوه الأبناء بعد الآباء.
1 / 23
الباب الأول: الشعر الإسلامي في الفتوح
الفصل الأول: الفتوح في صدر الإسلام
١- دواعي الفتوح "الجهاد":
عجيب أن تقتدر أمة ناشئة كأمة العرب المسلمين، تتعاورها الفتن والاضطرابات، وحركات الارتداد والانتقاض من كل جانب، على أن تهدم إمبراطوريتين عظيمتين لتشيد على أنقاضهما إمبراطورية عظيمة، في مدى لا يتجاوز عشر سنوات، تشتمل على العراق والشام جميعًا وتتخطاهما، فتشتمل على فارس ومصر، حتى تبلغ حدودها الصين من الشرق، وتونس من الغرب، وبحر قزوين من الشمال، والسودان من الجنوب.
إن هذه لمعجزة بلا ريب؛ ووجه الإعجاز فيها أنها حدثت بأيدي العرب الذين كانوا إلى سنوات قبائل متنافسة، لا تهدأ منازعتها، ولا تطمئن فيما بينها إلى قرار. وبدهي أن قيام الإسلام هو أول هذه العوامل التي حققت المعجزة، فهو الذي وحد العرب بعد شتات، وجعل قبائلهم المتنافرة أمة متضافرة، ودفعهم إلى إذاعة تعاليمه، وإعلاء كلمته، ودفع من يريد فتنة الناس عنه.
وقد كان العرب قبل الإسلام ضعافًا أمام الفرس والروم، بل إن مناطق كثيرة من بلادهم كانت تخضع لنفوذهما، فلما أسلموا أسرع هذا النفوذ إلى الانحسار والزوال عن بلادهم كلها، ولم يلبثوا حتى تخطوا إليهما التخوم، وواجهوا جيوشهما التي حسبوها من قبل لا تغلب، وحاصروا حصونها التي توهموها لا تؤخذ، فإذا هي تنقض تحت صلابة إيمانهم من قواعدها. وإنما اقتدر العرب بعد إسلامهم على الفرس والروم؛ لأن الإسلام نشأهم نشأة جديدة، وبث فيهم روحًا أحالتهم خلقًا جديدًا؛ ذلك بأن اقتحم على نفوسهم مناطق عقائدهم، واتصل بوجدانهم في صميمه، وألقى فيه بذور التوحيد والإيمان والأخوة والتوحد، صافية في جوهرها، نقية من كل شائبة، بسيطة البساطة كلها، فتحررت نفوسهم من قيود الوهم، وتطهرت قلوبهم من رجس الوثنية، وشعر كل واحد منهم بأنه لا حجاب بينه وبين الله ما عمل صالحًا واتقاه حق تقواه.
1 / 27