Orientalists by Najib Al-Aqiqi
المستشرقون لنجيب العقيقي
ناشر
دار المعارف القاهرة
ایڈیشن نمبر
الثالثة
اشاعت کا سال
١٩٦٤ م
پبلشر کا مقام
مصر
اصناف
نجيب العقيقي
المستشرقون
موسوعة في تراث العرب، مع تراجم الستشرقين
ودراساتهم عنه، منذ ألف عام حتى اليوم
- (الجزء الأول) -
طبعة ثالثة مزيدة ومنقحة
دار المعارف القاهرة مصر
١٩٦٤
1 / 1
للمؤلف بدار المعارف
من الأدب المقارن:
دراسة لخصائص الأدب، ومقارنة بين أغراض من الشعر العربي والغربي.
برج بابل:
قصة اللبنانيين في مصر - ملتقى العناصر والمذهب واللغات.
أرض الله:
مأساة الفلاحين في مصر منذ أجيال حتى أسدلت الثورة الستار عليها.
وبغيرها
تجفيف المستنقعات:
قصة وجدانية تحليلية (نفدت)
1 / 2
توطئة
الحضارة هي أنفس وأنبل وأخلد ما للأمة من تراث في جماع علومها وآدابها وفنونها، ولئن كان من صنع الطبقة الممتازة فيها فهو للإنسانية جمعاء لا فرق بين عرق ولغة وعقيدة، أو حاجز من زمان ومكان، مادامت تشارك فيه على أقدارها متأثرة ومبدعة ومؤثرة، وتتوارث أفضله وتبنى عليه في سبيل تطويرها وتفاهمها وتكاملها.
وقد كان للعرب والمستعربة والذين دخلوا في الإسلام تراث ومشاركة وإبداع منذ أقدم العصور، ولكنه لم يصبح عميقًا شاملًا متبلورًا إلا بالإسلام؛ فالإسلام مد فتوحه من مكة إلى الشرق والغرب، مستقرًا في بعض بلدانها، مارًا أو مجاورًا بعضها الآخر. وقد دخل فيه كثيرون، واتسع سماحه- ولاسيما في عهد حكامه من العرب - لغيرهم من أصحاب العقائد. وكان لهؤلاء علوم وآداب وفنون فأدخلوها فيه، وجمعوا بين علومه وبينها، واتخذوا العربية لغة الكتاب لأدائها، فحلت محل الفارسية والسريانية والقبطية واليونانية واللاتينية من فارس إلى جبال البرانس، وتجاوزتها إلى غيرها من لغات أوربا، وحملت الدول الإسلامية على استبدال حروفها بحروفها، حتى استوعبت تراث الإسلام استيعابًا لم يتهيأ لمعظم اللغات الشرقية التي دان أهلها بالإسلام كالفارسية والتركية والأوردية، أو لأخواتها من اللغات السامية كالعبرية والسريانية والكلدانية. فكونت، في العصر الوسيط، حلقة بين تراث اليونانية القديمة وبين اللاتينية الحديث أرست عليه أوربا نهضتها وأبدعت من تراثًا، حتى إذا تهيأت لنا استعادته بنينًا عليه نهضتنا.
وظهر على طرفي النهضتين المستشرقون؛ فتناولوا تراثنا بالكشف والجمع والصون والتقويم والفهرسة، ولم يقفوا منه عندها فيموت بين جدران المكتبات والمتاحف والجمعيات، وإنما عمدوا إلى دراسة وتحقيقه ونشره وترجمته والتصنيف فيه: في منشئه وتأثره وتطوره وأثره وموازنته بغيره، واقفين عليه مواهبهم ومناهجهم وميزاتهم، مصطنعين لنشره المعاهد والمطابع والمجلات ودوائر المعارف والمؤتمرات، حتى بلغوا فيه، منذ مئات السنين، وفي شتى البلدان، وبسائر اللغات، مبلغًا عظيمًا
1 / 7
من العمق والشمول والطرافة وأصبح جزءًا لا ينفصل عن تراثنا، ولا تؤرخ الحضارة الإنسانية إلا به- وقد عرف الغرب منه أصالتنا فيها - كما لا تصلنا بالعصر الحديث علومًا وآدابًا وفنونًا، صلة أشد من لغات الغرب.
فإن نحن طوينا هذا الجهد تنكرنا للأمانة العلمية في البحث عن الحقيقة الموضوعية - مع أن نشره لا يتضمن الموافقة عليه والرضى عنه جميعه - فكأننا نأبى أن يكون تراثنا جزءًا لا يتجزأ من الحضارة الإنسانية التي هي ملك لنا كما هي ملك لهم. وإن طي نشاطهم يبعث على الريبة وسوء الظن والقطيعة، في حين أن الحضارة الإنسانية لا تقوم لها قائمة إلا على التعاون في نشر ذخائر كل أمة في العلوم والفنون والآداب، على تنوعها وأوجه الشبه والاختلاف فيها تعاونًا يقصر المسافات النفسية بينها تقصير المخترعات للمسافات الجغرافية، لخلق تضامن وجداني فكري خلقي، في ائتلاف صادق شامل مستمر.
وإذا كنا لا نفرق بين أن ينجلى لنا تراثنا ويحتل مكانته من الحضارة الإنسانية على أيدي العرب أو بالتعاون مع المستشرقين، فقد اعترفنا لهؤلاء بفضلهم، ونشرناه في الناس، وهو بعض حقهم علينا.
إلا أن تحقيق تراجم المستشرقين: منذ مئات السنين، في شتى البلدان، وبسائر اللغات، وذكر مكان وتاريخ آثارهم: المحققة والمترجمة والمصنفة، وإحصاء وسائل نشرها: في المعاهد والمكتبات والمتاحف والمطابع والمجلات والمجموعات والمؤتمرات، ليس بالأمر اليسير الهين. إذ شغل المستشرقون بنا عن أنفسهم أكثر مما زعمه ديجا القائل: «والمستشرقون قعدوا عن تصنيف تاريخ الاستشراق لشدة تنافسهم فيما بينهم وترصد بعضهم البعض الآخر» (١) وتركوا مصادر الاستشراق موزعة على المجلات والحوليات وفهارس المكتبات والمنوعات - عند وفاة أحدهم أو سرد مصنفاتهم أو تكريم أعلامهم - مبعثرة بين كتب التراجم الخاصة بالشرق ودوائر المعارف العامة وهي غير مستكملة لا تذكر سوى أعلام من الأموات في بضعة أسطر، وبين كراسات الوفيات لنفر من المشهورين. ولقد ضم أعلامهم في كتب مستقلة، ولكنها على نفاستها لم تتناول الاستشراق إلا من زاوية: فبعضها صنف في
_________
(١) Dugat، L'Histoire des Orientalistes، p. ١١
1 / 8
الأغراض فسقط دي ساسي بين ثلاثة وعشرين رقمًا في صفحات متفرقة وهوامش متعددة؛ وغيرها على بلد المضيف أو القومية، فنسب كازانوفا الفرنسي إلى إيطاليا على الرغم منه؛ ومعظمها اقتصر على بضعة من الآثار مغفلًا مكان نشرها، فذكر لكراوس ثلاثة وله عشرات.
ولما رأيت حظ المستشرقين من العربية أقل من نصيبهم فيها، سلخت في إعداد الطبعة الأولى عنهم سنتين ولما تف بما أحببته لها. وبذلت قصارى جهدي في الثانية فصلح بعض أمرها. ثم شجعنى نفادها على ثالثة خصصتها بخمس ساعات في اليوم طوال ست سنوات، منقبًا عن التراث الشرق من فجر الحضارة إلى اليوم، مما أطال المقدمة، محصيًا نشاط المستشرقين فيه حتى في مقالاتهم، ولمعظمها قيمة دراسية في ذاتها، محاولا توسيع آفاقه التي خفي بعضها عنا. وقد طبعت من الطبعة الثالثة خمسين نسخة أرسلتها إلى الملحقين الثقافيين، والأصدقاء من أعلام المستشرقين لتحقيق ما فاتني تحقيقه في مظانه -وقد نوهت به في تراجمهم- وأعدته واستعدته مرات، استيفاء لتراجم المستشرقين وعناوين آثارهم وأماكن طبعها وتواريخها إلا القليل منها الذي لا سبيل إليه.
وهكذا صدرت الطبعة الثالثة وقد أوفت على كثير مما تمنيته لها، وأصاب عملي المتواضع فيها أهدافًا أربعة هي: اتصال تراثنا بالحضارة الإنسانية اتصالًا وثيقًا منشأ وتأثرًا وأثرًا، والكشف عن كنوزه في الغرب مجموعة مصونة مفهرسة، وتحقيق المستشرقين لها وترجمتها ومقارنتها بنظائرها والتصنيف فيها، ووضعه بالعربية لأسهل عليهم الرجوع إليه، فلو أنه كتب بالفرنسية مثلًا لوجد مستشرق سكسوني أو سلافي لا يفهمها -ولن يفتقد فيه ما لا يعرفه- أما وهو مستشرق -وجل المستشرقين مستعربون- فسيقف عليه ويقرأ فيه تقديرنا لجهده واعترافنا بفضله.
1 / 9
الفصل الأول
مهد الحضارة
بزغ فجر الحضارة الإنسانية من الشرق الأدني، منذ أربعة آلاف وخمسمائة سنة قبل الميلاد، واستقر ضحاها فيه طوال ثلاثة آلاف عام.
١ - سومر:
لقد حل هنكز الخط المسماري (١٨٥٠) وتوسع فيه أو برت ولورنسن، فجلا الأثريون حضارة سومر في جغرافيتها وسلالاتها وتاريخها جلاء دل على فضلها في وضع أسس النظم التجارية والمصرفية والموازين والمكاييل القانونية، واعتماد العقود المكتوبة والأختام الشخصية في المعاملة. وأثبت أنها كانت، في تاريخ العالم، أول من عرف المركبات ذات العجلات، وقوم السنة باثني عشر شهرًا فورث تقويمها عنها اليهود والفرس والمسلمون، وسن قانونًا مدنيًا مكتوبًا، وجمع المعارف في مكتبات ضمت إحداها مجموعة من ثلاثين ألف لوح.
وتأثر الأكديون بالحضارة السومرية وعدلوا فيها وامتازوا بفن النحت عليها ولكنهم لم يأخذوا بها أخذ البابليين الذين أرسوا عليها أسس حكومتهم الرصينة ومنشآتهم المعمارية وتراثهم الفكري وتوسعهم التجاري. وقد فك جر وتجند رموز الكتابة البابلية (١٨٠٢) فكشف عن أثر البابليين في تقدم الطب والرياضة والجغرافيا، وعن إبداعهم علم الفلك، وتدوينهم أقدم القوانين، وهي مجموعة حمورابي - التي عثر عليها بين أنقاض مدينة السوس (١٩٠٢) وبلوغ حضارتهم المادية في عهده درجة لم يبلغها غيرها من مدن آسيا إلا بعد مئات السنين.
وخلفهم الآشوريون فاقتبسوا عنهم وتكون أدبهم في جملته من آثارهم، ما خلا الحوليات الملكية الآشورية، وهي مصادر تاريخية ذات أهمية بالغة، وقد جمع آشور بانيبال مكتبة من اثنتين وعشرين ألف آجرة في الدين والأدب
1 / 11
والسياسة والعلم فكانت أول مكتبة من نوعها. ونحا نحوهم الكلدانيون، في حين كانت تلك الحضارة قد انتقلت إلى مارديس وميليطيس، وأوفت على الغاية في كريت (١٦٠٠ - ١٤٠٠ ق. م.) فأضحت الحضارة الإيجية أم الثقافة اليونانية والهليستينية المشتقة منها، وعنها أخذت رومة والعرب فأوربا.
٢ - مصر:
ولئن أحال الزمان معظم الحضارات الشرقية إلى أنقاض، فقد خلدت عليه حضارة مصر المسجل أروعها على آثارها في: الأهرام، وأبي الهول، والأقصر، والكرنك، وغيرها من قبل التاريخ، والدولة القديمة (٢٧٠٠ - ٢٢٠٠ ق. م) والدولة الوسطى (٢١٠٠ - ١٧٨٨) والهكسوس (١٦٨٠ - ١٥٨٠) الذين أسسوا الأسرتين الخامسة عشرة والسادسة عشرة، والإمبراطورية أو الدولة الحديثة (١٥٨٠ - ١٠٩٠) والليبيين (٩٤٥ - ٧٤٥) والنوبيين (٧١٢ - ٦١١) والآشوريين (٦٧١ - ٦٦١).
فهل اقتصرت مصر على حضارة مادية في انتقال الفلاح من الفأس إلى المحراث، واكتشاف مناجم النحاس، وتشييد أول بناء بأدوات من الحجر (قبر الملك زوسر في القرن ٢٦ ق. م) وتنظيم الحكومة والبريد والتعداد؟ أو في مخر سفنها البحر الأحمر من شماله إلى جنوبه، وإقامة إمبراطورية جمعت بين بلدان شاسعة من أفريقيا وآسيا؟ إن فضل مصر على الحضارة الإنسانية أعم وأجزل وأنبل: فهي أول من وضع التقويم الشمسي (٢٧٨١ ق. م) وبرديات عن الجراحة والطب الظاهري، وقواعد الحساب على الأساس العشري، ومبادئ الجبر وهندسة المسطحات والمجسمات مما لم تعرفه أوربا إلا بعد ثلاثة آلاف عام. وأول من اكتشف القلم والحبر، والورق الذي ما زال يعرف باسمه المصري بابيروس على تحريف بسيط في اللغات الأوربية، وأبدع الأبجدية، فاشتق الفينيقيون أبجديتهم منها وعدلوا فيها ونشروها في طوافهم بالعالم فأخذها الآراميون إلى العرب والفرس والهنود، ونقلها اليونان إلى الرومان فأوربا، حتى أمست أسًا لكل الحروف التي تكتب بها آسيا وأوربا وأفريقيا وأمريكا. أما الفكرة الدينية فقد سبقت مصر سائر الأم إلى التوحيد،
1 / 12
وسن دستور للضمير الإنساني فردًا وجماعة، وجعل الثواب والعقاب بعد الموت، فارتفع الإنسان إلى مثل خلقية هي أنبل ما وصل إليه في حياته. وجاءت تعاليم بتاح حوتب في الحكمة (٢٨٠٠ ق. م) قبل كنفوشيوس وبوذا وسقراط بألفين وثلاثمائة عام، وأسفار سنوحي، وقصة البحار الغريق (الأسرة الثانية عشرة) أعرق القصص التاريخي، ومسرحية أوزيريس التي تمثل حياته وموته في مصر وبعثه في جبيل مثالًا فذا لجميع الآلهة في غرب آسيا، وأقدم ما عرف عن التمثيل الديني.
وقد اهتدى علماء حملة نابليون على مصر (١٧٩٨) إلى هياكل الأقصر والكرنك، وصنفوا كتابًا في وصف مصر (١٨٠٩ - ١٨١٣) ثم قرأ شمبوليون حجر رشيد (١٨٢٢) فحل رموز الكتابة الهيروغليفية وألف أجرومية ومعجمًا لها (١٨٣٢) فوضع بها أساس علم الآثار المصرية، ومهد السبيل للعلماء إلى التنقيب عن عالم عظيم مفقود، ولما وقف بمعبد الكرنك - وارتفاع عمد بهوه في الجزء الأوسط منه ٦٩ قدمًا يتسع تاج كل منها لمائة واقف فوقه بهرته الحضارة المصرية فكتب: وفي الكرنك تبدت لي عظمة الفراعنة. وما من شعب قديم أو حديث خلا قدماء المصريين، قد أخرج كل ما تصوره الناس في العمارة بمثل هذا السمو والروعة والضخامة.
ولما طرد الآشوريون من مصر شجع ملكها بسماتيك (٦٦٣ - ٦٠٩) الفينيقيين - وتعود صلتهم بمصر إلى غزوهم وضرب الجزية عليهم وتزعمهم حركة الخروج عليها أيام أخناتون، واستمرار نزوحهم إليها وتفرقهم بين أرجائها ولاسيما في منف - واليونان على استيطان مصر للإفادة من نشاطهم وخبرتهم العظيمة وكان وجودهم فيها سببًا في رواج تجارتها وتوثيق عراها بدول البحر الأبيض المتوسط (١) ثم استعان الفرس بأسطول فينيقيا على فتح مصر والحبشة (٥٢٥) وثارت عليهم (٤٨٥) فأعادوا فتحها (٤٨٤) وانضمت إليهم مع فينيقيا في حملهم على اليونان (٤٨٠) وشيد مهندسوهما جسرًا فوق الدردنيل من ٦٧٤ سفينة عد بين روائع القدماء الهندسية.
_________
(١) محمد عبد الرحيم مصطفى وعبد العزيز مبارك، تاريخ مصر القديم، ص ١٨٣.
1 / 13
وما انفكت مصر موردًا يقصدها علماء فينيقيا واليونان ينهلون منها ويرسون في بلدانهم على قواعدها. ومن زارها في القرن السادس قبل الميلاد. فيثاغورس من جزيرة ناموس، الفيلسوف الرياضي، وأبقراط (المولود في جزيرة كوس ٦٤٠) أشهر أطباء العصر القديم. وطاليس (٦٤٠ - ٥٦٤) المولود في جزيرة ميليطيس من أصل فينيقي وتعلم فيها وفي فينيقيا ثم عاد إلى اليونان فأرسى أسس اللوم الرياضية والفلكية والطبيعية والفلسفة الصوفية فيها فخلد مواطنوه اسمه على رأس حكمائهم السبعة. وسولون (٦٤٠ - ٥٥٨) أقدر مصلح ومشرع وأحد حكماء أثينة السبعة. وعندما أنشأ اليونان، في إيليا على شاطئ إيطاليا الجنوبية، مدرستهم الفلسفية الشهيرة (في القرن الخامس قبل الميلاد)، وازدهر المسرح والخطابة والطب في صقلية (٤٨٤) لم تحجب مصر فاستمر العلماء يفدون إليها ويفيدون منها ويصنفون فيها من أمثال: هيرودوت (٤٨٤ - ٤٢٥) وكان شرقي الأصل في أحد أبويه وقد نفى من بلاده فطاف بفينيقيا ومصر حيث أبحر في النيل حتى أسوان، وصنف تاريخًا في وصف حياة مصر والشرق الأدنى واليونان. وديمقريطس الأبدري (٤١٠) الذي غادر إيليا إلى مصر والحبشة وفينيقيا وبابل وفارس والهند، مستزيدًا من العلم، حتى قال عن نفسه: لم يفقني أحد قط ولا المصريون أنفسهم في رمم خطوط بحسب شروط معلومة، كما زار أفلاطون (٤٢٩ - ٣٤٧) تلميذ سقراط وأستاذ أرسطو مصر وأعجب بها. وقضى أودكسوس (٤٠٨) فيها ستة عشر شهرًا يدرس الفلك على كهنة عين شمس، ثم أنشأ مدرسة في أثينة لتعليم العلوم الطبيعية والفلسفة وقد ناقش أستاذه أفلاطون فيها ثم وقف جهده على علم الفلك.
ولما فتح الإسكندر الشرق الأدنى (٣٣٣ - ٣٢٣) أرسل ألواحًا من بابل إلى بلاد اليونان فترجمتها وتضلعت من علمي الفلك وتقويم البلدان، وشجع حكماء اليونان على استيطان الشرق الأدنى لتمكينه من الفتح بالثقافة اليونانية. وبعد وفاته تقاسم قواده إمبراطوريته في مقدونية، وآسيا، ومصر، فأخذوا بالملكية الشرقية نظامًا مطلقًا وطراز بلاط أورثوهما من بعدهم الرومان فأوربا حتى الثورة الفرنسية، وتحول اليونان عن عبادة آلهتهم الإغريقية البسيطة إلى عبادات شرقية زاخرة بالعواطف مثل: كبيلي الأم العظمى في آسيا الصغرى، وميثرا الفارسي، وإيزيس
1 / 14
المصرية، في حين ظلت س ر وجمهرة الشرقيين تعبد آلهتها وتتكلم بلغاتها وتجري على تقاليدها.
وكانت مصر، أصغر أجزاء تركة الإسكندر وأغناها، من نصيب أقدر قواده بطليموس (٣٠٥ - ٢٨٥) فعمل على ترقيتها زراعيًا وصناعيًا وتجاريًا، وبسط سلطانها على شمالي برقة، وعلى فلسطين وفينيقيا وقبرص حينًا، وجعل الإسكندرية عاصمتها، وقد ضمت خليطًا من اليونان والإيطاليين والعرب والفينيقيين والفرس والإحباش، وأنشأ فيها المتحف والمكتبة (٢٩٠) وخلفه ابنه بطليموس الثاني (٢٨٥ - ٢٤٦) فجدد حفر الخليج القديم بين النيل وبين البحر الأحمر وابتنى قصر أنس الوجود في أسوان، وأقام منارة الإسكندرية (٢٧٩) وتزوج أخته على سنة الفراعنة (٢٧٦) وأتم المكتبة وأضاف إليها مكتبة أصغر منها، في معبد سرابيس، أربى عدد ملفاتها على ٥٣٢ ألفًا، واستقدم إلى الإسكندرية مشاهير الفلاسفة والعلماء والشعراء، ورجال الفن، وأغدق عليهم فعاشوا فيها وعرفوا بها، وأمر بترجمة التوراة من العبرية إلى اليونانية، وهي الترجمة السبعينية. وحمل مانيثون الكاهن المصري الأكبر (٢٨٠) على تصنيف حوليات مصر، فجمع الفراعنة في أسر مالكة، مازالت التقسيم المتبع حتى اليوم، وأخرج الشاعر هجسياس القوريني من الإسكندرية وقد أدت فصاحته، في تأييد نظرية الموت، إلى انتحار الكثيرين. واستولى بطليموس الثالث (٢٤٦ - ٢٢١) على سوريا وبني معبدًا في أدفو، وأصلح التقويم المصري، وأمر بأن تودع مكتبة الإسكندرية جميع الكتب، ويعطى أصحابها صورًا منسوخة منها، واستعار من أثينة مخطوطات كبار مؤلفيها لقاء ضمان مالي ثم؛ احتفظ بأصولها وعوضها عنها نسخًا منها متنازلًا عن الضمان. وتعاقب البطالمة على مصر، وكان آخرهم كليوبطره (٤٧ - ٣٠) التي استمالت قيصر فأولدها قيصرون، وانتحر انطونيوس في سبيلها (٣١) ولما عجزت عن أوكتافيوس قتلت نفسها لئلا تكون زينة لمهرجانه.
وأضحت الإسكندرية في عهد أمناء مكتبها: زنودوتوس (٢٨٠) وأريستوفانس (٢٥٧ - ١٨٠) وأريستارخوس (١٤٥) وبفضل أساتذة متحفها وإقبال الطلاب
1 / 15
عليها الوريثة الشرقية لأثينة ومنارة للثقافة الهليستينيه - وهي مزيج من الثقافة اليونانية والحضارات السامية والإغريقية تميزت بالتوفيق بين المذاهب والصوفية والتجريد والتنوع - المنتشرة في مدارس قرطاجنة وبيروت وأنطاكية والرها وغيرها طوال أحقاب. ولئن حل فقه اللغة ونقد النصوص فيها محل الابتكار فلم ينازعها في العلوم منازع فنبغ فيها أقليدس (٣٠٦ - ٢٨٣) ركن علم الهندسة المكين صاحب علم الفلك وأصول الهندسة: وأخذ عن تلاميذه أرشميدس السرقوسي الذي ولد وتوفي في صقلية (٢١٢ - ٢٨٧) رأس علماء الطبيعة الأقدمين. وزاول الطب فيها هيروفيلوس المقدوني (٢٨٥) أكبر العلماء في تشريح العين والمخ. وطفق أساتذة متحفها يتوسعون في تعاليم فيثاغورس وأفلاطون فينشرها طلابهم في مدن حوض البحر الأبيض المتوسط.
وحل الرومان محل اليونان (٣٠ ق. م - ٢٩٥ م) وخلفهم البيزنطيون (٣٩٥ - ٦٤١) وأجلاهم المسلمون (٦٤١) وقد جعل قيصر مصر من أملاك الإمبراطور وكلف سويجنس العالم الإسكندري تعديل التقويم المصري، وأضاف كاليغولا (٣٧ - ٤١) دين إيزيس إلى أديان رومة الرسمية، وأنشأ هدريان (١١٧ - ١٣٨) مجمعًا لينافس به متحف الإسكندرية، ثم زاد في محتوياته عندما زارها (١٣٠) وكانت مركزًا لدراسة الطب بز مدارسه في مرسيليا وليون وسرقوسه وأثينة وأنطاكيه، فتوافد عليه الطلاب من أنحاء الإمبراطورية وحسب الطبيب شهرة تخرجه منه. وقد صنفت إحدى طبيباته مترودورا رسالة في أمراض الرحم، عدت مرجعًا، وألف أحد أطبائه ديوسقوريدس القليقيائي (٤٠ - ٩٠) كتابًا في العقاقير الطبية أفاد من نقله العرب في بغداد وقرطبة واعتمدت عليه أوربا في عصر نهضتها، وتعلم الطب فيها وفي قيليقيا وقبرص جالينوس (١٣٠ - ٢٠٠) وزاوله في رومة (١٦٤ - ١٦٨) وهو أعظم أطباء عصره، وقد أربت مؤلفاته على ٥٠٠ سلي منها ١١٨ رسالة ضمنها جميع فروع الطب. كما اشتهر في الإسكندرية: بطليموس، نسبة إلى بطليموئيس على شاطئ النيل، أكبر علماء الفلك الأقدمين، صاحب النظام الرياضي ويطلق العرب عليه المجسطي (١٤٠) والموجز في الجغرافيا (١٥٥) وصور الكواكب إلخ. وهيرون الاسكندري (٢٢٥) الذي ألف رسائل
1 / 16
في الرياضيات والطبيعة وكتابًا في الحيل والهوائيات والمدايا، وصاغ عددًا من القوانين لقياس الأبعاد، واخترع آلة بخارية كانت آخر مخترعات ذلك العصر وأعظمها. وطوف بلوتارك اليوناني (٤٦ - ١٢٦) في الشرق الأدنى، ومن مصنفاته رسالة عن العبادات الرومانية والمصرية، وكتاب العظماء. واتخذ إبيان اليوناني الإسكندري روما موطنًا له وألف تاريخ رومة (١٦٠)، وحاول فيلون الفيلسوف الإسكندرى اليهودي (المولود عام ٢٠ ق. م) التوفيق بين فيثاغورس - الذي نشر فلسفته في الإسكندرية أخيطاس - وأفلاطون والتوراة فهد السبيل إلى طبع الفلسفة بالطابع اليهودي فالنصراني فالإسلامي فالنصراني، إذ أبدع كليمان (المتوفى ٢٢٠) فلسفة مسيحية جديدة من الأفلاطونية الحديثة، وحذا حذوه تلميذه وخليفته أوريجين (١٨٥ - ٢٥٤) وزاد عليه مبالغته في تفسير التوراة التي استعان بالعلماء على ترجمتها من العبرية إلى اليونانية، وقد استدعته أم الإمبراطور الكسندر سفيروس إلى رومة ليفسر للناس أصول النصرانية. ثم أخلت الفيثاغورية مكانها للأفلاطونية الحديثة ومن أئمتها أفلوطين (٢٠٥ - ٢٧٠) وهو قبطي من أسيوط قضى في مدرسة الإسكندرية عشر سنوات، ثم طلب المزيد من العلم في فارس وأنطاكية، وأنشأ مدرسة في رومة (٢٤٥) وأشهر مؤلفاته: التساعيات، في ستة مجلدات، ينقسم كل منها إلى تسع مجلدات، وقد رتبها تلميذه بورفيريوس الصوري ونشرها بعنوان: الإنياذات، أي التساعيات. ومن علماء الكنيسة المصرية: داريوس الإسكندرى (المتوفى ٣٣٦) منكر ألوهية المسيح (٣١٨) وأنطونيوس الكبير الناسك (٢٥١ - ٣٥٦) وباخوميوس (٢٩٢ - ٣٦٢) مؤسس الرهبانية ذات الأثر البالغ في النصرانية الأوربية ومن أخذ عنها.
٣ - فينيقيا:
وهاجر الفينيقيون من شاطئ بابل الشرق (حوالي ٣٣٠٠ ق. م) إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط. وأنشأوا من مصب نهر العاصي حتى جبل الكرمل إمارات أشهرها: إرواد، واللاذقية، وطرابلس، وجبيل، وبيروت، وصيدا، وصور،
1 / 17
وعكا. وعرفت فينيقيا من الغزاة: الفراعنة (على فترات بين ٢٩٠٠ و١٣٠٠) والآشوريين (٧٧٤ - ٦٣٥) والكلدانيين (٥٨٦ - ٥٣٨) والفرس (٥٣٨ - ٣٣٢) فاستعانوا بأسطولها على فتح مصر والحبشة (٥٢٥) ومكنهم من شواطئ آسيا الصغرى، وفي حملتهم على اليونان (٤٨٠) تم عرفت الإسكندر الأكبر وخلفاءه (٣٣٢) والرومان (١٨٩) والبيزنطيين (٣٩٥ م) حتى قضى عليهم الفتح الإسلامي (٦٣٥).
إلا أن الشاطئ اللبناني، كان أضيق من أن يتسع لتاريخ الفينيقيين، فانطلقت قوافلهم بصناعاتهم من الصباغة والحياكة والزجاج والسفن، وبسلع أفريقيا والهند واليمن والصين إلى بلاد العرب والعراق والحبشة، انطلاق سفنهم في البحار يستكشفون مسالكها بالنجم القطبي - الذي أطلق عليه اليونان النجم الفينيقي - ويحتكرونها، فبلغوا شواطئ بحر إيجه - حيث ذكرهم هوميروس في إلياذته - والبحر الأسود. وأقاموا عليها حاميات لاستخراج ما في مناجمها حتى، أجلاهم قدماء اليونان عنها ما خلا ثلاث جزر منيعة هي: ثيرة، وميلوس، وناموس.
عندئذ تحول الفينيقيون إلى إقامة إمبراطورية من إسبانيا وغربي صقلية وشمالي أفريقيا: فبلغوا إسبانيا (١١٠٠ ق. م) وأنشأوا فيها مدينة ترشيش - ومعناها بالفينيقية منجم - ومالقه - ومعناها مصنع صغير - وشادوا هيكلين عظيمين فيها (٨٠٠) وتم لهم، مع القرطاجنيين فتح اسبانيا (٥٠٠).
وشيد الفينيقيون في ليبيا - وهو اسم لوالدة آجينورملك فينيقيا - صبراته، ولبدة الكبرى، وأويا (١٠٠٠) ثم توسعوا فيها وجعلوها طرابلس القديمة (٩٠٠) وأقاموا في تونس أونيكا (١٠٠٠) وفي الجزائر مرفأ شرشال، وفي جنوب طنجة مصرفًا التمويل تجارتهم.
واستولى الفينيقيون على غربي صقلية (٨٠٠) ثم على سردينيا، وكورسيكا، ومالطه، وقبرص. وأنشأوا المستودعات والمصارف والمكاتب في مرسيليا، ورومه، وكولونيا، وبريطانيا، ومصر، وأورشليم، وتدمر. فأثرت صور (٥٢٠) ثراء جعل الفضة تتكدس في أسواقها تكدس التراب، والذهب كوحل الطرقات، ورفع بيوتها طبقات أعلى من بيوت رومه، على حد قول سترابو، وحافظ، مع بسالة أهلها، على استقلالها حتى قضى عليها الإسكندر الأكبر.
1 / 18
٤ - قرطاجنة:
وشيدت ديدو أميرة صور، مدينة قرطاجنة (٨١٣) في تونس، فما وافي عام ٥٥٨ حتى ضارعت أمها صور فعدها اليونان من أجمل العواصم. ووصف أرسطو دستورها بأنه أرقى من سائر دساتير العالم في كثير من نواحيه، ولخص قواعد زراعتها، ماجو الكاتب القرطاجني في كتاب مشهور (١)، ومد أسطولها - ٥٠٠ قطعة ذات خمسة صفوف من المجذفين - رقعتها من حدود برقة إلى الأطلسي ومكنها من ضم جزر الباليار حتى جزر المديرا إليها، وإقفال حوض البحر الأبيض المتوسط الغربي في وجه التجارة اليونانية ثم الرومانية حتى قيل: لا يقوى الرومان على غسل أيديهم فيه إلا بإذن قرطاجنة.
وكان اليونان قد لحقوا بالفينيقيين إلى صقلية (٧٣٥) ثم إلى إسبانيا، فدمر القرطاجنيون أسطولهم فيها (٥٣٥) وطال نزاعهم معهم على صقلية في حروب (٤٨٠ - ٤٠٩ - ٣٩٧ - ٣٩٢ - ٣٨٣ - ٣٦٨) وانتصر الرومان لجيرانهم اليونان على القرطاجنيين (٢٦٤) فبدأت الحروب البونية - أي الفينيقية بلغة الرومان - وهزموهم في أكبر معركة عرفها التاريخ (٢٥٦) واضطروهم إلى طلب الصلح (٢٤١) وثار الجنود المرتزقة على قرطاجنة (٢٣٨ - ٢٤١) وحاصروها فرفع هميلقار (٢) برقة الحصار عنها، وصالح رومه، وقصد إسبانيا (٢٣٨) وتوفى فيها (٢٢٩).
وخلفه في معسكره؛ هزدرو بعل زوج ابنته فشيد بجوار مدينة الفضة قرطاجنة الجديدة (٢٢٦) وعقد مع رومة معاهدة. ثم خلفه هنيبعل بن هميلقار برقه (٢٢١) وكان يجمع إلى تضلعه من الثقافتين الفينيقية واليونانية عبقرية سلكته بين أشهر أبطال التاريخ، فزحف من إسبانيا على إيطاليا مجتازًا نهر الأبر و(٢١٨) إلى نهر البو - وقد اخترقه المؤرخ يوليبوس ليسجل نقشًا، خلفه هنيبعل عند بروتيوم، في تاريخه العام (١٤٨ ق. م) - وأطبق على فيالق الرومان عند نهر تيسينو وبحيرة تراسيمن (٢١٧) وكاناي (٢١٦) فأفنى معظمها وكبار قوادها وثمانين من أعضاء مجلس الشيوخ. وقاء برهن هنيبعل في نصره ذاك على براعة في القيادة
_________
(١) R.B. Smith، Carthage and the Carthaginians.
(٢) Flaubert، Salammbo
1 / 19
لم يتفوق عليه فيها متفوق، ووجه به الخطط العسكرية الفنية وجهة أخذ بها مدى ألفي عام. وروعت الكارثة رومة، فهم أبناؤها بالفرار وخشيت أراملهن العقم، وأباح مجلس الشيوخ التضحية بالناس؛ ثم جيشت جيوشها، فاستولت على قرطاجنة الجديدة (٢١٥) وسيرت سيبيو الملقب بالأفريقي، على أفريقيا (٢٠٥) فقهر هنيبعل عند زاما (٢٠٢) وعقد صلحًا مع قرطاجنه، فاختارت هنيبعل حاكمًا عامًا (١٩٦) ولما دس عليه أنه يعد العدة لاستئناف القتال وطلبت رومة تسليمه فر منها وهي تطارده حتى تجرع السم (١٨٤).
ولم يمت بموت هنيبعل حقد رومة على قرطاجنة فكان كاتو، أشهر زعمائها، يختم كل خطاب له في مجلس الشيوخ بقوله: هذا إلى أني أعتقد أن قرطاجنة ينبغي أن تدمر. وقرر المجلس أن الفينيقيين دخلاء على أفريقيا. ثم وعدهها (١٥١) بتركها واستقلالها وسلامة أراضيها إن هي سلمت للقنصلين الرومانيين في صقلية ٣٠٠ من أبناء أشرافها. وبعد أن سلمتهم طلب منها جميع سفنها ومؤنها وذخائرها وإجلاء سكانها عنها لإحراقها فقاومت حصاره برًا وبحرًا، طوال ثلاث سنوات. ورجع القائد سيبيو إلى مجلس الشيوخ في أمر تدميرها بعد سقوطها، فرد عليه: يجب أن تحرق وتحرث وتغطى بالملح وتصب اللعنات على كل من يحاول إقامة بناء في موضعها فأحرقها وظلت النار مشتعلة في أرجائها ١٧ يومًا (١٤٦) وضم أملاكها إلى رومة باسم الولاية الأفريقية (١) حتى عام ٤٣٩ م.
ولم يعبأ أغسطس (٦٣ ق. م - ١٤ م) بلعنات مجلس الشيوخ فأعاد بناء قرطاجنة - فنظم فرجيل (٧٠ - ١٩ ق. م) الإلياذة في وصف تشييدها الأول ونزول أهلها بإيطاليا، ثم صنف الإمبراطور كلوديوس الأول (٤١ - ٥١) كتابًا في تاريخ قرطاجنة - وما لبثت، بعد قرن، أن استعادت رخاءها فأقامت الهياكل والتماثيل ورفعت بيوتها ست طبقات وشيدت قاعات المحاضرات ومدارس البيان والفلسفة والطب والقانون (٢) ولا اعتنقت أفريقيا الشمالية النصرانية وهبتها أعظم المناضلين عنها، ووضعت نصوص القداس اللاتيني وترجمة العهد القديم فيها، وظل في شمالي أفريقيا بعد الفتح الإسلامي ٤٠ أسقفية، ولم تقف رومة، عند النهل من
ثقافتها، فعلها بغيرها وإنما رفعت سلالة أحد رعاياها إلى عرش أباطرتها.
سبتيموس سفيروس (١٦٤ - ٢١١ م) ولد في لبدة الكبرى، من أسرة فينيقية تتكلم بلغتها، ودرس الآداب والفلسفة في أثينة. وتزوج (١٨٧) من جوليا دومنا بنت كاهن الغابال إله حمص فأنجبت له كراكلا وجيتا. وعند ما ارتقى العرش (١٩٣ - ٢١١) سار بالإمبراطورية على الأساليب الشرقية، وملأ الأماكن الشاغرة في مجلس الشيوخ بالمشرقيين - وقد سبق لكلوديوس أن اتخذ وزراءه من الفينيقيين: بعل بالاس للمالية، ونرسيس
_________
(١) G. Boissier، L'Afrique Romaine.
(٢) وقد كشف عن آثارها ديلاتر (١٨٩٠) Delatre وأنشأ لها متحفًا باسم متحف قرطاجنة.
1 / 20
للخارجية، وكاليستوس فينيفيان للدولة. كما اختار نيرون من بعد، أبا أفروديت رئيسًا لمجلس الشيوخ (١) - وأنشأ كتائب جديدة للحرس الإمبراطوري ولى عليها قائدين أحدهما بابنيان الفقيه الذي استدعاه من بيروت، واتخذ زميله أولبيان كبير مستشاريه، ووهب لبدة الكبرى، مسقط رأسه باسلقا وحماما عاما مازالت آثاره الرائعة قائمة حتى اليوم، قيام القصر الذي بناه على تل البلاتين في رومه، وإيوان فستا وهيكلها اللذين شيدتهما جوليا دومنا، واستحدث إدارات جديدة وأعاد تنظم ما بين النهرين، وقضى ثمانية عشر عامًا في حروب سريعة مكنته من قتل نيجر بالقرب من أنطاكية (١٩٤) وتدمير بيزنطية (١٩٦) وضم بلدان واسعة، والانتصار على الإسكتلنديين. ثم انسحب إلى بريطانيا حيث توفي في يورك الحالية (٢١١).
وأراد كراكلا (٢١١ - ٢١٧) وكان قد شارك أباه الحكم (١٩٨) أن ينفرد بالسلطان من دون أخيه جيتا (٢٠٩) فأنفذ إليه من قتله (٢١٢) وقضى على أتباعه في طليعتهم بابنيان، إلا أنه منح الشرقين امتيازات وفيرة، وحقوق الرعوية لسائر شعوب الإمبراطورية، وأضاف إلى معالم رومه قوس سبتيموس، وضريحًا لزوج إيزيس، وتماثيل لهنيبعل - وقد طلب من مجلس الشيوخ إدراج اسمه بين الآلهة - وحمامات عامة بلغت مساحة بنائها الرئيسي ٢٧٠ ألف قدم مربعة. وأنشأ فيلقًا من ١٦ ألف جندي أطلق عليه اسم الاسكندر. وصد الإلمان والقوط (٢١٩) وضم أرمينيا (٢١٩) وطفق يشارك جنوده -وقد أسرف في رفع مرتباتهم فهدد بالإفلاس- طعامهم وشرابهم وكدحهم إلى أن اغتاله رئيس الحرس مكرينوس (٢١٧) ونادي
_________
(١) M. Grant، Le Monde de Rome، p. ١١٩
1 / 21
بنفسه إمبراطورًا، وطلب من مجلس الشيوخ اتخاذ كراكلا إلهًا، ونفى أمه دومنا إلى أنطاكية حيث أضربت عن الطعام حتى ماتت.
وعادت شقيقتها الصغرى جوليا بائسة إلى حمص فألفت حفيديها: فاريوس أفيتوس بن بنتها جوليا سواتيمياس، والكسيانوس بن جوليا ماماتيا. وأشاعت جوليا أن فاريوس هو الابن الطبيعي لكراكلا وحاربت به مكرينوس وانتصرت عليه. فدخل فاريوس، وقد تلقب بلقب الغابالوس، رومة (٢١٨ - ٢٢٢) فترك لجدته حكمها وراح يستمتع بالإمبراطورية على الطريقة الشرقية: رافعًا إله حمص فوق الآلهة، مكثرًا من حفلات الموسيقى والغناء، مولمًا ولائم، يخلط فيها قطع الذهب بالبازلا والعقيق بالعدس واللؤلؤ بالأرز، حتى إذا ضاقت جدته بعبثه حملته على أن يتبني قريبه الكسيانوس ويجعله قيصرًا وخليفة، ثم ائتمرت به فاغتاله الحرس وألقوه في نهر التيبر ونادوا بالكسيانوس، ولم يتجاوز الرابعة عشر، هو الآخر، إمبراطورًا باسم الكسندر سفيروس.
وكان الكسندر سفيروس (٢٢٢ - ٢٣٥) المولود في عرقه من بلاد عكار بلبنان (٢٠٨) بهي الطلعة كأسلافه، مثقفًا بالثقافة اليونانية واللاتينية، مقتصدًا في طعامه وشرابه وكسائه، يستعين بأمه وأستاذه أولبيان في سياسته، ويعامل أعضاء مجلس الشيوخ معاملة الأنداد، ويضع في معبده صورًا لجميع الآلهة والرسل بمن فيهم إبراهيم والمسيح -فاستدعت أمه أوريجين أشهر علماء الإسكندرية ليفسر للناس أصول النصرانية- وقد حرم الدعارة وخفض الضرائب وأنقص الفائدة وأقرض الفقراء وشاد المنشآت العامة في جميع أنحاء الإمبراطورية فعمها الرخاء. إلا أن الفرس والألمان طمعوا فيه فقاتل أردشير وانتصر عليه، وانطلق للقاء قبائل الألمان والمركمان في بلاد غاليا الشرقية وطفق يفاوضها للإبقاء على السلم، فعد جنوده مفاوضته ضعفًا منه واستسلامًا لأمه فاقتحموا عليه خيمته وقتلوه هو وأمه وأصدقاءه (٢٣٥) وبموته عفى على حكومة رومة الدستورية وبدأت فيها الفوضى العسكرية.
لم يقتصر الفينيقيون على ما تقدم، فقد اشتقوا من الأبجدية المصرية أبجدية - ترقى إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد كشف عنها شيفر الفرنسي في أوغاريت وهو اسم القصر الملكي في رأس شمره قرب اللاذقية (١٩٣٢ - ٦١) - ونشروها
حيث حلوا نشرهم في أوربا حضارة الشرق كالمقاييس والموازين وبناء السفن وعلم الفلك. وعنهم اقتبس العبرانيون لكتاباتهم المقدسة، كسفر الأمثال، والمزامير، ونشيد الإنشاد وغيرها. واشتقت اللغات الغربية اسم الكتاب المقدس من بيبلوس.
وكان القرطاجنيون أول من كشف عن المحيط الأطلسي فقطع هنون حاكم قرطاجنة (٤٩٠) إزاء شاطئ أفريقيا الغربي، مسافة ٢٦٠٠ ميل، قبل البرتغاليين بألفي سنة. وانطلق هيميلكون في بعثة استكشاف إلى ساحل
1 / 22
أوربا الغربي فبلغ بريتاني وجزر الكناري (المديرا) وفي ذلك يقول سارتون: «إن الملاحين الفينيقيين وخلفاءهم القرطاجنيين قد اضطلعوا بأعمال ... أكبر خطرًا من تأملات الإغريق في اللانهاية أو في المنطقية الحسابية» (١).
ولكن تلك التأملات لم يستقل بها اليونان، فقد أسهم الفينيقيون في إنشاء الحضارة الكريتية، وتأسيس المدارس الأوربية وطبعها بالطابع الشرق. وتعاونوا مع زملائهم المصريين والفلسطينيين والسوريين على إبداع الثقافة الهليسيتينية، واشترك مشرعو مدرسة بيروت في صياغة القانون الروماني الذي عد أروع ما قدمته رومة للأجيال فاستندت إليه الثورة الفرنسية في وضع دستورها. وانتقلت النصرانية من فلسطين إلى رومة فأوربا فاهتدت بها إلى التوحيد بعد وثنية طويلة، وبلغ ثمانية شرقيين كرسي البابوية (٢). وقد تميزت ثقافة الفينيقيين وخلفائهم وأحلافهم، بالإبداع والتنوع والاستمرار، وخلقها علماء وأبطالا وقديسين، من مشاهيرهم:
زينون الرواق (٣٣٦ - ٢٦٤ ق. م) من أصل فينيقي ولد في قبرص، وقصد أثينة (٣١٤) وأنشأ رواقًا فيها (٣٠١) ونشر جمهوريته (٣٠٠) فأعجبت الجمعية الأثينية به وسلمته مفاتيح الأسوار وأهدته تاجًا من الذهب ... وقررت بناء قبر له في حي الرمكس، ولا توفي كتب على قبره: «لن يضيرك منبتك في فينيقيا ضيرًا، ألم يأت قدموس - وتعزو اليونان نشأة كثير من مدنها إلى قدموس (٣) وأمثاله، وكان قدموس أول من استخرج النحاس من مالطه وبني طيبه وصنف كتابًا في
_________
(١) سارتون، تاريخ العلم، ج ٢، ص ١٥٦.
(٢) L. Brehier، Les Origines du crucifix dans l'art religieux
(٣) وللأستاذ سعيد عقل ملحمة رائعة بعنوان: قدموس
1 / 23
تاريخ ميليطيس (٥٠٠) - اليونان بكتبها وفن كتابتها؟».
وبني زينون مذهبه الرواقي على كثير من العناصر الآسيوية ولاسيما السامية كالتجريد ووحدة الوجود والجبرية، فانتصر بها الشرق على الثقافة اليونانية، وذاع على يد مريديه في الشرق والغرب ذيوعًا كبيرًا، وعند ما أنشأ الإمبراطور ماركوس أورليوس كراسي للفلسفة في أثينة قصرها على أربع: الأفلاطونية، والأرسطاطلية، والرواقية، والأبيقورية، وأخذ بالرواقية معظم فلاسفة الرومان فأصبحت ملهمة سيبيو، وأمنية شيشرون، ورائعة سنكا. وخلقت من أباطرتهم أبطالًا من أمثال: كاتو الأصغر، وتراجان، وماركوس أورليوس. وتبلورت في ضمير رومة فوضعت على هديها قوانينها الشهيرة. ثم مهدت للمسيحية فأضحت دينا أكثر منها فلسفة.
بروبوس البيروتي (القرن الأول للميلاد) تخصص في الأدب، وقصد رومة حيث نشر مصنفات فرجيل وهوراس وغيرهما نشرًا علميًا فعد من أكبر اللغويين اللاتين رفي طليعة النقاد.
فيلو الجبيلي (٦١ - ١٤١ م) نحوى ومؤرخ ومترجم، صاحب التصانيف الوفيرة ومن أمهاتها: الديانة الفينيقية، وترجمة حوليات سانخونياطون البيرتى من الفينيقية إلى اليونانية، وقد رد إليه النظرية الذرية، ولكن سارتون يرجح عليه وعلى موخوس الصيداوي لوقيبوس المالطي.
مارينوس الصوري (القرن الثاني للميلاد) أول من وضع الخرائط الجغرافية على أسس رياضية فعد مؤسسًا للجغرافية العلمية. وقد اعترف بطليموس ببناء جميع مؤلفاته على أصولها.
أدريانوس الصوري (القرن الثاني للميلاد) فيلسوف تبوأ كرسي البلاغة في أثينة وكان يذهب إلى الندوة في عربة، عدة جيادها من الفضة، وعليه أثواب تتلألأ بالجواهر ويسهل محاضراته بتلك العبارة المأثورة عنه: «ها قد عادت الآداب مرة أخرى من فينيقيا» وقد استمع إليه هدريان، وماركوس أورليوس، وخلعا عليه ووهباه الذهب والبيوت والعبيد. ولما قصده رومة عين أستاذًا للبلاغة فيها، وبلغت روعة محاضراته مبلغًا أرجأ من أجله الشيوخ اجتماعات مجلسهم وصرف الناس عن دور التمثيل إليها مع أنه كان يلقيها باليونانية.
1 / 24
بابنيان (١٧٥ - ٢١٢) تعلم القانون وعلمه في مدرسة الحقوق ببيروت، وجعله سبتيموس سفيروس أحد قائدي الحرس الإمبراطوري. وطلب منه كرا كلا تبرير اغتيال أخيه ولما رفض، بقوله: إن اغتيال الأخوة أسهل من تبريره، أمر بقطع رأسه ولا يتجاوز السابعة والثلاثين. وقد جمع بابنيان القوانين الرومانية وشرحها وصنف فيها كتابين: الأسئلة، والأجوبة، امتازا بالنزعة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. وصاغ مع زميله أولبيان، الفقه الروماني - وكان سلفيوس جوليانوس الروماني القرطاجني من عباقرة المشرعين قد وضع مجموعة في القوانين المدنية بعنوان خلاصة -صياغة منطقية منسقة، فبلغا به الذروة، وقد انطوت مجموعة قوانين جوستنيان (٥٣٣) على ٥٩١ فقرة من وضع بابنيان.
أولبيان الصوري (١٧٠ - ٢٢٨) تخرج بالقانون من مدرسة الحقوق في بيروت وخلف منافسه بابنيان فيها. ثم استدعى إلى رومة لمعاونته حتى جرده من وظيفته الغابالوس خليفة كراكلا (٢١٨) وأعاده ألكسندر سفيروس مستشارًا إمبراطوريا (٢٢٢) وقتله رجال الحرس في حضرة الإمبراطور وأمه (٢٢٨) وقد واصل أولبيان جهود بابنيان في فقه القانون ووقف نشاطه على الدفاع عن العبيد ومساواة المرأة بالرجل. وخلف مكتبة اشتهرت بمحفوظاتها التاريخية، وعدة تصانيف ضم ثلث فتاويه فيها موجز جوستنيان، و٢٥٠٠ فقرة منها مجموعة تيودوسيوس (٤٣٨).
انتيباتر الصيداوي (القرن الثالث للميلاد) وأصله من صور تتلمذ على أدريانوس واختاره سبيتموس سفيروس أمينًا له ومؤدبًا لولديه: كراكلا وجيتا. فلما اغتال كراكلا أخاه جيتا لامه في رسالة بليغة ورجع إلى صيدا حيث توفي من الجوع بإرادته. بورفيريوس الصوري (٢٣٣ - ٣٠٥) تعلم في صور وأثينة ورومة، والإسكندرية حيث أخذ الأفلاطونية الحديثة عن أفلوطين ثم علمها في رومة حتى وفاته. وقد نشر لأستاذه كتاب التساعيات. وصنف هو في الفلسفة والنحو والبلاغة والرياضيات والفلك وعلم النفس والموسيقي والنبات، وقد سلم من إحراق معظم كتبه (٤٤٨) كتابه الإيساغوجي فحل إلى جانب مؤلفات أرسطو في البيان والمنطق والشعر ونقل إلى العربية في بغداد.
1 / 25