مقدمة
أوديب
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
ثيسيوس
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
مقدمة
أوديب
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
ثيسيوس
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
أوديب وثيسيوس
أوديب وثيسيوس
من أبطال الأساطير اليونانية
تأليف
أندريه جيد
ترجمة
طه حسين
Mon cher André Gide
particulière tendresse que vous avez pour eux.
C’est pourquoi je leur appris l’arabe, ajin qu’ils puissent aux lecteurs de l’Orient dire votre message, qui est confiance, courage, sérénité.
Ils témoigneront aussi de cette grande admiration que j’ai pour vous, et qui, depuis notre rencontre, est devenue une si précieuse amitié.
TAHA HUSSEIN
Le Caire, le 7 octobre 1946
صديقي أندريه جيد
سمعتك تقرأ لنا قصتي «أوديب» و«ثيسيوس»، فعرفت الحنان الخاص الذي تؤثرهما به.
ومن أجل هذا علمتهما العربية ليبلغا إلى قراء الشرق رسالتك التي هي ثقة وشجاعة واستبشار.
وسيشهدان كذلك بما أضمر من إعجاب بك قد أصبح منذ التقينا ودا كريما.
طه حسين
القاهرة، 7 أكتوبر 1946
مقدمة
1
كان لايوس
Laïus
منذ ارتقى إلى عرش ثيبا
Thèbes
يحيا حياة سعيدة راضية مع زوجه جوكاست
Jocaste . ولم يكن يكدر صفو هذه السعادة إلا شيء واحد وهو أن الزوجين لم يرزقا الولد؛ فخطر للملك أن يستثير أبولون
Apollon
في محنته هذه، لعله أن يجد له منها مخرجا، وأن يتم عليه نعمة الملك السعيد المجيد الذي لا يقتصر على شخص صاحب العرش، وإنما ينتقل منه إلى ذريته التي تتوارثه أجيالها إلى آخر الدهر. فلم يكن لايوس قصير الأمل ولا محدود الأمد. لم يكن يريد أن يملك ليس غير، وإنما كان يريد أن ينشئ أسرة مالكة. ولكن أبولون لم يكن سمحا ولا مواتيا؛ فأظهر للملك في شيء من الإلغاز ما خبأه له القضاء. أعلن إليه أنه إن رزق الولد فسيقتله ابنه. وقد عاد لايوس من معبد أبولون مهموما، شديد الحزن، موزع النفس بين الحرص على الحياة والرغبة في الولد الذي يرث الملك، ويخلد الذكر.
وقد شك طويلا أو قصيرا بين هاتين العاطفتين، ولكنه آثر الحياة آخر الأمر على الولد، فرضي العقم، بل رغب فيه وحرص عليه. غير أن القضاء ماض إلى غايته دائما ، فما هي إلا أن يرزق لايوس من زوجه جوكاست هذا الغلام الذي أنذره أبولون بأنه سيذيقه الموت. هنالك استأثر الحرص على الحياة بنفس الملك؛ فأزمع أن يقتل ابنه قبل أن يقتله هذا الابن، وأسلم الطفل إلى راع من رعاته، وكلفه أن يلقيه على الجبل نهبا للسباع. ولكن الراعي لم يكن قاسي القلب ولا غليظ الطبع، فلم يلق الطفل على الجبل ولم يقتله، وإنما أسلمه إلى راع آخر لملك كورنت
Corinthe
في بعض الروايات، أو علقه إلى شجرة من أشجار الجبل من رجليه اللتين شقهما، وجمع بينهما بحبل متين.
ومهما يكن من اختلاف الروايات، فإن الصبي لم يمت نهبا للسباع ولا نهبا للجوع والبرد والجراح، وإنما تلقاه راعي كورنت فعطف عليه ورفق به. وكان ملك كورنت بوليب
شقيا بعقم امرأته ميروب
Mérope ، فيدفع الراعي إليه هذا الصبي ويتبناه الملك وينشئه تنشئة أبناء الملوك.
وقد شب الصبي قوي الجسم والنفس جميعا، ماضي العزم، صارم الإرادة، معتدا بنفسه، جاهلا لأصله، بعيد الأمل مع هذا كله، عظيم الأطماع، ولكنه يرى من لداته وأترابه ما يريبه؛ فهم يلمحون له بأنه ليس ابن الملك، وهو يضيق بهذه الريبة، ويريد أن يعرف جلية أمره، فيذهب إلى معبد أبولون ليتبين حقيقة الأمر في وحي الإله. والقضاء صارم حازم قاس لا يعرف رفقا ولا لينا، وإذا أبولون لا ينبئ الفتى بأصله، ولا يزيل من نفسه الريبة، وإنما يضيف شكا إلى شك وخوفا إلى خوف، فينبئ الفتى بأنه سيقتل أباه، وسيتزوج من أمه، وسيقترف هاتين الخطيئتين المنكرتين.
وكان لايوس قد أراد أن يقاوم القضاء، فيخلص من هذا الصبي الذي سيذيقه الموت، فانتصر القضاء على إرادة لايوس، وعاش الصبي ونما حتى أصبح قادرا على اصطناع السلاح.
وهذا الفتى ينبئه أبولون بأنه سيقتل أباه ويقترن بأمه، فيريد أن يقاوم القضاء، وهو لا يعرف لنفسه أبا غير بوليب ملك كورنت، ولا أما غير ميروب ملكتها. فليجتنب إذن كورنت، وليأخذ طريقه إلى أي بلد آخر بعيد عن هذه المدينة؛ حتى لا يغرى بقتل أبيه أو اتخاذ أمه لنفسه زوجا. وإنه لفي بعض الطريق عند مكان شديد الضيق، وإذا عربة تعترضه وتأخذ عليه سبيله، فيكون الخصام باللسان، ثم يكون الاقتتال، وإذا الفتى يقتل صاحب العربة، وقد تفرق من كان معه من خدم وأنصار. ويمضي الفتى لوجهه راضيا عن نفسه، مطمئنا لحسن بلائه، غير مقدر أنه قد أنفذ بعض ما كتب القضاء عليه، فقتل أباه، واقترف أحد الإثمين اللذين أنذره بهما أبولون.
وهو يمضي في طريقه حتى يدنو من مدينة ثيبا، فيسمع بأن المدينة مروعة بخطر داهم ونكر مبين؛ فهذا كائن غريب قد هبط عليها من السماء أو نجم لها من الأرض، جاءها من حيث لا تعلم على كل حال، واستقر غير بعيد من المدينة على صخرة مرتفعة يرصد من يمر به من الناس، فيلقي عليهم لغزه الغريب: «ما كائن له صوت واحد، يمشي على أربع إذا أصبح، وعلى اثنتين إذا زالت الشمس، وعلى ثلاث إذا أقبل المساء؟»
وهذا الكائن الغريب الذي اتخذ جسم الأسد، ورأس المرأة، ووصل بجسمه جناحين، والذي يسميه اليونان سفنكس
Sphinx ، ويسميه المصريون القدماء بو الهول، أو أبا الهول، لا يعفي أحدا من الإجابة على هذا السؤال وحل هذا اللغز. والناس جميعا يعجزون عن الإجابة ولا يجدون حلا لهذا اللغز، وهو يعاقبهم بالموت على هذا العجز والإخفاق. وقد عظم الكرب، وعم البلاء، وامتلأت قلوب أهل المدينة خوفا ورعبا، حتى اضطر كريون
Créon
أخو الملكة جوكاست والناهض بأعباء الملك بعد قتل لايوس أن يذيع في أقطار الأرض أن من أراح المدينة من هذه المحنة فله تاجها وله الملكة زوجا.
وقد سمع الفتى بأنباء هذا الكائن الخطر، وبهذا الوعد الرائع الذي يبذل لمن ينقذ منه هذه المدينة البائسة، وهو قوي الجسم والنفس، ذكي القلب، حديد الفؤاد، بعيد الأمل، شديد الطموح؛ فيقبل على أبي الهول يجرب ذكاءه وقوته، ويغامر بحياته في سبيل المجد والملك.
وأبو الهول يلقي عليه السؤال؛ فيجيبه الفتى بأن الإنسان هو الذي يمشي على أربع إذا أصبح؛ لأنه يحبو في الطفولة، ويمشي على اثنتين إذا انتصف النهار؛ لأن قامته تعتدل وتستقيم إذا شب، ويمشي على ثلاث إذا أقبل المساء؛ لأنه ينحني على العصا إذا أدركته الشيخوخة. وقد أفحم أبو الهول وألقى بنفسه من أعلى الصخرة فمات؛ وظفر الفتى بعرش ثيبا، واتخذ الملكة له زوجا، واطمأن إلى أنه قد أفلت مما تنبأ له به وحي أبولون، فلم يقتل أباه، وأين هو من عابر السبيل ذاك الذي قتله؟! ولم يقترن بأمه، وأين هو من ملكة ثيبا هذه التي تزوج منها! لقد ترك أبويه في كورنت وأسس لنفسه ملكا جديدا، وقد رضي عن رعيته ورضيت عنه رعيته ورزق الولد. فله ابنان إتيوكل
Etéocle
وبولينيس
، وله ابنتان أنتيجون
Antigone
وإسمين
Ismène . وهو يرى نفسه سعيدا موفورا راضي النفس رخي البال. ولكن المدينة تمتحن ذات عام بوباء يفسد عليها أمرها كله فسادا عظيما؛ فقد هلك الزرع وجف الضرع وأسرف الموت في كل حي؛ فالطير تساقط من السماء؛ والماشية تخر إلى جنوبها، والناس يستبقون إلى القبور حتى تضيق بهم وحتى يعجز بعضهم عن دفن بعض. وقد عم البلاء وعظم الكرب واشتدت المحنة حتى بلغت أقصاها.
وأهل المدينة يستعطفون الآلهة بالضحايا والقرابين ويتوسلون إليهم بالصلاة والدعاء؛ فلا يغني عنهم هذا كله شيئا. وهم قد هرعوا إلى ملكهم يفزعون إليه ويستعينونه، فيرسل الملك إلى معبد أبولون من يؤامر الإله ويستشيره في هذا البلاء العظيم. ويعود رسول الملك إليه يحمل جواب الإله واضحا غامضا ومعمى صريحا، كما تعود أبولون أن يجيب دائما. أجاب أبولون بأن الآلهة لن يكشفوا الضر عن هذه المدينة إلا إذا ثأرت للايوس من قاتله.
ولم يكد الملك يتلقى هذا الجواب حتى أعلن في حزم وصرامة أنه باحث عن هذا القاتل ومنزل به أشد العقاب، وأنه يطلب إلى أهل المدينة أن يعاونوه على ذلك في غير تردد ولا ضعف مهما يكن هذا القاتل.
ثم هو لا يكتفي بذلك، بل يستنزل اللعنات وغضب الآلهة على هذا المجرم الذي قتل ملكا وعرض المدينة لشر عظيم. ولكن الملك لا يكاد يبحث عن هذا المجرم حتى تتبين له الحقيقة منكرة بشعة؛ فهو المجرم الذي قتل لايوس هناك في ذلك المكان الضيق، وهو الآثم الذي اتخذ أمه له زوجا وعاش معها في هذا القصر وأولدها أبناءه الأربعة.
ليس في ذلك شك، واسمه نفسه يدله على ذلك دلالة قاطعة، فهو أوديب
Œdipe
ذو الرجل المتورمة، ورجله متورمة حقا من أثر ذلك الثقب الذي علق به إلى الشجرة في طفولته الأولى على الجبل. يعرف ذلك من الراعي الذي كلف قتله، ويعرف ذلك من الراعي الذي أنقذه من الموت وأسلمه إلى ملك كورنت. هنالك يتبين أوديب وتتبين جوكاست أن لا مرد لما كتب القضاء؛ فلم يغن عن لايوس تخلصه من الصبي؛ فقد عاش الصبي حتى قتله، ولم يغن عن جوكاست تخلصها من الصبي؛ فقد عاش الصبي حتى اقترن بها. ولم يغن عن أوديب فراره من قصر كورنت وتجنبه ملكها وملكتها هربا من الإثم، فلم يكن من هذين الزوجين في شيء. وإنما هو ابن لايوس وقد قتل لايوس، وابن جوكاست وقد تزوج من جوكاست.
والمهم أنه قد عرف القاتل الذي يجب أن يثأر منه لتخلص المدينة من هذا البلاء؛ فيجب أن يثأر من نفسه إذن، فإن لم يفعل فستثأر منه المدينة التي لم تكن ترى فيه ملكا فحسب، وإنما كانت ترى فيه شيئا يشبه الإله.
فأما جوكاست فلم تكد تظهر على الحقيقة البشعة حتى خنقت نفسها. وأما أوديب ففقأ عينيه بيديه حتى لا يرى الضوء.
وتختلف الروايات بعد ذلك أو قل تختلف الروايات قبل ذلك، ويزيد في اختلافها فن شعراء الممثلين الذين اتخذوا هذه القصة موضوعا للتمثيل؛ فقوم يرون أن جوكاست لم تقتل نفسها، وإنما عاشت حتى رأت اختلاف ابنيها على العرش وتساقيهما الموت، ولم تقتل نفسها إلا بعد أن رأتهما صريعين، وقوم يرون أن أوديب قد نفى نفسه من الأرض بعد أن فقأ عينيه وهام غريبا تقوده ابنته أنتيجون حتى انتهى آخر الأمر إلى ضاحية من ضواحي أثينا فمات فيها.
وآخرون يرون أنه لم ينف نفسه، وإنما نفاه ابناه بعد أن وليا الملك، وآخرون يرون أن ابنيه قد أمسكاه في القصر ولم ينفياه، وإنما نفاه كريون بعد أن مات ابناه، فلجأ إلى الضاحية الأثينية ومات فيها.
هذه هي القصة التي روتها الأساطير اليونانية منذ أبعد العصور؛ فقد تحدثت بها الأودسة
L’Odyssée
في نشيدها الحادي عشر، كما تحدثت بها أقاصيص ثيبا نفسها بعد ذلك.
2
والشعراء الممثلون من اليونان يعتمدون في تمثيلهم بحكم الفن نفسه وبحكم الدين أيضا على الأساطير؛ فالأبطال القدماء هم موضوع المأساة اليونانية التي تصور حياتهم، أو تصور ما تمتاز به حياتهم من المحن والخطوب. وتصوير هذه المحن التي ألمت بالأبطال وعرضها على النظارة في ملاعب التمثيل شيء كان الأثينيون يرونه فنا ويرونه دينا، فيه الجمال الأدبي الذي يعظ النفس، ويذكي القلب، ويثير العاطفة، وينمي الفضيلة، ويرفع الإنسان عن صغائر الحياة إلى جلائل الأمور، وفيه تقديس الآلهة، وتمجيد الأبطال، والإشادة بالقديم وما فيه من مآثر كتب لها الخلود.
وقد كان اليونان قبل أن ينشأ فن التمثيل، وقبل أن ينشأ فن الغناء نفسه، يتقربون إلى آلهتهم بإنشاد الشعر القصصي والاستماع له. ثم نشأ الغناء فتقربوا به إلى الآلهة، يتغنون حياة الأبطال وحياة الآلهة وما عرض لهم فيها من خير وشر؛ ثم نشأ فن التمثيل فتقربوا به إلى الآلهة كما كانوا يتقربون بالقصص والغناء. ومن أجل هذا كله تغيرت صور الفن الشعري عند اليونان ولم يتغير موضوعه؛ فالأبطال والآلهة هم موضوع القصص في الإلياذة والأودسة، وهم الموضوع الأساسي لغناء المغنين، وهم الموضوع الأساسي لتمثيل الممثلين أيضا.
ومع ذلك فتغير الصورة له خطره العظيم وإن بقي الموضوع ثابتا مستقرا؛ ذلك أن الصورة لم تتغير إلا لأن النفس اليونانية قد تغيرت بحكم ما أحاط بالشعب اليوناني من الظروف. فقد كان القصص اليوناني صورة لحياة الجماعة لا يكاد يظهر فيها من الأفراد إلا شخصية الآلهة والأبطال، بل لا تظهر فيها شخصية الشاعر نفسه.
فلما ارتقت الحضارة وذكت القلوب وقويت شخصية الفرد، تغيرت صورة الشعر، فظهر شخص الشاعر أولا، وأصبح الشعر لا يضاف إلى شاعر مجهول يسمى هوميروس مهما يكن موضوعه، وإنما يضاف إلى شعراء معروفين يراهم الناس ويتحدثون إليهم ويتحدثون عنهم، وأصبح الشعر لا يصور الآلهة والأبطال الممتازين وحدهم، وإنما يصور شخصية الشاعر نفسه، ويصور معها شخصية كثير من الأفراد وما يجدون من لذة وألم، ومن حب وبغض، ومن عاطفة وشعور بوجه عام. ثم أصبح الشعر لا ينشد إنشادا يسيرا تسنده بين حين وحين نغمات ساذجة توقع على أداة ساذجة من أدوات الموسيقى، وإنما ينشد إنشادا معقدا يتشكل فيه الصوت بالأشكال المختلفة التي يقتضيها الغناء، وتسنده وتريح منه أحيانا أدوات موسيقية كثيرة مختلفة، ويسنده الرقص أيضا بحيث يوشك أن يشبه الأوبرا في عصرنا الحديث، لولا أنه كان يخلو من حركة التمثيل.
ثم تتقدم الحضارة، ويرقى العقل، وتقوى الشخصية، وتظفر الشعوب في المدن بحقوقها السياسية، فتتغير صورة الشعر؛ وإذا الحوادث التي كانت تقص في الشعر القصصي، وتغنى في الشعر الغنائي، قد أصبحت تعرض على النظارة في ملعب التمثيل يجريها الشاعر على أيدي أشخاص يمثلون الأبطال والآلهة أنفسهم. وهذا التمثيل نفسه لا يخلو من الغناء والرقص توقعهما الجوقة، وقد يشارك فيهما كليهما أو أحدهما الممثلون. وقد أصبح جمهور النظارة ذا شأن خطير؛ فهو يشارك في حفلات التمثيل لا بشهود التمثيل فحسب، ولكن كذلك بالقضاء بين المستبقين من الشعراء الممثلين. وقد كان الشعراء يشاركون بأنفسهم في التمثيل أول الأمر، ثم نشأت طائفة الممثلين المحترفين، وجعل الشعراء يكتفون بإنشاء الشعر وإرشاد الممثلين وأعضاء الجوقة.
كذلك كانت الحال في القرن الخامس قبل المسيح حين عرض الشعراء الثلاثة الممتازون: إيسكولوس
Eschyle
وسوفوكل
Sophocle
وأوريبيد
Euripide
لحياة الأبطال والآلهة؛ فعرضوها في الملاعب على النظارة من الأثينيين.
وكان من نتيجة هذا كله أن هؤلاء الشعراء وغيرهم من الشعراء الممثلين كانوا يرون من الطبيعي والمألوف أن يعرضوا للموضوعات التي سبقهم إليها القصاص والمغنون، فينشئوا فيها قصصهم التمثيلي، بل كان من الطبيعي والمألوف أن يعرض المتأخر منهم لما عرض له المتقدم، لا يجدون في ذلك حرجا، بل يجدون فيه سبيلا إلى الإجادة والإتقان.
فقصة أوديب مثلا قد عرض لها إيسكولوس، ثم عرض لها بعده سوفوكل، ثم عرض لها بعدهما أوريبيد، ثم عرض لها شعراء آخرون من اليونان؛ لم يجد أحد في ذلك حرجا.
وهذه السنة التي سنها اليونان قد انتقلت منهم إلى غيرهم من الأمم؛ فالرومان في العصر القديم حين حاولوا التمثيل اتخذوا أكثر الموضوعات لقصصهم من التمثيل اليوناني نفسه؛ فقصة أوديب مثلا عرض لها منهم غير شاعر، وامتازت قصة سينيك
Sénèque
من هذه القصص التي وضعها الشعراء اللاتينيون. وجرى الأمر على ذلك بعد النهضة الأوروبية في العصر الحديث، فاستعار شعراء التمثيل من الإنجليز والألمان والإيطاليين والفرنسيين خاصة موضوعات شعرهم التمثيلي من تمثيل اليونان والرومان.
وقد وضع الشاعر الإنجليزي دريدن
Dryden
في القرن السابع عشر قصة أوديب، كما وضع الشاعر الإيطالي ألفييري
Alfieri
في القرن الثامن عشر قصة أوديب أيضا. أما الفرنسيون فقد فتن شعراؤهم وكتابهم بقصة أوديب منذ أواخر القرن السادس عشر إلى الآن. ولست أحصي شعراءهم الذين عرضوا لهذه القصة، وإنما أذكر أن كورني
Corneille
قد وضع قصة تمثيلية لأوديب فتن بها معاصروه، وأن فولتير
Voltaire
قد وضع في أول القرن الثامن عشر قصة لأوديب كثر حولها الحديث والنقد، وأن شاعرين فرنسيين هما دي سيس
Ducis
وشينيه
M. J. Chénier
1
وضعا قصتين لأوديب في آخر القرن الثامن عشر وأول القرن التاسع عشر.
أما في هذا القرن العشرين؛ فقد عني بأوديب الكاتب الفرنسي العظيم أندريه جيد
André Gide
في القصة التي نترجمها في هذا السفر، كما عني به الكاتب الشاعر المعروف جان كوكتو
Jean Cocteau
في قصته المشهورة «أداة الجحيم».
فأنت ترى أن السنة اليونانية التي أتاحت للشعراء ألا ينفروا مما سبقوا إليه قد أصبحت سنة أدبية إنسانية شائعة على اختلاف العصور. وأنت ترى كذلك أن قصة أوديب وحدها قد شغلت شعراء كثيرين في الأمم المختلفة على اختلاف العصور، وما زالت تشغل الشعراء والكتاب إلى الآن. وأكبر الظن أنها ستشغلهم دائما.
3
ولا أكاد أذكر من القصص اليوناني القديم الذي شغل به المحدثون شيئا تجاوز القرن السابع عشر والثامن عشر إلا قصة «أفجيني في توريس»
Iphigénie en Tauride
التي عني بها جوت، وقصصا قليلة أخرى طفت في القرن العشرين، أعظمها خطرا قصة «أوديب» هذه وقصة «إلكتر»
Electre
و«أمفتريون»
Amphytrion ، وقد جددهما جان جيرودو
Jean Giraudoux ، وقصة أنتيجون، وقد جددها جان كوكتو بين الحربين، ثم جددها جان أنوي
Jean Anouilh
في هذه الأعوام الأخيرة. وهناك قصص تمثيلية معاصرة جددت أو حاولت أن تجدد بعض القصص التمثيلي اليوناني القديم، ولكنها لم تبلغ الملعب أو لم تظفر فيه بفوز باهر ونجح عظيم.
ولعل المحدثين المعاصرين يؤثرون أن يشهدوا القصص اليوناني يعرض عليهم كما تركه أصحابه مع قليل أو كثير من التغيير، إلا أن يوجد الكاتب الممتاز الذي يستطيع أن يدل بالقصة اليونانية على أكثر مما وصل إليه الشاعر اليوناني القديم، أو أن يعرضها في شكل أشد ملاءمة لروح العصر الحديث.
وهذا هو الذي فعله جيرودو حين اتخذ إلكتر رمزا لا للانتقام وحده كما فعل القدماء، بل للعدل أيضا؛ للعدل الذي يجب أن تبلغه الإنسانية، وأن تضحي فيه بكل شيء مهما تكن التضحية قاسية، ومهما تكن الضحية غالية، والذي لا يحفل بانثلال العروش، وانهيار النظم، وإزهاق النفوس، وسفك الدماء، وصب الدمار على المدن، بل يرى في ذلك كله إيذانا بطلوع فجر جديد.
وكما فعل جان بول سارتر
Jean-Paul Sartre
في قصة «الذباب» حين أراد أن يجدد مأساة إلكتر فجعل أخاها هو البطل، ولم يكتف بفكرة الانتقام من الأم التي خانت زوجها وقتلته، ولا بفكرة العدل التي قصد إليها ووقف عندها جيرودو، ولكنه عني بالحرية الإنسانية التي وقفت أورست موقف الثائر على ذوس
Zeus
المعارض له، والتي تقف الإنسان الحديث موقف الثائر على كل شيء، المزدري لكل شيء إلا حريته التي تجعله إنسانا يوجد ليعمل ما يشاء أن يعمل، وليقول ما يشاء أن يقول، غير حافل إلا بنفسه، ولا واقف إلا عند نفسه.
إلى شيء من هذا التجديد الأساسي الخطير قصد أندريه جيد حين وضع قصته التمثيلية «أوديب» مجددا هذه القصة كما تركها سوفوكل، غير واقف عند ما انتهى إليه سوفوكل، ولا حافل بما بلغه كورني أو فولتير أو غيرهما من الشعراء والكتاب المحدثين.
وقد يحسن أن نتبين قبل كل شيء إلام أراد سوفوكل حين وضع قصته هذه التي صور فيها مأساة أوديب. وقد أضاعت الأيام ما ترك إيسكولوس وأوريبيد وغيرهما من الشعراء القدماء حول هذا الموضوع، بحيث أصبحت قصة سوفوكل هي النموذج القديم الوحيد الذي ألهم المحدثين من الأوروبيين.
وواضح أن سوفوكل إنما قصد في هذه القصة كما قصد في أكثر قصصه الأخرى إلى ما يصور لنا صرامة القضاء من جهة، وحرية الإنسان من جهة أخرى، وإلى أن يلائم بين هذين الضدين المختصمين على نحو ما. فالقضاء صارم قاس بالقياس إلى أوديب وإلى أبويه في هذه القصة، وهو صارم قاس بالقياس إلى أبنائه في قصة أخرى هي قصة أنتيجون.
القضاء صارم قاس؛ لأنه قد كتب في غير حكمة بينة للإنسان على لايوس أن يموت مقتولا بيد ابنه، وكتب على جوكاست أن تقتل نفسها بعد أن تتورط في إثمها ذاك البشع الشنيع، وكتب على أوديب أن يكون قاتلا لأبيه متزوجا لأمه، مسببا لموتها فاقئا عينيه بيده.
ومن البين أن أحدا من هؤلاء الأبطال لم يكن حاضرا حين كتب القضاء ما كتب، ولم يقترف قبل وجوده إثما يغري به القضاء، ويسلط عليه قسوة الأقدار. فهناك إذن علة خفية لا يدركها الإنسان، تدفع القضاء إلى أن يدبر أمر الناس والآلهة كما يشاء.
ومن يدري! لعل هذه العلة الخفية لا وجود لها، ولعل القضاء يمضي كما يريد لا يخضع لقانون، ولكنه على كل حال صارم قاس بالقياس إلى الآلهة والناس جميعا. غير أن الإنسان ليس خاضعا خضوعا كاملا شاملا مستسلما لهذا القضاء، وإنما هو مستمتع بشيء من الحرية قد يكون قليلا، وقد يكون ضئيل الأثر، وقد لا يكون له أثر ما، ولكنه موجود على كل حال. وآية ذلك أولا أن الإنسان يريد أن يعرف ما أضمر له القضاء، يعمل في ذلك عقله، ويستنبئ عن ذلك وحي الآلهة؛ فهو إذن لا يخضع لأحكام القضاء غير عالم بها، أو غير مفترض لوجودها كما يخضع لها الحيوان، وكما تخضع لها الكائنات الأخرى التي تأتلف منها الطبيعة. وليس قليلا أن يتلقى الإنسان ما كتب له من خير وما قضي عليه من شر وهو عالم به وعالم بالمصدر الذي يسوقه إليه أو يسلطه عليه.
وهناك آية ثانية على حرية الإنسان أمام القضاء؛ فهو لا يطمئن إلى العلم بما كتبت الأقدار عليه، وإنما يحاول أن يخلص مما قضي عليه من الشر. وليس المهم أن ينجح أو يخفق في هذه المحاولة، وإنما المهم أن يحاول. فلايوس وجوكاست يعلمان أن ابنهما سيقتل أباه ويتزوج أمه، فيحاولان التخلص من هذا الشر بقتل الصبي قبل أن ينمو ويقترف هذه الآثام، ولا عليهما بعد ذلك أن يفلت الصبي مما دبرا له من الموت.
وأوديب يعلم بما دبر القضاء له؛ فيفر من قصر الملك في كورنت محاولا أن يتجنب الإثم، ولا عليه بعد ذلك أن يقتل لايوس، فلو قد عرف أنه أبوه لما قتله، ولا عليه أن يتزوج جوكاست، فلو قد عرف أنها أمه لما اقترن بها.
وهناك آية أخرى على حرية الإنسان أمام القضاء، وهي أعظم من هاتين الآيتين خطرا، وهي التي يصورها لنا سوفوكل في قصة «أوديب ملكا»، ولكنه يصورها تصويرا أعظم روعة وأكثر جلاء في قصته الأخرى «أوديب في كولونا»، وهي أن الإنسان حين يعجز عن رد القضاء لا يرى نفسه منهزما، ولا يرى نفسه مسئولا عما تورط فيه من الإثم؛ فهو يؤمن بأن التبعة يجب أن تكون نتيجة للحرية، وأن يكون حظ الإنسان من هذه التبعة ملائما لحظه من الحرية، فأوديب تدفعه الغريزة الإنسانية الأولى كما تدفعه التقاليد الموروثة إلى أن يعاقب نفسه حين يستكشف الإثم المروع الذي تورط فيه. ولكنه بعد شيء من التفكير يستطيع أن يثبت للقضاء، وأن يقف من الآلهة موقف المدافع عن نفسه المحتج لها؛ لأنه لم يرد قتل أبيه، ولم يقتله وهو يعلم أنه أبوه، ولم يرد الزواج من أمه، ولم يتزوج منها وهو يعلم أنها أمه.
فإن كان في هذا كله إثم فليس هو المسئول عن هذا الإثم، وإنما يسأل عنه القضاء الذي دبره، والآلهة الذين ضللوا أوديب حتى تورط فيه على كثرة ما حاول تجنبه والتخلص منه. هو إذن بريء أمام نفسه، ولا عليه أن يراه الناس بريئا أو أن يتهموه ويحكموا عليه.
على أن أوديب لا يكتفي بذلك، وإنما يريد أن يقنع القضاء والآلهة أنفسهم ببراءته، وهو يبلغ من ذلك ما يريد؛ فقد رضي الآلهة عنه آخر الأمر فآووه إلى هذه الضاحية من ضواحي أثينا، وألقوا عليه السكينة، وأشاعوا في نفسه الطمأنينة والأمن، وجعلوا جثته مصدر بركة للبلد الذي تدفن فيه، وهم قد عاقبوا مدينة ثيبا فأثاروا فيها الفتنة بين الأخوين الملكين، وحرموها هذه البركة المتصلة بشخص أوديب حين قضوا أن يموت غريبا، وأن يدفن في بلد غريب.
وإذن فقد انتهت حرية الإنسان إلى شيء من الفوز، لم تستطع أن تجنب صاحبها المحنة، ولا أن تنقذه من الشر في هذه الحياة، ولكنها قد صفت نفسه، وطهرت قلبه، واستخلصته من الآثام كما يستخلص المعدن النقي مما يحيط به من الخبث. فليست هذه المحنة إذن إلا تجربة لحرية الإنسان، ووسيلة إلى تصفية نفسه، وتنقية جوهره إن استطاع أن يثبت للآلام وينفذ من الخطوب.
إلى هذا كله أراد سوفوكل حين كتب قصتيه اللتين صور في إحداهما محنة أوديب ملكا، وفي أخراهما نجاة أوديب منفيا بائسا طريدا. ويجب أن نعترف بأن الذين أرادوا أن يقلدوا سوفوكل لم يبلغوا مما أرادوا شيئا ذا خطر، لا أستثني منهم إلا المعاصرين من الكتاب الفرنسيين.
فالكاتب الشاعر الفيلسوف سينيك لم يضف إلى ما ابتكر سوفوكل شيئا، ولعله أضاع منه أشياء. وإذا كان لقصته شيء من جمال فأكبر الظن أنه إنما يأتيها من روعة الفصاحة اللاتينية، ومن بعض الخواطر الفلسفية العابرة.
أما كورني فقد كان مفتونا بقصته، ويظهر أن معاصريه منحوا قصته هذه غير قليل من الرضا والإعجاب. ولكن كورني فيما أعتقد قد أفسد قصة أوديب إفسادا عظيما؛ رأى أن يلائم بين القصة وبين ذوق البيئة التي كان يكتب لها، وقد لاحظ أن تلك البيئة لم تكن تتصور قصة تمثيلية تخلو من الحب ، ومن الحب الذي يكون له في المأساة نفسها أثر خطير. وليس في قصة سوفوكل حب أو شيء يشبه الحب، فاضطر كورني إلى أن يحدث حبا ذا خطر، واضطر من أجل ذلك إلى أن ينشئ للايوس بنتا تكبر أوديب سنا، وأن ينشئ بين هذه الفتاة وبين ثيسيوس
Thésée - ملك أثينا - حبا، وأن ينشئ بين هذه الفتاة وبين أوديب خصومة حول هذا الحب من جهة وحول العرش من جهة أخرى.
فلم تكن الفتاة تعرف أن أوديب أخوها، وهي من أجل ذلك كانت تراه غاصبا لعرش أبيها، ولم يكن أوديب يعرف أن الفتاة أخته؛ فكان يؤثر أن يزوج ملك أثينا من إحدى ابنتيه. وكانت جوكاست حائرة بين بناتها الثلاث وبين زوجها.
والغريب أن كل هذه الخصومات حول الحب والغيرة كانت تشغل الملك والملكة والحاشية والقصر كله في نفس الوقت الذي كان الوباء يعصف فيه بالمدينة عصفا شديدا، ولا نشغل بالقصة نفسها إلا حين توشك الفصول أن تنتهي؛ هنالك تثار العقدة، ويعلم الملك ومن حوله أن الآلهة غضاب، وأن هناك مجرما يجب أن ينزل به العقاب، ثم يستبين للملك أنه هو المجرم؛ فلا يفقد صوابه ولا يأخذه الهول، وإنما يتحدث إلى أخته في حبها لملك أثينا، وفي زواجها من هذا الملك، ثم يعصف الندم بنفسه آخر الأمر حين تموت جوكاست فيفقأ عينيه.
وقد لاحظ كورني كذلك أن البيئة التي كان يكتب لها كانت من الترف ورقة الشعور بحيث كان يسوءها أن يظهر أمامها أوديب دامي الوجه بعد أن فقأ عينيه، فلم يظهر الملك أمام النظارة، وإنما قص آخرته وآخرة الملكة عليهم في شعر قد يكون جميلا رائعا، ولكنه لا يغني عن الصورة الماثلة أمام النظارة شيئا.
وقصة كورني بعد ذلك لا تضيف فكرة جديدة إلى القصة اليونانية. ولست أدري أمن الحق أن تسمى أوديب، أم من الحق أن تسمى درسيه
Dircée ، وهو اسم الفتاة التي اخترعها كورني، والتي تدور عليها القصة وعلى حبها أكثر مما تدور على أوديب وعلى محنته.
وقد نقد فولتير قصة سوفوكل نقدا مفصلا مسرف التفصيل، قاسه بمقياس العصر الذي كان يعيش فيه؛ فأظهر القصة اليوناينة منحلة متهالكة لا قوام لها من منطق ولا من دقة، ولا تكاد تظفر بحظ من إتقان. ثم عطف على قصة كورني، فلم يعفها من النقد اللاذع الشديد. ثم أذاع قصته هو؛ فإذا هي شر من قصة كورني، لم تضف إلى القصة اليونانية جديدا، ولم تظفر من الجمال اللفظي بما ظفرت به قصة كورني العظيم.
ويكفي أن نلاحظ أن فولتير قد وقع في نفس التخليط الذي وقع فيه كورني؛ أراد أن ينشئ حبا في هذه المأساة؛ لأن البيئة الفرنسية التي كان الأدباء يكتبون لها كانت تريد الحب في التمثيل.
أراد أن ينشئ حبا إذن، فلم يجعل للايوس بنتا كما فعل كورني، ولكنه استكشف لجوكاست عاشقا قديما هو فيلوكتيت
، وقد عاد فيلوكتيت إلى ثيبا ليعيش قريبا من عشيقته، ولكنه يعلم أن زوجها قد قتل، فيستأنف حبه القديم ثورة جامحة، إلى آخر هذا العبث الذي لا يزن شيئا بالقياس إلى جد الشاعر اليوناني العظيم.
على أن من الحق أن نعتذر عن فولتير؛ فقد كان في التاسعة عشرة من عمره حين أنشأ هذه القصة. والشيء المحقق أن الشاعرين الفرنسيين قد عنيا بالبيئة أكثر مما عنيا بالموضوع؛ فأرضيا قوما كانوا يحبون أن يلهوا، ويكرهون أن يشقوا على أنفسهم بالتأمل والتفكير فضلا عن أن يشقوا على أنفسهم بالنظر إلى المناظر التي تؤذي شعور الغانيات المترفات.
ولأدع ما حاول الشعراء والكتاب بعد فولتير من تجديد قصة أوديب؛ لأصل إلى هذه المحاولة الأخيرة التي أقدم عليها أندريه جيد وجان كوكتو بين الحربين.
وهما قد أقدما على هذه المحاولة في وقت واحد، لم يسبق أحدهما صاحبه، ولم يعلم أحدهما بمحاولة صاحبه إلا بعد أن أظهر كل منهما قصته.
والفرق عظيم جدا بين القصتين؛ فأما جان كوكتو فيسرف في التجديد والابتكار إسرافا شديدا لا يدعوه إليه تعمق الفكرة التي تدور القصة حولها، وهي فكرة الصراع بين سلطان القضاء وحرية الإنسان، وإنما يدعوه إليه الفن نفسه، الفن الخالص الذي يروع النظارة ويبهرهم ويحرص على أن يسحر أعينهم وآذانهم وعقولهم أكثر مما يحرص على أن يدعوهم إلى التأمل والتعمق والتفكير.
فجان كوكتو ليس متهالكا على الجد ولا ممعنا فيه، ولعله يبغض التقيد بأصول الفن المقررة، فأحرى أن يبغض التقيد بقصة الشاعر اليوناني القديم، وهو من أجل ذلك يبتكر بطلا جديدا هو أوديب، ويحيطه بظروف توشك ألا تستبقي من اليونانية إلا الأسماء دون الحقائق، وهو يعقد قصته تعقيدا ويخالف فيها بين المناظر والفصول، لا يتقيد بوحدة في الزمان، ولا في المكان، ولا في الحركة، وإنما يكتفي بوحدة الموضوع.
فقصته تبدأ منذ قتل لايوس، وتنتهي بعد أن يفقأ أوديب عينيه؛ وإذن فهي تستغرق نحو عشرين سنة. تبدأ القصة حين تعرف المدينة مصرع الملك من جهة، وحين يمتحنها أبو الهول بلغزه من جهة أخرى. ونحن نرى في الفصل الأول ظل الملك القتيل يظهر لبعض الجند، يريد أن يرى الملكة والكاهن ليحذرهما من خطر عظيم. ونحن نرى الملكة والكاهن يصعدان إلى حيث كان يظهر ظل الملك القتيل؛ فنرى ملكة شابة حلوة الدعابة خفيفة الروح، خائفة من ظل زوجها، خائفة من الأحداث التي يمكن أن تلم بها، محبة مع هذا كله للحياة ولذاتها، لا تكره أن تداعب الكاهن الذي يداعبها أيضا، ولا تكره أن تلاعب الجندي الشاب الذي رأى ظل الملك القتيل، وتظهر ميلا شديدا إليه.
ونحن نرى في فصل آخر ما يكون من الصراع بين أوديب الفتى المغامر وبين أبي الهول، ثم ما يكون من انتصار الفتى. ونحن نرى في فصل ثالث زفاف جوكاست إلى الملك الشاب ونشهد أول الشر؛ فالكاهن محنق على أوديب مشفق منه، وليس كريون أقل منه حنقا ولا إشفاقا.
ثم نرى نحن آخر الأمر ظهور الحقيقة ومصرع جوكاست، ونرى أوديب وقد فقأ عينيه، ونفى نفسه من الأرض، وهم أن يخرج من القصر تقوده ابنته أنتيجون، وإذا ظل أمه وزوجه جوكاست يظهر، فيراه أوديب الضرير ولا يراه المبصرون من حوله، ويتحدث فيسمعه أوديب ولا يسمعه الآخرون من حوله، وإذا جوكاست تنبئ ابنها بأن الموت قد طهرها من الزوجية الآثمة، ولم يبق لها إلا الأمومة البرة، وهي قد أقبلت لتقود ابنها إلى منفاه وتعينه على احتمال الغربة.
فالقصة كما ترى رائعة بما فيها من اختلاف المناظر وبراعة الاختراع وحسن التحدث إلى الحس والشعور. ويظهر أن هذا كله يرضي الجمهور الضخم من النظارة الباريسيين. فأما التحدث إلى العقل، وأما مواجهة المشكلات العليا، وأما الصراع بين الدين والحرية؛ فأشياء لم يكن يحفل بها جان كوكتو، ولم يكد يحفل بغيرها أندريه جيد؛ فأندريه جيد متتبع لسوفوكل في مجرى قصته، لا يخرج عن الخطة التي رسمها الشاعر القديم منذ خمسة وعشرين قرنا. ولكن أوديب الذي ينشئه أندريه جيد رجل قد تم نضجه الفلسفي بأرقى معاني هذه الكلمة في القرن العشرين؛ يظهر في أول القصة مستجمعا شخصيته كلها، مستكملا قوته كلها، متحديا للناس متحديا للآلهة، لا يؤمن إلا بنفسه، يعلن إلى النظارة أنه رجل سعيد، قد عمر أربعين سنة وملك عشرين عاما، واكتسب سعادته اكتسابا لم يرثها عن أحد؛ ويوشك هذا الاعتداد بالنفس أن يدفعه إلى الغرور، وهو من أجل ذلك يخادع نفسه ويزعم لها غير مخلص أن الآلهة قد أعانوه، لا يريد بهذا الخداع إلا أن يتجنب الغرور الذي كثيرا ما ورط الناس في الشقاء.
فالفكرة الأساسية في قصة أندريه جيد هي اعتداد الإنسان بنفسه، وثقته بحريته، واعتماده على قدرته التي تمكنه من اقتحام المصاعب وتذليل العقاب. وهذا الاعتداد بالنفس يسوء الناس جميعا؛ فالجوقة التي تمثل الشعب ضيقة بهذا الغرور مشفقة منه على مصير المدينة، ويدفعها إلى الإشفاق والخوف هذا الوباء الذي يصب على المدينة بلاء عظيما.
وقد أخذ الشعب الذي كان مفتونا بالملك يتطير به ويهم في أن يكيد له بعض الكيد ليصرف إليه وحده غضب الآلهة من دون المدينة. والكاهن ساخط على الملك؛ لأنه لا يخلص دينه للإله، بل لا يؤمن بالإله. وأبناء أوديب قد اختلفت أهواؤهم: فأما الشابان فقد تأثرا بأبيهما، فهما لا يؤمنان بشيء، ولا يرجوان لشيء وقارا، ولا يكرهان أن يصبوا إلى أختيهما، وأن يتحدثا إليهما كما يتحدثان فيما بينهما بهذه الصبوة الآثمة.
أما أنتيجون وجوكاست فمتأثرتان بالكاهن إلى أبعد حد، حتى إن الفتاة لتوشك أن تهب نفسها للإله. وأما كريون فناعم بالحياة في هذا القصر لا يحب أحدا ولا يكره أحدا، وإنما يحب نفسه، ويحب الحياة، ويستمتع بما يتاح له من لذاتها، ويحافظ على التقاليد ما وسعته المحافظة.
وعقدة القصة كلها هي الاختلاف بين أوديب الذي يعتد بنفسه حتى يبلغ الغرور وحتى يجحد الآلهة، والكاهن الذي يريد أن يبسط سلطان الدين، وأن يسيطر من طريق هذا السلطان على كل شيء، وعلى كل إنسان، وعلى نفس الملك خاصة. وليس الوباء الذي ألم بالمدينة، وليس البحث عن مصدر هذا الوباء، وليست استشارة الآلهة لتعرف هذا المصدر، وليس استكشاف المجرم الذي قتل أباه وتزوج أمه؛ ليس هذا كله إلا مظاهر لهذا الصراع بين حرية الإنسان واعتداده بنفسه حتى يبلغ الغرور، وبين سلطان الإله وتفوقه على غرور الإنسان.
فإذا تبينت الحقيقة وعرف أوديب أن سعادته لم تكن إلا غرورا، وأن انتصاره على أبي الهول لم يكن إلا سرابا، وأن ملكه الذي أسسه ونعم به لم يكن إلا امتحانا؛ إذا عرف أوديب هذا كله، ورأى امرأته وأمه قد قتلت نفسها، ورأى نفسه قد فقأ عينيه بيديه، ظن الكاهن تيرسياس
Tirésias
أن الإله قد انتصر على غرور الإنسان، وأن أوديب قد ثاب إلى رشده، وأذعن لسلطان الدين.
ولكن أوديب لم يخرج عن كبريائه، ولم يستسلم للمحنة، ولم يعترف بالهزيمة، وإنما ثبت للخطب، بل هو لم يفقأ عينيه إلا تحديا لنفسه وللناس وللألم، ومحاولة لبناء مجد جديد من طراز آخر معنوي غير هذا المجد الزائل الذي كسبه حين قهر أبا الهول وأسس الملك.
وهو حين ينفي نفسه من الأرض لا يفارق المدينة منهزما ولا مخذولا، وإنما يفارقها يائسا. لم يقهر اليأس نفسه وإنما رفعها فوق الناس وفوق أعراض الحياة، وهو ينصرف ساخرا من الشعب الذي أحبه، ثم كرهه، ثم أخذ يتملقه حين عرف أن بركة الآلهة متصلة بشخصه، وينصرف ساخرا من كريون المحافظ الذي يرى الملك كل شيء، وينصرف ساخرا من ابنيه اللذين لا يفكران في الحياة إلا على أنها وسيلة إلى المتاع، وينصرف ساخرا من الكاهن الذي يعظه ويريد أن يحمله على الندم؛ فهو لا يرى أنه قد فعل شيئا يمكن أن يندم عليه.
هذه هي القصة التي وضعها أندريه جيد، وهي كما ترى قريبة جدا من القصة اليونانية في موضوعها وفي غايتها، بعيدة جدا من القصة في صورتها من ناحية، وإن احتفظت بالجوقة، وفي إتقانها للتفكير، وتجنبها للتكلف الشعري الغنائي الذي قد يروق ويعجب، ولكنه لا يغني عن التفكير العقلي شيئا.
ولست أدري أمخطئ أنا أم مصيب، ولكني أعتقد أن هاتين القصتين: قصة سوفوكل وقصة أندريه جيد هما وحدهما اللتان تشهدان بأن محنة أوديب خليقة حقا بأن تكون موضوعا للتفكير الذي يغذو العقل، والفن الذي يغذو القلب، وبأن تكون من أجل ذلك صالحة لتفكير الفلاسفة وابتكار الأدباء على مر العصور واختلاف الأجيال.
وقد يكون مما تمتاز به قصة أندريه جيد من القصص الأخرى التي حاولت تجديد القصة اليونانية أنها لم تقف عند قصة أوديب ملكا، ولكنها ألمت من قريب جدا بالقصة الثانية التي وضعها سوفوكل، وهي قصة أوديب في كولونا.
وكان إلمامها بهذه القصة رائعا حقا، لا أكاد أعرف شيئا يشبهه في جمال الإيجاز ودقته وكفايته، بحيث يستطيع قارئ هذه القصة أن يستوعب أمر أوديب كله في غير مشقة ولا جهد.
فقصة أوديب ملكا تنتهي حين تموت جوكاست، ويعاقب أوديب نفسه، ويعلن أنه سيهاجر من وطنه. وقد رضي كريون عن هذه الهجرة، وابتهج بها الشعب، وسكت عنها ابنا أوديب الطامعان في الملك اللذان اتفقا قبل أن يمتحن أبوهما على أن يكون الملك دولة بينهما، وأزمعت أنتيجون أن تصحب أباها في منفاه، وقررت إسمين أن تلحق بهما بعد قليل.
ولكن الكاهن يعلن فجأة أن الآلهة قد أوحوا إليه أنهم يصلون البركة بشخص أوديب ويكتبونها للأرض التي يدفن فيها بعد موته، وإذا كل شيء يتغير إلا رأي أوديب، فكريون يطلب إليه البقاء ملحا في طلبه، والشعب يطلب إليه البقاء متملقا مترضيا، ولكن أوديب يسخر من إلحاح كريون، وتملق الشعب، وتوسل الكاهن، ويمضي إلى منفاه ساخرا من هؤلاء جميعا.
وفي هذا الحوار القصير اليسير يوجز أندريه جيد خير ما في القصة اليونانية الثانية بحيث يخرج القارئ من قصة أندريه جيد وقد عرف من أمر أوديب كل شيء: عرف بدء القصة وخاتمتها، وعرف مكر الآلهة وغرور أوديب، وعرف المحنة والمقاومة، ثم عرف عفو الآلهة وانتصار الإنسان.
4
والظاهر أن أندريه جيد قد فكر في قصة أوديب قبل أن يحاول إنشاءها بوقت طويل؛ فهو معني بأساطير اليونان، يطيل التفكير فيها والحديث عنها، ويلفته إليها بنوع خاص أنها مهما تكثر فيها الأعاجيب وخوارق العادات ومخالفة المألوف من قوانين الطبيعة تنتهي دائما إلى شيء من المنطق يردها إلى العقل، وإلى ما يحمل العقل على التروية والتفكير فيما يفسر حياة الإنسان، أو يتصل بمصيره أو بموقفه من القضاء.
نراه يكتب في ذلك بعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى سنة 1919.
ثم نراه ينشئ قصة أوديب نحو سنة 1930، فإذا كانت الحرب العالمية الثانية، وهاجر إلى أفريقية الشمالية، نراه ينشئ قصته الثانية التي نترجمها مع قصة «أوديب»؛ وهي قصة «ثيسيوس». وهو ينبئنا في إهداء هذه القصة بأنه كان يفكر في كتابتها منذ زمن طويل.
والواقع أنه يتحدث عن ثيسيوس وأسطورته في مقاله الذي أشرت إليه آنفا، والذي كتب سنة 1919. فهو إذن يفكر في هذه القصة الثانية قبل أن يكتبها بأكثر من عشرين سنة.
والتفكير في هذا البطل الأثيني لا يستقيم عند أندريه جيد كما أنه لا يستقيم عند سوفوكل دون التفكير في أوديب. وحسبك أن تذكر أن أمر أوديب قد انتهى في القصة الثانية من قصتي سوفوكل بالتجاء البطل الممتحن إلى أتيكا والتماسه الأمن والجوار عند الملك الأثيني؛ فقد كان الشاعر اليوناني إذن يقرن أحد البطلين إلى صاحبه.
وكذلك صنع أندريه جيد، فسترى في آخر قصة ثيسيوس حديثا بين البطلين حين التقيا يدور كله حول مصيرهما. والواقع أن هذين المصيرين يختلفان أشد الاختلاف، ولكن كلا منهما يدعو على ذلك إلى التفكير في الآخر؛ فقد أتيح الفوز للبطل الأثيني منذ نشأته الأولى، وأتيح له على نحو متصل حتى كانت حياته كلها فوزا لم يعرف فيها الشقاء إلا قليلا، على حين بدأت حياة أوديب شقية مملوءة بالمحن، ولم يكن ما أتيح له من السعادة إلا غرورا.
على أن آخرة الرجلين تختلف أشد الاختلاف: فأما أعظمهما حظا من الشقاء وهو أوديب، فقد مات راضيا عن نفسه وعن الآلهة، مطمئنا إلى هذه السكينة التي أنزلت على قلبه. وأما أعظمهما حظا من السعادة - وهو ثيسيوس - فقد أنفق آخر أيامه منفيا طريدا، نفته الثورة عن وطنه، ولم يجد عند الملك الذي استجار به مثل ما وجد عنده أوديب من الثقة والأمن، وإنما وجد عنده المكر والغدر والموت.
فلا غرابة إذن في أن يفكر أندريه جيد كما فكر سوفوكل في الرجلين معا. ولا غرابة إذن في أن نجمع ترجمة القصتين في سفر واحد، وإن لم يفعل ذلك أندريه جيد؛ لأنه قد أنفق أكثر من عشر سنين بين إنشائه لهاتين القصتين.
على أني حين تحدثت إليه في الجمع بينهما في سفر واحد رضي عن ذلك كل الرضا. وقد عرفت منه في باريس أنه أشار على مترجمه الأمريكي بأن يصنع نفس هذا الصنيع؛ لأن القصتين تصدران عن تفكير واحد وعن موقف واحد أمام مشكلات الحياة. ومع ذلك فبين القصتين اختلاف عظيم في الصورة الفنية؛ إحداهما تمثيلية كتبت للمسرح، على حين أن الثانية نوع من المذكرات يقص فيها البطل الأثيني علينا حياته التي ملأتها المغامرة في ألوان من الدعابة الحلوة أحيانا والجد المر أحيانا أخرى.
ولا يشك قارئ القصتين في أن أولاهما قد كتبت حين كان أندريه جيد قويا سعيدا موفورا مستكملا شخصيته كأحسن ما يستكمل الكاتب شخصيته. كان في الستين من عمره، أو لم يكن قد جاوز الستين إلا قليلا، كان سعيدا بين أهله وأصدقائه، راضيا عن نفسه، وراضيا حتى عن مكر الناس به وكيدهم له وانتقاض بعضهم عليه.
أما القصة الثانية فقد كتبها بعد أن جاوز السبعين، بعد أن فقد زوجه وكثيرا من أصدقائه، وبعد أن خضع لألوان من الأزمات النفسية، وبعد أن ذاق وطنه الهزيمة، وذاقها هو أشد ما يكون ذوقها مرارة، وكتبها منفيا عن وطنه لا يعرف متى يعود إليه، بل لا يعرف أيتاح له أن يعود إليه. فهو مجاهد معاند متحد للأحداث والخطوب حين يكتب قصة «أوديب»، وهو هادئ مطمئن حزين باسم مع ذلك للأحداث والخطوب ساخر منها، مؤمن بنفسه، واثق بوطنه، ذائق حلاوة الصداقة حين يكتب قصة «ثيسيوس».
ولذلك نرى أوديب يفرض نفسه على الأيام ويتحدى الآلهة ويعاند القضاء، ويخرج من المحنة ظافرا يريد أن ينسى الماضي، وألا يفكر إلا في المستقبل، ونرى ثيسيوس قانعا راضيا مطمئنا لا يفكر إلا في الماضي يستحضر منه اليسير والخطير، ويجد اللذة في استحضار ما يستحضر، يتحدث به إلينا أو إلى نفسه، مستمتعا بهذا الحديث قبل أن نستمتع به نحن. لا يفكر في المستقبل، ولا يريد أن يفكر فيه؛ فهو لا ينتظر مستقبلا؛ لأن حياته قد أشرفت على غايتها. وأنت تجد هذا الحزن المطمئن في الأسطر الأولى من القصة حين ينبئك بأنه كان يريد أن يقص حياته ليجد فيها ابنه موعظة وعبرة وتعليما. ولكن ابنه قد مات، وهو يقص حياته مع ذلك؛ لمن يقصها؟ لنفسه أولا، ولمن شاء أن يقرأها من الناس بعد ذلك.
فهو قد تقدمت به السن، وسبقه أكثر أصدقائه وأحبائه إلى الموت؛ فأصبح عشير نفسه، لا يستطيع إن أراد أن يسري عنها إلا أن يقص عليها ما كان له في صباه وشبابه وكهولته من الأحداث، وما مر به من الخطوب، وما تعرض له من المغامرات، يحيا في وقت قصير حياته الطويلة، ويجدد بالذكرى ما اختلف على نفسه من لذة وألم، ومن أمن وخوف، ومن أمل ويأس.
وهو ينتهي آخر الأمر بالموازنة بين حياته وحياة صديقه أوديب، فيرى بعد التفكير الطويل أنه كان أسعد من صديقه حياة وأحسن حظا؛ لأن أوديب قد انتهى إلى الزهد في الحياة والنفور منها والفزع إلى هذا العالم الداخلي يجد فيه الأمن والرضا، على حين لقي هو الحياة كما عرضت على الأحياء، ولعب بالأوراق التي أتاح القضاء للناس أن يلعبوا بها.
يئس أوديب من الناس، واستيقن آخر الأمر أنه لن يجد عندهم خيرا ولن يقدم إليهم خيرا، ووثق هو بالناس واستيقن آخر الأمر أن الحياة النافعة القيمة هي التي لا تنتهي إلى الجدب، وإنما تنتهي وقد تركت من ورائها آثارا يدوم انتفاع الناس بها وذكرهم لها وثناؤهم على صاحبها.
وقد امتازت هذه القصة بما سترى فيها من هذه الدعابة الحلوة والسخرية الهادئة؛ فالبطل الأثيني يعرف الناس كما ينبغي أن يعرفوا: يعرف قوتهم ويعرف ضعفهم، ويعرف أن هذه القوة كثيرا ما تقوم على الضعف نفسه.
قيل له: إنه ابن الملك، وتحدث الناس بأنه ابن إله البحر، فهو يعتز بهذين النسبين: يعتز بنسبه إلى أبيه ليملك أثينا، ويعتز بنسبه إلى الآلهة ليملك قلوب الناس ويسحر عقولهم. وهو فيما بينه وبين نفسه يكاد يقطع بأنه ليس ابن هذا ولا ذاك، وبأن أباه غير معروف؛ فقد يحدثنا بلوتارك بأن كثيرا من هؤلاء الأبطال كانوا يولدون لغير أب معروف فينتسبون إلى الآلهة، ولا ينكر الناس من نسبهم شيئا لحسن بلائهم ولما يحققون من عظائم الأمور.
ويحدثنا ثيسيوس بأنه قتل رجلا كان يظن به السوء وقطع الطريق، ثم تبين بعد ذلك أنه كان رجلا خيرا نفاعا للناس، فكاد يندم على قتله. ولكن الشعب حين عرف أنه هو قاتله لم يتردد في أن يقرر أنه كان مجرما أثيما؛ وكذلك تذعن الشعوب لملوكها وتسبق إلى التماس المعاذير لهم حين يخطئون.
وما أكثر ما نرى في هذه القصة أخلاق أندريه جيد نفسه، فأبغض شيء إلى ثيسيوس أن يقيد نفسه بما يمنعه من العمل ومن التقدم إلى أمام؛ فهو يحب، ولكن بشرط ألا يمسكه الحب عند خليلة بعينها، وهو يصادق، ولكن بشرط ألا تقفه الصداقة عن أن يمضي لما يريد، وهو من أجل ذلك يتخلص من أريان
Ariane
بعد أن نجته من اللابيرانت
Labyrinthe
ويؤثر عليها أختها، كما أنه لا يحفل بمشورة صديقه بيريتوس
ولا يقف عند رأيه، وإنما يمضي لما أراد غير حافل بفقدان الصديق الذي أوشك أن يعوقه عما يرى فيه خيرا.
كل شيء في هذه القصة يصور حرص الملك على أن يحقق نفسه ويعتمد عليها، ولا يعتمد إلا عليها، ينفع الناس ولكن لا يعنيه أن يرضى الناس عنه أو يسخطوا، بل هو لا يكره أن ينفعهم على رغمهم.
وإذا كانت قصة أوديب تصور الشخصية القوية المجاهدة المعاندة التي لا تؤمن بشيء كما تؤمن بالحرية، ولا تحرص على شيء كما تحرص على الحرية، ولا تعرف الهزيمة، ولا تذعن للخطوب، فقصة ثيسيوس تصور الشخصية القوية التي جاهدت وعاندت وانتصرت على الأحداث والخطوب حتى إذا بلغت آخر الشوط نظرت إلى وراء بعد أن لم تكن تنظر إلا إلى أمام، فرضيت عن نفسها، وحمدت بلاءها، وانتظرت الموت آمنة مطمئنة.
والقصتان تنتهيان إلى غاية واحدة، ولكنها في الوقت نفسه مختلفة: فقد مات أوديب راضيا، ومات ثيسيوس راضيا أيضا، ولكن أحدهما وجد الرضا في العالم الداخلي الفلسفي، على حين وجد الآخر هذا الرضا في العالم الخارجي الإنساني. وما أعظم الفرق بين رضا مصدره اليأس من الناس، ورضا مصدره الثقة بالناس!
طه حسين
آثرت في هذا الكتاب إيراد الأسماء اليونانية كما ينطقها ويرسمها الفرنسيون. ويرى القارئ في آخر الكتاب تبيينا لما قد يحتاج إلى تبيين من هذه الأسماء.
أوديب
الفصل الأول
لقد ملئ العالم بالمعجزات، ولكن لا أشد إعجازا من الإنسان.
سوفوكل من حديث الجوقة في قصة أنتيجون
أوديب :
ها أنا ذا أحضر وقد استجمعت شخصيتي كاملة في هذه اللحظة من لحظات الزمان السرمدي، أشبه شيء بشخص يظهر على مقدمة المسرح قائلا:
أنا أوديب، قد عمرت أربعين سنة، وملكت عشرين عاما، وبلغت بقوة ذارعي قمة السعادة. لقد كنت لقيطا لا يعرف له أصل، ولا يحمل ما يثبت شخصيته، وأنا الآن أسعد الناس بأني لست مدينا بشيء لإنسان. لم توهب لي السعادة، وإنما أخذتها قسرا، وأنا من أجل ذلك عرضة للغرور، وقد أردت أن أتجنبه، فسألت نفسي: ألم يكن في أمري أثر للقضاء والقدر؟ أعمد بهذا السؤال إلى أن أعصم نفسي من دوار الكبرياء هذا الذي تزل له أقدام كثير من أبعد القادة صوتا، وأعظمهم امتيازا. ... هلم! هلم! يا أوديب! لا تغامر بنفسك في كلام طويل توشك ألا تحسن الخروج منه. قل في يسر ما تريد أن تقول، ولا تشع في ألفاظك هذا الورم الذي تحرص على أن تتقيه في حياتك، كل شيء يسير، وكل شيء يأتي في إبانه؛ فكن يسيرا وكن صائبا كالسهم. امض إلى غايتك في غير عوج ولا التواء ...
وهذا يردني إلى ما كنت أقول آنفا. نعم! إذا ظننت أحيانا أني صنيعة الآلهة، ومصدر ذلك رغبتي في التواضع والاعتدال، وفي أن أرد إليهم فضل ما كتب لي من تفوق، فمن العسير ألا يتعرض مثلي للغرور والكبرياء. وسبيلي إلى القصد أن أزعم أن فوقي قوة مقدسة أخضع لها راضيا أو كارها.
ومن ذا الذي لا يذعن مطمئنا لقوة مقدسة ترقى به إلى حيث بلغت! إن إلها يقودك يا أوديب، وليس في الأرض اثنان يشبهانك. بذلك أحدث نفسي في أيام الآحاد والأعياد، فأما في سائر الأيام فإني لا أجد الوقت للتفكير فيه. وما أنا وهذا كله؟ إني لسيئ التفكير، ليس حسن المنطق من خصائصي، وإنما أنا أصدر دائما عن الحدس.
من الناس من يسأل نفسه في كل فرصة، وفي كل موطن تزدحم فيه العربات: أيجب أن أتأخر؟ أمن حقي أن أمضي إلى أمام؟ أما أنا فأمضي في حياتي كأن إلها يرشدني إلى ما أريد. (الجوقة في مقدمة المسرح وقد انقسمت قسمين؛ أحدهما عن يمين، والآخر عن شمال.)
الجوقة (بقسميها) :
نحن الجوقة، التي كلفت في هذا المكان أن تمثل رأي أضخم عدد ممكن من الناس، نعلن دهشنا وحزننا أمام هذه الشخصية الممعنة في إيمانها بنفسها. فهذا الشعور الذي يظهره أوديب لا يقبل من غيره إلا إذا ألقي من دونه جحاب.
وليس من شك في أن من الخير للإنسان أن يترضى الآلهة. ولكن أقوم السبل إلى ذلك أن ينحاز إلى رجال الدين، وإن أوديب ليحسن إذا استشار تيرسياس؛ فهو الذي يمسك إرادة الآلهة. إن أوديب ليظهر العناية بنا، وهو يوشك أن يغضب الآلهة علينا، ولعله أن يكون مصدر هذه الآلام التي تبهظنا الآن (في صوت خافتة)
سنشتري رضاهم ببعض الضحايا التي لا يرتفع ثمنها، وببعض الصلوات التي يحسن توجيهها، وسنباعد ما بيننا وبين ملكنا فنحول إليه وحده العقاب على هذه الكبرياء التي تستوجب العقاب.
جوقة اليمين (إلى أوديب) :
لا يشك أحد في أنك سعيد، وإن كنت تسرف في إعلان هذه السعادة، ولكننا نحن لسنا سعداء، نحن شعبك. أي أوديب نحن شعبك لسنا سعداء. وددنا لو نخفي هذا عليك، ولكن هذه القصة لن تأخذ طريقها إلا إذا حدثناك بنبأ مروع. إن الطاعون - ما دام يجب أن نسميه باسمه - ما زال ماضيا في دفع المدينة إلى الحداد؛ وقد عوفيت منه أسرتك إلى الآن، ولكن من الملائم ألا يغضي الملك عما يصيب أمته من الرزايا، وإن لم يصبه منها طرف.
جوقة الشمال :
على أننا لا نكاد نشك في أن بين سعادتك وشقائنا صلة خفية، بذلك تلمح لنا أحاديث تيرسياس. ومن الخير أن نتعرف جلية الأمر فيه، سينبئنا بذلك أبولون، فأنت قد أرسلت الرجل الكريم كريون صهرك إلى معبد الإله، وسيعود إلينا عما قليل بما ننتظر في لهفة من جواب الوحي.
أوديب :
ها هو ذا مقبلا! (يدخل كريون)
أوديب (إلى كريون) :
وإذن؟
كريون :
أليس من الخير أن نتحدث منفردين؟
أوديب :
لماذا؟ إنك تعلم أني أزدري الرياء والخواطر المستورة، فستقول إذن كل شيء أمام كل الناس. إلى ذلك أدعوك، بل بذلك آمرك. من حق الشعب أن يعلم كما أعلم أنا كل ما من شأنه أن يدفع عنه الضر. على هذا النحو وحده يستطيع أن يعينني على دفع البلاء، ماذا قال الوحي؟
كريون :
بالضبط هو ما كنت أخاف، وهو أن في المملكة شيئا قد شمله الفساد.
أوديب :
قف. ليس محضر الشعب كافيا. يجب أن تدعى إلى هذا المكان أختك جوكاست وأبناؤنا الأربعة.
كريون :
اسمع لي، إني أحمد لك دعاء جوكاست؛ فأنت تعلم أن شعور الأسرة شديد السلطان على نفسي، وهي مع ذلك تستطيع أن تشير علينا فتحسن المشورة. أما الفتية فيخيل إلي أنهم أصغر سنا من أن يشاركوا في هذا الحديث.
أوديب :
ليست أنتيجون طفلة. أما إتيوكل وبولينيس فهما كما كنت في سنهما، ليسا غبيين وفيهما جراءة وإقدام، فمن الخير أن ندعوهما، وأن نشغلهما ببعض الهم. أما إسمين فلن تفهم شيئا. (تدخل جوكاست وأبناء أوديب الأربعة.)
أوديب (إلى جوكاست) :
إن أخاك قادم من بيتو.
1
وقد أردت أن تكونوا جميعا حولي؛ لنسمع جواب الآله. هلم يا كريون، تحدث الآن: ماذا قال الوحي؟
كريون :
قال: إن الإله لن يحول غضبه عن ثيبا حتى يثأر للايوس.
أوديب :
يثأر له من ماذا؟
كريون :
ألا تعلم أن الذي تخلفه في سرير أختي جوكاست وعلى العرش قد مات مقتولا؟
أوديب :
أعلم ذلك، ولكن ألم يعاقب المجرم؟
كريون :
لم تستطع الشرطة أن تأخذه، بل يجب أن نعترف بأن البحث عنه لم يتصل.
أوديب (إلى جوكاست) :
لم تنبئيني.
جوكاست :
لقد كنت تقاطعني يا صديقي كلما حاولت أن أتحدث إليك، وكنت تصيح: كلا لا تحدثيني عما مضى، فلست أريد أن أعلم من أمره شيئا؛ لقد بدأنا عصرا ذهبيا، كل شيء يتجدد ...
كريون :
وكانت كلمة العدل إذا نطق بها فمك تؤدي معنى العفو.
أوديب :
لو كنت أعرف الخنزير الذي ...
جوكاست :
هون عليك يا صديقي! هذا تاريخ قديم. لا تعد إلى ما مضى.
أوديب :
كلا لن أهون على نفسي، بل أنا أريد أن أعلم من ذلك. أقسم بالجحيم لن أنتهي حتى أظفر بالمجرم. سألتمسه حيثما يكون، وأقسم إنه لن يفوتني، كم مضى على ذلك من وقت؟
جوكاست :
كنت أيما منذ ستة أشهر حين خلفت لايوس، وقد مضى على ذلك عشرون عاما.
أوديب :
عشرون عاما في حياة سعيدة ...
تيرسياس : ... وهي أمام الإله كيوم واحد. (وقد دخل تيرسياس مع أنتيجون وإسمين دون أن يلحظ. وهو ضرير قد اتخذ لباس الكهنة.)
أوديب :
يا للآلهة! إن هذا الرجل لثقيل! يقحم نفسه دائما في أمور الناس، من طلب إليك الحضور؟
جوكاست (إلى أوديب) :
يا صديقي لا ينبغي أن تتحدث على هذا النحو أمام الصغار؛ فمن الخطأ أن ننقص من سلطان الرجل الذي اتخذناه لهم مربيا وأستاذا، والذي يجب أن يرافقهم دائما. (ملتفتة إلى تيرسياس)
كنت تقول ...
تيرسياس :
لا أريد أن أسوء الملك.
أوديب :
لا يسوءني ما يقال، بمقدار ما يسوءني ما تضمره النفوس ولا تقوله الألسنة؛ تكلم.
تيرسياس :
سنتحدث منفردين يا أوديب عن سعادتك ... عما تسميه السعادة. أما الآن فالأمر يعني شقاء الشعب. أي أوديب إن الشعب يألم، ولا يمكن للملك أن يجهل هذا الألم. إن الإله ينشئ صلة خفية بين السعادة التي تتاح لقليل من الناس والشقاء الذي يفرض على أكثرهم. إن اسم الإله يتردد كثيرا على لسانك يا أوديب، وما ينبغي أن ألومك في ذلك، وإنما ألومك في أنك تتخذ من الإله مقرا لعملك لا قاضيا لك، وفي أنك لا تضطرب أمامه خوفا.
أوديب :
لم أكن قط ما يسميه الناس هيابا.
تيرسياس :
كلما عظمت شجاعة الإنسان أمام الناس اشتد رضا الإله حين يراه خائفا أمامه مضطربا من الخوف.
أوديب :
لو أني اضطربت أمام أبي الهول لما استطعت أن أجيبه، ولا أن أصير ملكا.
الجوقتان :
أي أوديب، أي أوديب! عبثا تحاول، إنك لتعلم أن أحدا لا يستطيع أن يستأثر بالكلمة الأخيرة دون تيرسياس، وإن كان ملكا.
الجوقة الأولى :
لقد قهرت أبا الهول، ولكن تذكر أنك أبيت فيما بعد ذلك أن تحفل بزجر الطير.
الجوقة الثانية :
ولما كانت هذه تؤرق نومك، فقد دفعتنا إلى الإثم حين أذنت لنا في صيدها، على الرغم من تحريم تيرسياس لهذا الصيد.
الجوقتان :
لقد كنا نتخذ من الطير طعاما شهيا، ولكننا لم نلبث أن تبينا الخطيئة حين رأينا الإله الساخط يسلط الدود على زراعتنا.
الجوقة الأولى :
وإذا كنا قد أخذنا أنفسنا بالصوم في ذلك العام، فإنما أردنا التكفير عن خطيئتنا.
الجوقة الثانية :
ولأننا لم نكن نجد ما نأكل.
الجوقتان :
ولذلك فنحن على إيثارنا طاعتك؛ ننصح لك بالإصغاء إلى ما يقوله تيرسياس.
أوديب (إلى ابنيه) :
إن الشعب يؤثر دائما تفسير ما يعرض له من الأحداث بالأسرار الغامضة على تفسيرها بأسبابها الطبيعية، ليس إلى تغيير هذا من سبيل (إلى تيرسياس)
هلم! امض في حديثك.
تيرسياس :
تستطيع شرطة الملك أن تبحث عن مجرم، ولكن إلى أن تجده أرجو أن تأخذوا جميعا أنفسكم بالندم؛ فكلكم خاطئ أمام الإله، ولن نستطيع أن نتصور إنسانا قد برئ من الخطايا؛ فليعكف كل منكم على نفسه، وليحاسب ضميره، وليندم على ما قدمت يداه. وفي أثناء ذلك سنقدم من الضحايا ما يهدئ من غضب الإله الذي يمتحن المدينة بهذا البلاء. لقد جل عدد الموتى عن الإحصاء، ويستطيع بولينيس الذي كان يسايرني آنفا، والذي رأى ما لم أكن أرى، أن ينبئك بذلك.
بولينيس :
أجل يا أبت! لقد رأينا غير بعيد من القصر جماعة من المطعونين قد دنسهم البراز والقيء، وهم يتلوون من الألم، ويعين بعضهم بعضا على الموت، وكان الجو من حولهم يضطرب بما يبعثون من حشرجة وأنين، ومن زفرات ونظرات ...
كريون :
حسبك! حسبك! ... (إسمين يأخذها الإغماء.)
أوديب :
هذه الصبية يغشى عليها الآن.
إتيوكل (إلى بولينيس) :
ما كان لك أن تقص هذا كله أمام أختك.
أوديب (إلى جوكاست) :
أرجو أن تخرجي هؤلاء الصبية. (يخرجون ومعهم تيرسياس)
لينصرف الشعب فإني أريد أن أخلو للتفكير. (يبقى أوديب ومعه كريون.)
كريون :
متناقض كغيرك من الذين يرسلون أنفسهم على سجاياها. ما نفع هذا القسم الذي أقسمته آنفا؟
أوديب :
أي قسم؟
كريون :
أترى؟ لقد أنسيته! ولكن الشعب، ولكن أبناءك لن ينسوه، وما زال تيرسياس قادرا على أن يذكرك به. لقد أقسمت لتثأرن للملك.
أوديب :
هذا حق. لماذا لم يحاكم المجرم؟
كريون :
لقد طويت القضية.
أوديب :
من الذي طواها؟
كريون :
أنا الذي طواها أولا حين كنت وصيا على العرش. فقد رأيت من الخطأ أن ألفت إليها الشعب، وأن ألقي في روعه أن الملك يمكن أن يقتل كغيره من الناس.
أوديب :
نعم! ولكنه يعلم ذلك الآن.
كريون :
ولم ترد جوكاست أن يجري التحقيق؛ لأنها رأت في كثير من الحكمة أن أول عهدك بالملك لا ينبغي أن يشيع فيه الظلام.
أوديب :
لقد حرصت جوكاست دائما على أن تحوط سعادتي. إنها كاملة، جوكاست، أي زوج هي! أي أم هي! أما أنا فلم أعرف أمي قط، وإني لأحب جوكاست حب البنوة والزوجية معا، قل لي: أكانت تحب زوجها الأول؟
كريون :
أقل مما تحبك من غير شك.
أوديب :
قل لي أيضا: ... ألم يولد لهما الولد؟
كريون :
هذه قصة أخرى. لست أدري أمن حقي أن أقصها عليك ...
أوديب :
لم يكن من حقك أن تشير إليها فأما وقد فعلت، أما الآن فأريد أن أعلم.
كريون :
إذن فهاك القصة: لم يكونا يريدان الولد؛ لأن الوحي ...
أوديب :
الوحي أيضا ...؟
كريون : ... تنبأ بأن لايوس سيموت مقتولا بيد ابنه، ولكن في ليلة من ليالي الحب الذي لا حذر فيه ...
أوديب :
لقد فهمت عنك. وماذا كان من أمر هذا الطفل الذي أنتجه الهيام؟
كريون :
كان غلاما لم يكد يولد حتى دفع إلى راع كلف هذه المهمة الحزينة؛ مهمة إلقائه على الجبل حيث التهمته الوحوش الضارية.
أوديب :
ألا يزال هذا الراعي حيا؟
كريون :
إنك لتسرف علي في السؤال. أتريد نصيحتي؟ لا تشق نفسك بهذا، وعش سعيدا.
أوديب :
مع هذه الشوكة في وسادتي أخشى ألا يتاح لي النوم منذ الآن. على أنك قد سمعت أن الإله يطلب عقاب القاتل.
كريون :
أيها العزيز أوديب، إن الوحي الذي يسيغه الشعب لا ينبغي أن يخيفنا نحن الحاكمين. ينبغي أن نتخذ منه وسيلة لتقوية السلطان، وأن نؤوله كما نشتهي. لقد أنبأنا بأن لايوس سيموت مقتولا بيد ابنه؛ فقد هلك هذا الابن، ولم يمنع ذلك من قتل لايوس. ولو قد عاش لما أتيح لك أن ترقى إلى عرشه؛ فلا تشق نفسك بموته، ولا تكلفها العناء لتعلم كيف مات. إن كان بعض الناس قد قتله؛ فإنما فعل ذلك من أجلك، لقد هيأ لك الفرصة، فما ينبغي لك أن تعاقبه، وإنما يجب عليك أن تحسن إليه.
أوديب :
ولكن ما عسى أن يقول تيرسياس.
كريون :
أتخافه؟
أوديب :
لا أكاد أخافه، ولكن الشعب يسمع له، وربما أثار صوته في نفسي بعض الاضطراب. نعم! جرس صوته كأنه يخرج من الجحيم، ها هو ذا مقبلا من جديد. إنه ليسعى دون أن يسمع خطوه. ماذا تريد يا تيرسياس؟ (دخل تيرسياس)
تيرسياس :
أي أوديب، إن الملكة تريد أن تتحدث إليك. إنها تنتظرك في القصر. (أوديب يبتعد. تيرسياس إلى كريون)
إنما أردت أن أخلو إليك. لقد سمعت كل ما قلتما.
كريون :
أكنت تتسمع؟
تيرسياس :
لست في حاجة إلى أن أتسمع لأسمع. إني أعرف ما يجول في النفس قبل أن أسمع صوت المتكلم. أي كريون، ليس من الخير أن تطمئن أوديب.
كريون :
ماذا تريد أن تقول؟
تيرسياس :
أريد أن أقول إنه يسرف في الاطمئنان، وإن نفسه كالإناء المطبق لا سبيل إلى أن يبلغها الخوف، وإن سلطاني كله إنما يأتي من خوف من الإله. إن هذه السعادة المطمئنة آثمة، إن عليك أن تحدث فيها صدعا.
كريون :
لماذا؟
تيرسياس :
من هذا الصدع يصل الإله إلى قلبه. إن بولينيس وإتيوكل يفلتان مني. إن شعوري بذلك يزداد من يوم إلى يوم. ستنبئك بذلك جوكاست؛ إنهما يتأثران أباهما، ويريان أن من الممكن أن يتحررا من هذا السلطان الذي ينبغي أن يذعن له كل إنسان. إني لا أتحدث إليك عن نفسي، وإنما أتحدث إليك عن الإله الذي أمثله، وعن جوكاست، وعن أنتيجون هذه الفتاة التقية، وعن الشعب آخر الأمر.
عن هذا الشعب المروع الذي يرى أن ما يلم به من الكوارث إنما هو عقاب له على ما يظهر ملكه من الإلحاد. ثم كيف تستطيع أنتيجون أن تكبر أبا، وكيف تستطيع جوكاست أن تحب زوجا يتحول قلبه عن الإله الذي تؤثرانه جميعا بالإجلال؟! وأنت نفسك يا كريون يجب أن تفهم أن مما ينفع الناس جميعا أن يذعن الملك لسلطان قوة قاهرة يستطيعون أن يفزعوا إليها حتى منه هو. (تدخل جوكاست)
جوكاست :
إن أوديب شديد الحزن لما قصصت عليه من نبأ. إن أنتيجون تريد أن تخلص للدين.
كريون :
تريد أن تكون كاهنة؟
تيرسياس :
ليس في ذلك ما يدهش. إن هذه الفتاة العزيزة تريد أن تقوم بذلك ما في فجور أبيها من عوج.
جوكاست :
لقد أفضت إلي بهذه النية التي يجب أن تظل سرا، والتي لم يظهر عليها أخواها بعد.
كريون :
آه! يا للفتاة البائسة!
تيرسياس :
بائسة لماذا؟ ستجد عند الإله سعادة أوثق من سعادة أوديب: نعيما مقدسا قوامه الخضوع لا الكبرياء.
كريون :
أقدر كذلك أن شقاء الشعب قد أثر في نفسها.
جوكاست :
إنها تلح علي في أن أدعها تعنى بالمرضى، وقد أبيت عليها ذلك؛ لأنه ليس من شئون الأميرات. هنالك قالت لي: فلأصل من أجلهم ولأضرع إلى الإله في أمرهم، وربما ضرعت إليه في أمر ... ثم قطع البكاء صوتها فلم تتم.
تيرسياس :
في أمر شخص آخر أشد منهم مرضا.
كريون :
أكانت تفكر في أبيها؟
تيرسياس :
من غير شك. كيف تلقى أوديب هذا النبأ؟
جوكاست :
مغضبا محزونا أول الأمر، ثم صائحا لأنه يعرف في هذا صنع تيرسياس.
تيرسياس :
لست إلا أداة الإله. وما دام الإله يتخذني أداة لإنفاذ أمره فلن يقف عملي عند هذا الحد.
جوكاست :
ما أعظم حظ هذا الزوج الحبيب إلي من الثبات والفضيلة والشجاعة! إن الواجب يفرض علينا يا تيرسياس أن نرده إلى طاعة الإله.
تيرسياس :
يجب على كريون أن يعينني. يجب عليه أن يزعزع ثقة الملك بنفسه فيعده بذلك لحسن الاستماع لي.
كريون :
سأحاول، ولكني لست واثقا بالنجح؛ فإن أوديب لا يلقي السمع إلى من يثقل عليه.
تيرسياس :
سيهديك الإله كما يهديني إلى الوسيلة التي تمس بها قلبه.
كريون :
لم يعن الإله كثيرا بهدايتي قط.
تيرسياس :
إنه لا يحسن العناية إلا بهداية العميان.
جوكاست :
إني أعتمد عليك يا تيرسياس؛ فمن طريقك يأتينا العلم بإرادة الإله القدير.
الفصل الثاني
أي أوديب أيها الذي ولد في غير احتياط وكان السكر له أبا.
أوريبيد: الفنيقيات (يتقدم أوديب وكريون وهما يمضيان في حديث كانا قد بدآه.)
كريون : ... لو لم نكن متباينين إلى هذا الحد لما وجد أحد منا هذه المتعة حين يفهم عن صاحبه. وإني أيها الصهر العزيز لأحب حديثك؛ لأنك تفتح لي آفاقا لم أكن لأهتدي إليها وحدي. فلك الابتكار والتجديد، أما أنا فيقيدني الماضي، وأنا من أجل ذلك أحترم التقاليد والعادات والقوانين المقررة. ولكن ألا ترى أن من الخير للدولة أن يمثل هذا كله، وأني أحقق التوازن المفيد بإزاء عقلك المجدد، فأحول بينك وبين الاندفاع، وأهدئ من مغامراتك الجريئة التي توشك أن تحطم نظام الجماعة إذا لم تؤخذ بشيء من القصد يأتيها من هذا السكون ومن هذا التشبث بالقديم ...
أوديب (في شيء من الذهول) :
هذا ممكن.
كريون :
إن شعور الأسرة شديد السلطان على نفسي، وأنت من هذه الأسرة، وأمر أبنائك يعنيني كأمر أبنائي؛ فأذن لي في أن أجد شيئا من القلق على صحة إسمين؛ فهي عصبية، وقد لاحظت ما أصابها أمس من الإغماء حين سمعت حديث أخيها ...
أوديب :
إن هذا الإغماء لم يطل.
كريون :
ومع ذلك فيجب أن نعنى بها فنحملها على شيء من الرياضة ... وكذلك جوكاست يخيل إلي أنها لا تستمتع بالصحة الكاملة منذ أيام؛ فهي قلقة لما يصيب الشعب من شقاء، فمن الحق عليك أن تحاول تسليتها.
أوديب :
حسن، حسن!
كريون :
وسأحدثك عن ابنيك حين يتاح لنا شيء من فراغ، فتيرسياس أستاذ كيس، ولكنهما لا يظهران حسن الاستماع له، قد ورثا عنك شيئا من العناد لا أحققه؛ فهما ثائران. هل قرأ عليك إتيوكل خواطره التي صور فيها بلاء العصر؟
أوديب :
صور فيها الطاعون؟
كريون :
كلا ... بلاء العصر مع عنوان آخر هو قلقنا. وهو بالطبع يقصد إلى قلق عقلي ممتاز. إن هذا الفتى لغريب حقا، وليس بولينيس أقل منه جمالا وقوة وذكاء. إنهما يشبهانك من غير شك حين كنت في سنهما، ولعلك ترى نفسك فيهما.
أوديب :
أحيانا.
كريون :
أنتم من طائفة القلقين، ولكنهما على الأقل يريان ما ضربت لهما من مثل. أما أنت فقد كنت ترى نفسك غريبا عند بوليب ... أليس هذا هو الذي حملك على مغادرة قصره؟ ألم تكن تجد الرضا عنده؟
أوديب :
كنت أجد عنده كل ما أحب، ولكني أكره أن أدلل. وكنت أعتقد في ذلك الوقت أني ابن بوليب. ثم أقبل إلى القصر ذات يوم كاهن كان يتحدث إلى الناس بأمر مستقبلهم، وكان كل واحد يريد أن يسأله عما يضمر له الغيب، فلما جاءت نوبتي امتقع لونه وأبى أن ينبئني بأمري أمام الناس. ثم انفرد بي وأنبأني بأنه قد كتب علي أن أقتل أبي. ضحكت أول الأمر لهذه النبوءة، ولكني رأيته يلح ويؤكد، فلم أر بأسا بشيء من الاحتياط، وكان أول ذلك أن أصارح بوليب بالأمر، وأن أنبئه بأني فرارا من هذه النبوءة السيئة سأفارقه إلى آخر الدهر مهما يكلفني ذلك من مشقة، فقد كنت أحبه.
هنالك أنبأني ليرد الطمأنينة إلى قلبي بأني لست ابنه، وإنما تبناني، فما ينبغي إذن أن أخاف أن تتحقق هذه النبوءة فيما يتصل به. ولم يستطع أن يبين لي عن أبي شيئا، وإنما حدثني بأن راعيا من رعاته وجدني في الجبل، وقد علقت كالثمرة من إحدى رجلي إلى غصن دان لبعض الشجيرات (وهذا هو الذي جعلني أعرج قليلا)، وجدني عاريا معرضا للريح والمطر كما يطرح الطفل الذي ينتجه الحب الآثم، والذي يراد التخلص منه؛ لأنه جاء على غير انتظار ليفسد على المحبين أمرهما ...
كريون :
طفل لغية، لا بد أن يكون ذلك قد آذاك.
أوديب :
كلا! لم يؤذني. ولعل مما يسرني أن أعرف أني لم أولد لرشدة؛ فقد كنت أتكلف كثيرا من الجهد لأقلد بوليب حين كنت أعتقد أني ابنه. وكنت أقول لنفسي أي شيء في لم أرثه عن آبائي، وكنت أسمع لدروس الماضي، وأنتظر من أمس وحده إقرار ما عملت وإملاء ما ينبغي أن أعمل. ثم تنقطع الأسباب فجأة، وإذا أنا قد نجمت من المجهول، فليس لي ماض، وليس لي نموذج أحتذيه، وليس لي شيء أعتمد عليه، وإنما يجب أن أبتكر كل شيء: أن أبتكر الوطن، وأن أبتكر الأجداد، وأن أخترع كل شيء وأستكشف كل شيء، ليس هناك شخص يمكن أن أشبهه إلا أن أكون أنا هذا الشخص. وما الذي يعنيني إذن أن أكون من أبناء اليونان، أو من أبناء اللورين؟ كيف تستطيع يا كريون - وأنت المثقل بقيود الماضي الملائم للتقاليد الموروثة في كل شيء - أن تقدر ما في هذه الحاجة إلى ابتكار كل شيء من روعة وجمال؛ إن جهل الأبوين دعاء إلى مضاء العزم.
كريون :
ولكن فيم تركت بوليب بعد أن ردك إلى الاطمئنان؟ فقد كنت متبناه ولم يكن له وارث، فكنت خليقا أن ترقى بعده إلى العرش.
أوديب :
لست أكره شيئا كما أكره الاستئثار بما ليس لي فيه حق، ولا أريد أن أنتفع بشيء إلا إذا اكتسبته بالعزم اكتسابا، وكنت أجد في نفسي فضائل كأنها كانت نائمة، ولم أكن أطيق لها هذا الخمود. وكنت أشعر أني بهذه الحياة التي كنت أحياها في قصر بوليب راضيا ناعم البال، إنما كنت أضيع ما كتب لي من حظ.
كريون :
من الطبيعي أن أرى غير ما ترى؛ فلو كنت مجهول النسب لكان من الممكن أن أتكلف من الخصال وأطلب من المزايا مثلك ما لم يقدر لي من طريق الوراثة. ولكني أنا ابن ملك وأخو ملك لا أستطيع إلا أن أكون محافظا. لم أكن ملكا، ولكني كنت أحب أن أستمتع بنعمة الملك في قصر لايوس، كما أحب أن أنعم في قصرك بكل مزايا الملك دون أن أحمل ثقله أو أتكلف همومه.
أوديب :
انعم في سلام! انعم في سلام يا كريون؛ لعل من الخير أن يكون أمثالي أشخاصا نادرين. ولكني أرى الفتية يقبلون، فلنستمع لهم دون أن يرونا. (يتنحى أوديب وكريون، وتدخل أنتيجون وبولينيس.)
بولينيس :
لا سبيل إلى التفكير الحر إلا إذا أزلنا هذه الأثناء التي تفرضها العبادة على العقل.
أنتيجون :
إن الاستسلام للشهوات تفرض عليه أثناء أشد نكرا وتعطفه إلى الشر. نعم! لقد اتخذ عقلي هذا الثني الذي يضطره إلى ألا يفكر إلا تفكيرا مستقيما. ومن المحقق أن كل اتجاه لشخصي إنما يدفعني إلى ...
بولينيس :
أتمي.
أنتيجون : ... يدفعني إلى الإله !
بولينيس :
لماذا لم تتمي حديثك أول الأمر؟
أنتيجون :
لأني أعلم أنك لا تؤمن بالإله.
بولينيس :
الإله إنما هو في حقيقة الأمر شيء تضعينه عند آخر تفكيرك. أتؤمنين به حقا؟
أنتيجون :
بكل قلبي وبكل عقلي؛ ولولا أني أتحدث إليك لقلت بكل نفسي، ولكنك لا تؤمن بالنفس أيضا.
بولينيس :
لعلك تنتهين إلى أن تحمليني على الإيمان بنفسك ... ولكن هذا الإله الذي تذكرينه أيوجد خارج عقلك؟
أنتيجون :
نعم! ما دام يجذبني إليه.
بولينيس :
إنما هو انعكاس بسيط لما في نفسك من الفضائل!
أنتيجون :
بل أنا التي أعكس بعض ما فيه من خير، فكل فضيلة إنما تصدر عنه هو.
بولينيس :
أي أنتيجون: اسمعي لي ... ولا يأخذك الخجل من سؤالي.
أنتيجون :
إني أخجل مقدما، ولكن سل مع ذلك.
بولينيس :
أمن المحرم أن يتزوج المرء أخته؟
أنتيجون :
نعم، لا شك في ذلك؛ إنه محرم أمام الناس وأمام الإله. لم تسألني هذا السؤال؟
بولينيس :
لأني لو استطعت أن أتخذك لي زوجا لأسلمتك قيادي حتى تبلغيني إلهك هذا.
أنتيجون :
كيف تقترف الشر وترجو أن تصل به إلى الخير؟!
بولينيس :
الخير والشر ... لا يردد فمك إلا هاتين الكلمتين.
أنتيجون :
لا تنفتح شفتاي عن كلمة إلا إذا كان مصدرها قلبي. (كريون وأوديب قد استخفيا أثناء هذا المنظر وسيظلان مستخفيين أثناء المناظر التالية.)
كريون (إلى أوديب) :
كلا إنك لتعلم أني لا أستطيع أن أقبل الزواج بين المحارم.
أوديب :
صه! (يتنحى بولينيس وأنتيجون، ويدخل إتيوكل وإسمين.)
إسمين :
ما أندر لقاءك منفردا! إنك دائما في صحبة أخيك؛ كيف تستطيع أن توافقه دائما؟
إتيوكل :
أليس طبيعيا أن يفهم الأخ أخاه أكثر مما يفهمه الأجنبي؟
إسمين :
إن بين أنتيجون وبيني اختلافا عظيما في الذوق، حتى إننا لنختصم في غير انقطاع، فهي تلومني في كل ما أحب وتزعم لي أنه محظور، حتى انتهى بي الأمر إلى أني لا أجرؤ أمامها على الضحك أو اللعب. وأنا أعلم أنها أكبر مني سنا، ولكني أكاد أعتقد أنها لم تكن صبية قط.
إتيوكل :
بولينيس وأنا توءمان قد ولدنا معا ونشأنا معا، فكل شيء بيننا مشترك، فأنا لا أذوق لذة ولا أجيل خاطرا حتى يجد على الفور مثل ما أجد، فيزيده ذلك قوة وأيدا.
إسمين :
لست واثقة بأن مما يسرني أن أجد لي ضريبا، بل لست واثقة بأني لن أكرهه إن وجد؛ فهناك أشياء لا تحسن فيها الشركة.
إتيوكل :
لم نواجه إلى الآن شيئا من هذه الأشياء.
إسمين :
لو أن أحدا كما أحب ...
إتيوكل :
لعلنا أن نحب توءمين.
إسمين :
فإذا اتصل الأمر بالملك؟
إتيوكل :
لقد اتفقنا على أن نتناوب العرش.
إسمين :
فإن لم تجدا توءمين. (يضحكان)
إتيوكل :
سأدعك لأشاوره في ذلك. (يخرج إتيوكل وتدخل أنتيجون.)
أنتيجون :
كيف تضحكين والشعب في حداد؟
إسمين :
إنك أنت لا تضحكين حتى حين يكون كل شيء من حولك سعيدا.
أنتيجون :
وا حسرتاه! إن في كل مكان من هذه الأرض شقاء لا يقاس إليه ما قد يوجد من فرح.
إسمين :
إنما الفرح في أعماق نفسي، وإني لأسمع في قلبي غناء.
إن البكاء على الأشقياء لا يعفيهم من الشقاء، ولكنك أنت لا تميلين إلا إلى الذين يألمون. ولعل ابتهاج الناس من حولك أن يسوءك.
أنتيجون :
إن سعادة بعض الناس تقلقني يا إسمين.
إسمين :
بعض الناس؟
أنتيجون :
سعادة أبي؛ وكلما ازداد حبي له اشتد خوفي من هذه السعادة التي يزعمها لنفسه. إنه يهمل الإله، وليس للإنسان معتمد غير الإله.
إسمين :
إن فرحي شيء مجنح. (تخرجان)
كريون (إلى أوديب) :
أترى إلى هؤلاء الفتية كيف يحسنون الحديث! «إن فرحي شيء مجنح» ... جملة ينبغي أن تحفظ. أما أنتيجون فظاهر حديثها لا يدل على شيء، ولكن أتعلم أنه في حقيقة الأمر شديد العمق؟ هو بالضبط ما كنت أريد أن أشعرك به، ولكني لم أكن أعرف كيف أقول.
أوديب :
ماذا إذن؟
كريون :
هو أني لا أرى سعادتك من المتانة بحيث تظن. ولكن لنستمع لابنيك. (يدخل إتيوكل وبولينيس.)
إتيوكل :
وفي الحق ما الذي نلتمس في الكتب؟ إنما نلتمس فيها الإذن بما نريد أن نعمل، بل إن الذين يزعمون أنهم يحبون النظام ويحترمون الأشياء المقررة، هؤلاء الذين يسميهم تيرسياس أصحاب التفكير القويم، إنما يلتمسون في الكتب الإذن في أن يضايقوا ويظلموا ويخيفوا جيرانهم، إنما يلتمسون أصولا ونظريات تريح ضمائرهم وتضع الحق إلى جانبهم.
بولينيس :
أما نحن أصحاب التفكير المعوج فإنما نلتمس في الكتب الإذن بأن نأتي من الأمر ما تنكره التقاليد ويأباه حسن الذوق وتحظره القوانين.
إتيوكل :
وبعبارة أخرى: الموافقة على مخالفة المألوف.
بولينيس :
نعم، شيء يشبه هذا.
إتيوكل :
فأنا الآن مثلا أبحث في الكتب عن جمل تبيح لي أن أتخذ إسمين لي خليلة.
كريون (في صوت خافت إلى أوديب) :
وقح.
بولينيس :
أختك؟
إتيوكل :
أختنا ... ماذا تنكر من هذا؟
بولينيس :
إن وجدت هذه الجملة فأظهرني عليها.
كريون :
وقحان.
أوديب (إلى كريون) :
انصرف. (يخرج كريون)
إتيوكل :
إذا وجدت ماذا؟
بولينيس :
هذا الإذن. على أن هناك إذنا أقل شمولا، وهو أن تستغني عن الإذن.
إتيوكل :
أما هذا الإذن فلم أنتظر أن أظفر به في الكتب ل ...
بولينيس :
لأنتفع به؟
إتيوكل :
طبعا! وإذا كنت الآن ألتمس الإذن فإنما ألتمسه لها هي ...
بولينيس :
لإسمين؟
إتيوكل :
نعم، لإسمين. أما أنت فلست في حاجة إلى إذن.
بولينيس :
وإذا منحتك لطمة على هذا الوجه الوقح أظنك لا تستطيع أن تزدري هذه اللطمة.
إتيوكل :
حاول، جرب. أنت غيران! ألم نشترك إلى الآن في كل شيء؟! وإذن فقد أخطأت حين أفضيت إليك بهذا الحديث. ومع ذلك أيها الأحمق فإني لم أقل هذا إلا لأغيظك.
بولينيس :
أقسم لي على أن لا ريبة بينك وبين إسمين.
إتيوكل :
إلى الآن لا ريبة. إني أكظم.
بولينيس :
ما أراك تكظم كما أكظم.
إتيوكل :
لو لم أحدثك لما فكرت في هذا.
بولينيس :
أي إني لم أكن أعلم أني أفكر فيه؛ فهناك أشياء نفكر فيها دون أن نشعر.
إتيوكل :
هذه مادة أحلامنا.
بولينيس :
ألم تسأل نفسك قط إلى أي حد يمكن أن يذهب الفكر؟ يخيل إلي أنه أشبه شيء بالتنين الذي لا نكاد نعرف منه إلا جسمه وذنبه، ما ينسحب منه في الماضي: وحش غريب غامض أحس أن رأسه المنكر القبيح يساير ضميري وشعوري وحسي، يتحسس كل شيء، ويشم كل شيء، ويرسل في كل مكان رغبة شديدة في الاستطلاع المغري. أما سائره فيتبعه كما يستطيع.
إتيوكل :
هذا التنين هو الذي أسميه بلاء العصر، أجد في نفسي أسئلته التي لا تنقضي. إنه يلتهمني بأسئلته.
بولينيس :
إني أفكر في التنين الذي قهره كدموس. يقال إننا نشأنا من أسنانه.
إتيوكل :
أتصدق ذلك يا بولينيس؟ يقال أيضا: إن ابنة كدموس الهالكة حملت في أحشائها الإله باكوس. في هذا العصر الذي نعيش فيه، والذي تقدمت فيه الحضارة، ومنذ قتل أبونا آخر ذرية أبي الهول لا تضطرب الآلهة والكائنات الغريبة في الهواء ولا في الريف، وإنما تضطرب في أنفسنا.
بولينيس :
كدموس،
1
ليكوس،
2
أمفيون
3
الذي أهدى إلينا الكتابة نقيد بها خواطرنا ... إن الإنسانية لتظهر لي متقدمة السن، وإني لأرى هذا كله بعيد العهد بنا! وإني لأفكر في الوقت الذي لم يكن الإنسان فيه قد اهتدى إلى الكلام.
إتيوكل :
إن تيرسياس يعلمنا أن الكلام هبة من الآلهة للناس.
بولينيس :
إن إيماني بالآلهة لأقل من إيماني بالأبطال. (يتقدم أوديب نحو ابنيه.)
أوديب :
لقد أحسنتما القول! إني لأعرف فيكما ابني. إني لأسمعكما (لقد كنت أتسمع عليكما) فآسف لأني لم أتحدث إليكما كثيرا. ولكني أحب أن أقول لكما قبل كل شيء: يا ابني احترما أختيكما. إن ما يمسنا من قريب ليس بالغنيمة النافعة. إن من أراد أن يعظم خليق أن ينظر إلى بعيد. ثم لا تكثرا النظر إلى وراء. قدرا أن الإنسانية ما زالت بعيدة جدا عن غايتها أبعد مما نظن، وبينها وبين هذه الغاية آماد أطول مما بينها وبين عهدها الأول الذي لا نكاد نلحظه.
إتيوكل :
الغاية ... ما عسى أن تكون الغاية؟
أوديب :
هي أمامنا مهما تكن. يخيل إلي أني أرى الأرض بعد وقت طويل جدا وقد سكنها أناس أحرار ينظرون إلى حضارتنا كما ننظر نحن إلى الحضارة القديمة في أول عهدها برقيها البطئ. وإذا كنت قد قهرت أبا الهول فما ينبغي أن تستريحا.
هذا التنين الذي كنت تتحدث عنه يا إتيوكل يشبه ذلك الوحش الذي كان ينتظرني على أبواب ثيبا حيث كان يجب أن أدخل ظافرا. إن تيرسياس ليثقل علينا بتصوفه وأخلاقه؛ لقد تعلمت هذا كله عند بوليب، إن تيرسياس لم يخترع شيئا، وهو لا يستطيع أن يسيغ الذين يبحثون ويخترعون. إنه على ما يزعم لنفسه من الاتصال بالآلهة، ومن علم الغيب من طريق الوحي، أو من زجر الطير، لم يكن هو الذي استطاع أن يحل اللغز! لقد فهمت، وحدي أن كلمة السر التي ينجو بها الإنسان من أبي الهول هي: الإنسان. لم يكن بد من بعض الشجاعة لينطق بهذا اللفظ، ولكني كنت قد أعددته قبل أن أسمع اللغز. وقوتي إنما جاءت من أني لم أكن أقبل جوابا غير هذا مهما يكن السؤال الذي يلقى.
فقد ينبغي أن تفهما يا ابني أن كل واحد منا يلقى أول الشباب وحشا قائما يريد أن يأخذ عليه الطريق، وهذا الوحش يا ابني يعرض على كل واحد منا سؤالا خاصا، فاعلما أن هذه الأسئلة مهما تختلف فإن جوابها واحد لا يتغير. نعم! ليس هناك إلا جواب واحد لهذه الأسئلة كلها، وهذا الجواب هو الإنسان، وهذا الإنسان الفرد بالقياس إلى كل واحد منا هو شخصيته. (هنا يدخل تيرسياس.)
تيرسياس :
أي أوديب! هذه هي الكلمة الأخيرة لحكمتك؟ أإلى هذا ينتهي علمك؟
أوديب :
بل من هنا يبدأ علمي. وليست هذه الكلمة إلا الكلمة الأولى.
تيرسياس :
والكلمات التالية ما هي؟
أوديب :
سيبحث عنها ابناي.
تيرسياس :
لن يجداها، كما أنك لم تجدها.
أوديب (لنفسه) :
إنه لأشد محالا من أبي الهول. (إلى ابنيه)
دعانا. (يخرج إتيوكل وبولينيس.)
تيرسياس :
نعم! إنك تطلب إلى ابنيك أن ينصرفا حين لا تجد ما تقول لهما، وحين يضطر علمك إلى العجز، لا تستطيع أن تعلمهما إلا الكبرياء. كل علم يأتي من الإنسان لا من الإله فهو باطل.
أوديب :
لقد أعتقدت وقتا طويلا أن إلها كان يهديني الطريق.
تيرسياس :
إلها لم يكن شيئا آخر غيرك، أنت الذي أله نفسه.
أوديب :
إلها أفهمتني أنت أني أستطيع أن أستغني عنه.
تيرسياس :
عن هذا الإله الدعي تستطيع أن تستغني من غير شك لا عن الإله الحق، هذا الذي تأبى أن تعرفه، ولكنه يراقب خطاك ويتتبع أشد خواطرك خفاء، الإله الذي يعرفك خيرا مما تعرف أنت نفسك.
أوديب :
من أين لك أني لا أعرف نفسي؟
تيرسياس :
من أنك ترى نفسك سعيدا.
أوديب :
ولم لا أرى نفسي سعيدا حين أكونه؟
تيرسياس :
إن المريض الذي يرى نفسه صحيحا ليس شديد الشهوة إلى الشفاء.
أوديب :
أتريد أن تقنعني بأنني مريض؟
تيرسياس :
مرضا شديدا؛ لأنه يزيد خطره أنك لا تعلم. أي أوديب: إنك تزعم الإفلات من الإله وتجهل نفسك، وأريد أن أعلمك كيف ترى نفسك.
أوديب :
يخيل إلى من سمعك أن الأعمى منا هو أنا.
تيرسياس :
أي أوديب: إن كانت عينا وجهي مقفلتين، فإنما ذلك لتزداد عينا نفسي إبصارا.
أوديب :
وبعيني نفسك هاتين ماذا ترى؟
تيرسياس :
أرى بؤسك. ولكن أجبني منذ كم من الوقت تركت عبادة الإله؟
أوديب :
منذ تركت السعي إلى معابده.
تيرسياس :
طبعا إذا لم نؤد فرائض العبادة خبت في نفوسنا جذوة الإيمان، ولكن لماذا لم تقرب المعابد حين كانت في نفسك بقية من إيمان؟
أوديب :
لأن يدي لم تكونا نقيتين.
تيرسياس :
أي جريمة دنستهما؟
أوديب :
دنستهما جريمة قتل اقترفتها على طريق الإله الذي كنت أريد أن أستشيره، وأبي الهول الذي قهرته.
تيرسياس :
من ذا الذي قتلت؟
أوديب :
رجل مجهول كان يعترض طريقي بعربته.
تيرسياس :
الطريق التي كانت تقودك إلى الإله؛ فإن الطريق التي لقيت فيها أبا الهول طريق أخرى، ولكنك كنت تعلم أن الإله لا يرجع جوابا على من دنس يديه.
أوديب :
هذا حق. ومن أجل ذلك عدلت عن استشارة الإله، وأخذت الطريق التي قهرت فيها أبا الهول.
تيرسياس :
ماذا كنت تريد أن تطلب إلى الإله؟
أوديب :
أن ينبئي ابن من أنا؟ ثم أزمعت فجأة أن أجهل هذا النسب.
تيرسياس :
بعد اقتراف الجريمة!
أوديب :
تعلمت فجأة كيف أتخذ من هذا الجهل قوة.
تيرسياس :
قد كنت أظن أنك طلعة شديد الرغبة دائما في أن تعلم كل شيء ... ولكن قبل هذا التهاون المتعمد ... فسر لي يا أوديب ... لماذا كنت شديد الحرص على أن تعلم من الإله ما كنت تريد أن تسأل عنه؟
أوديب :
لأن وحيا تنبأ بأني يجب ... أي تيرسياس: إنك تثقل علي، ولن أجيبك بعد الآن.
تيرسياس :
لقد تنبأ الوحي كذلك للايوس بأنه سيموت مقتولا بيد ابنه. أي أوديب. أي أوديب أيها اللقيط! أيها الملك الآثم! إن جهلك لماضيك هو الذي يمنحك هذه الثقة. إن سعادتك عمياء. افتح عينيك على شقائك. لقد استرد الإله منك حقك في أن تكون سعيدا. (يخرج تيرسياس)
أوديب :
اغرب. اغرب! كأن السعادة كانت هي الشيء الذي كنت أبتغيه، إنما هربت منها حين تركت بوليب قوي الساقين مطلق اليدين. من ذا الذي يستطيع أن يصور جمال الفجر وهو يلقي أشعته على البرناس
4
حين كنت أسعى في الندى نحو الإله ألتمس جوابه. كنت لا أملك شيئا إلا قوتي، ولكني كنت غنيا بما كان في شخصيتي من استعداد، وكنت أجهل نفسي. نعم لقد كان مصيري معلقا بجواب الإله، وكنت أذعن فرحا لهذا المصير ... ولكن هنا شيئا لا أصل إلى فهمه، ومن الحق أني لم أفكر فيه كثيرا إلى الآن، يجب أن يقف الإنسان ليفكر، وكنت في ذلك الوقت مدفوعا إلى العمل ... أمن الحق أني تحولت عن طريق الإله؛ لأن يدي لم تكونا نقيتين؟ لم أكن أحفل بذلك حينئذ. ويخيل إلي الآن أن جريمتي هي التي وجهتني نحو أبي الهول.
ماذا كنت أريد أن أطلب من الإله؟ كنت أطلب جوابا. وقد كنت أشعر بأني كنت أنا نفسي جوابا لسؤال لم أكن أتبينه، ثم عرفت أنه سؤال أبي الهول. لقد قهرته أنا الذكي، ولكن منذ ذلك الوقت ألم تزدد الأشياء كلها غموضا من يوم إلى يوم بالقياس إلي؟ منذ ذلك الوقت، منذ ذلك الوقت ... ماذا صنعت يا أوديب؟ لقد نعمت بالمكافأة ونمت عشرين سنة. ولكني الآن أخيرا أحس الوحش يتمطى في دخيلة نفسي. إن مصيرا عظيما ينتظرني مستخفيا في ثنايا التاريخ. أي أوديب لقد مضى وقت الطمأنينة؛ أفق من سعادتك.
الفصل الثالث
إني أضرع إليكم في ألا تظنوا بي ازدراء القوانين.
سوفوكل: أوديب في كولونا
أوديب (وقد أخذ بالمعطف الملكي لجوكاست) :
كلا! أريد أن أعلم. لا تنسلي كما ينسل الظل؛ فلن أعفيك حتى أعلم. لن أخليك حتى أعلم كل ما عندك من الحقائق. إن هنا شيئا غامضا ملتبسا أريد أن أوضحه مهما يكن من شيء، وأجيبيني أولا: أكنت تعلمين بموت لايوس حين دخلت ثيبا بعد أن أتيح لي قهر أبي الهول؟
جوكاست :
كيف أعد بالعرش قاهر أبي الهول دون أعلم أني أيم؟!
أوديب :
فلم يكن يكفي للاستئثار بملك ثيبا أن يقهر أبو الهول، بل لم يكن بد من قتل الملك.
جوكاست :
بماذا تريد أن تتهم نفسك؟
أوديب :
كلا! كلا. إنك تتعجلين. إنما أردت أن أقول لم يكن بد من أن يموت الملك.
جوكاست :
اسمع لي: لست أذكر جيدا حقيقة ما كان ولا كم مضى من الوقت بين موت الملك ووصولك إلى ثيبا. إنما يعرف ذلك حق المعرفة كريون، وهو يستطيع أن ينبئك بجليته.
أوديب :
ما الذي يعنيني من أمر كريون؟ أتعلمين ماذا قال لي؟ لقد قال لي إن من الحق علي أن أكافئ قاتل لايوس لا أن أعاقبه؛ فلولا جريمته لما ارتقيت إلى العرش، ولكن موت الملك أكنت تعلمينه؟ قولي يا جوكاست.
جوكاست :
كيف تريد أن أذكر ذلك يا صديقي؟ بماذا تريد أن تعذب نفسك؟ لست أعلم إلا شيئا واحدا؛ وهو أني لم أكد أراك حتى أردتك.
أوديب :
لم يكن بد من أن يخلو العرش والسرير من صاحبهما قبل أن يشغلهما شخص آخر. وقتل الملك وحده هو الذي أتاح لي الظفر بهما. ولكن أنت ألم تكوني تعلمين أنك حرة؟
جوكاست :
يا صديقي يا صديقي لا تنبه إلى شيء من هذا؛ فإن أحدا من المؤرخين لم يلتفت إليه.
أوديب :
إذن فأنا أفهم كل شيء. لقد كنت تعرفين قاتل الملك.
جوكاست :
صه.
أوديب :
القاتل هو أنا.
جوكاست :
اخفض صوتك.
أوديب :
لم أكن قد أزلت عن يدي دم القتيل حين كنت أسعى إلى أبي الهول لأقهره.
جوكاست :
قف.
أوديب :
لقد كان يريد أن يمنعني من التقدم. كانت عربته تعترض طريقي، فلما خاصمته في ذلك ليفسح لي الطريق قتلته. هذا المجهول الذي لم يكن يحمل شارة الملك لم يكن إلا ...
جوكاست :
لماذا تريد أن تعلم؟
أوديب :
أنا شديد الحاجة إلى ذلك.
جوكاست :
ألا تشفق على سعادتك؟
أوديب :
لا أشفق على شيء. لا أريد سعادة تقوم على الجهل والخطأ. هذه السعادة تليق بالشعب، أما أنا فلست في حاجة إلى أن أكون سعيدا. لقد قضي الأمر وتمزق سحاب تلك الأحلام الساحرة. تستطيع أن تأتي يا تيرسياس. (يدخل تيرسياس يقوده كريون.)
تيرسياس :
أأنت في حاجة إلي؟
أوديب :
لم يأت وقت الحاجة إليك بعد؛ أريد قبل ذلك أن أهبط إلى قاعة الهوة. قل لي: هذا الملك الذي قتلته ... كلا! لا تقل شيئا؛ لقد فهمت كل شيء. لقد كنت ابنه.
كريون :
آه! يا للعجب! ماذا أسمع ...؟ أتكون أختى أمه؟! أوديب هذا الذي كنت أحبه! أيمكن أن يتخيل الإنسان أبشع من هذا؟ ألا أعلم أيكون صهري أم ابن أختي؟
أوديب :
ألا يعنيك إلا هذا؟ لا تشغلني بصلات النسب هذه. فلو أن ابني كانا لي أخوين لازداد حبي لهما قوة.
كريون :
ائذن لي في أن أرى هذا الخلط بين ألوان الشعور مؤلما. ومع ذلك فمن حقي عليك أن تحرمني، ألست خالك؟
أوديب :
يا لها من مكافأة بغيضة على حل اللغز! ماذا؟ أهذا هو اللغز الآخر الذي كان يستخفي وراء أبي الهول. وأنا الذي كان يهنئ نفسه بجهل أبويه. بفضل هذا الجهل تزوجت أمي. وا حسرتاه! وا حسرتاه! وتزوجت معها ماضي كله: الآن أفهم لماذا نامت مروءتي. لقد كان المستقبل يدعوني عبثا؛ لأن جوكاست كانت تردني إلى وراء. أي جوكاست: لقد كنت تزعمين في جنون إلغاء ما لم يكن بد من وقوعه. أنت التي كنت أحبها حب الزوج، وكنت أحبها دون أن أعلم حب الابن ... لقد آن الوقت دعيني! إني لأقطع ما بيني وبينك من صلة.
أما أنتم يا بني يا رفاق غفلتي، أيتها الحقائق الواقعة لما ثار في نفسي من رغبات: سأدخل من دونكم في المساء لأتم ما كتب لي من مصير.
تيرسياس :
أي أوديب، يا ابن الخطأ والخطيئة لتولد من جديد. قد كنت في حاجة إلى الألم ليتجدد شخصك. خذ بحظك من الندم. أقبل على الإله الذي ينتظرك. سيوضع عنك وزرك.
أوديب :
بأمر الإله الذي رسم لي طريقي قبل أن أولد، نصب الشرك لأوخذ فيه. فليس بد من إحدى اثنتين: فإما أن يكون الوحي قد كذب، وإما أن يكون الهلاك قد قضى علي. لقد كنت مجبرا.
تيرسياس :
كنت مجبرا بحكم الإله الذي يستطيع وحده أن يصلح بينك وبين نفسك، وأن يكفر عنك خطيئتك. ستفكر في هذا. ولكن أليس من الخير أن ينبه الشعب. لقد وعدته أنت بعقاب المجرم كما أراد الإله ليرفع عنه الشر.
أوديب :
أنبئ من شئت، لا أريد أن يجهل أحد شيئا. ادع أبنائي أيضا. ولكن أنبئهم أنت. أنبئ الناس جميعا بما لا أحسن أنا إنباءهم به. أنبئهم بهذه الجريمة التي لا أعرف كيف أسميها. (يخرج تيرسياس)
جوكاست :
لماذا تذيع ما يمكن أن يظل بيننا مكتوما؟ كان من الممكن ألا يتوهم أحد شيئا. وما زال هذا ممكنا إلى الآن. لقد نسيت الجريمة، إنها لم تمنع، بل إنها أتاحت سعادتك، لم يتغير شيء.
أوديب :
كيف تقولين لم يتغير شيء. لقد تغير كل شيء، ولم يبق شيء واحد كما كنت أفهمه من قبل؛ فقد كنت أولا ابن ملك دون أن أعلم، ولم أكن في حاجة إلى القتل لأملك. كان يكفي أن أنتظر.
جوكاست :
أراد الآلهة شيئا غير هذا.
أوديب :
وإذن فما عملته لم أكن أستطيع أن أتركه. نعم لقد كنت أعتقد أن إلها يهديني، وكنت أستمد من هذا الاعتقاد الثقة بسعادتي، ثم أهملت هذا الاعتقاد نفسه، وجعلت أعتمد على نفسي. أما الآن فلست أعرف نفسي في أعمالي. هناك عمل مع ذلك صدر عني وأود لو أجحده ... لأن مظهره قد تغير، أو لأن نظري إليه قد تغير على الأقل حتى أصبح كل شيء يبدو لي مختلفا.
جوكاست :
لقد أضلك إله في ذلك الوقت.
أوديب :
إله، تقولين؟ لقد كنت أرى نفسي قويا بحيث أستطيع أن أستغني حتى عن الإله. لقد أردت أن أتحول عنه حين اتجهت إلى أبي الهول. لماذا؟ هذا هو الذي أفهمه الآن؛ لقد كنت راضيا بالخضوع للإله حين كان يقودني إلى المجد، لا حين يقودني إلى الجريمة، إلى الجريمة التي أخفى علي بشاعتها ... يا لها خيانة من الآلهة ملؤها الجبن! إنها لخيانة لا تطاق ... ألا أزال إلى الآن خاضعا لها؟ هل تنبأ الوحي بما يجب أن أصنع؟ أيجب أن أستشيره أيضا؟ بماذا عسى أن تنبئك الطير يا تيرسياس؟ وددت لو أفلت من الآلهة التي تحيط بي! وددت لو أفلت من نفسي. إن في نفسي شيئا يعذبني؛ إنه يشبه البطولة، إنه يتجاوز طاقة الإنسان. وددت لو أخترع ألما جديدا لا أدري ما هو. وددت لو أخترع حركة جنونية تدهشكم جميعا؛ تدهشني أنا وتدهش الآلهة. هاتان العينان اللتان لم تحسنا تنبيهي لست ... (يخرج أوديب)
جوكاست :
اتبعه يا كريون. لا تدعه لحظة. (يخرج كريون)
جوكاست (وحدها) :
أيها التعس أوديب: ما حاجتك إلى المعرفة؟ لقد عملت ما استطعت لأمنعك من تمزيق القناع الذي كان يحمي سعادتنا. لقد طردتني وها أنا ذي الآن عارية بشعة. كيف أستطيع أن أظهر أمام عينيك، أمام أعين أبنائنا، أمام أعين الشعب الذي أحس مقدمه؟ وددت لو رجعت أدراجي ونقضت كل ما عقد، ونسيت سريرنا المخزي، ولم أصبح أمام الموتى الذين ينتظرونني إلا زوج لايوس وحده ... (تدخل الجوقتان وتخرج جوكاست.)
الجوقتان (تتحاوران) :
أين تذهب الملكة؟ - تستخفي بالطبع.- أين ذهب أوديب؟- يستخفي أيضا؛ إنه خجل.- أن يتزوج الرجل أمه ويولدها الولد ... كل هذا من شئون الأسرة وهو لا يعنينا، إنما يعني الآلهة الذين يسخطون عليه.- وهناك قتل لايوس وقد اقترفه ابنه أوديب.- وقد وعد أوديب أن يثأر له. يمكن أن يقال: إنه اضطر نفسه إلى حرج شديد؛ يجب أن يثأر الثائر من نفسه ، وأن يتخذ نفسه على أنه مقترف الجريمة.- لم يكن بد لإرضاء الآلهة من سقوط ملك، فقد كان شقاؤنا عظيما. - أليس من الطبيعي أن يضحي الملك بنفسه في سبيل شعبه؟ - بلى! إذا كان من شأن هذه التضحية أن تنقذنا من الشقاء. (الجوقتان معا)
أي أوديب الذي كان يرى نفسه سعيدا ويقترف في سريره أشد الآثام خزيا: ليتنا لم نعرفك. لقد أنقذتنا من أبي الهول، هذا حق، ولكن ازدراءك للآلهة يجر علينا آلاما لا تحصى ولا يكافئها ما قدمت إلينا من خير. كل نعيم ينال على رغم الآلهة فهو نعيم مغصوب يجب أن يؤدى عنه الحساب إلى الآلهة عاجلا أو آجلا. لنعلن هذه الآراء جهرة؛ فإنا نرى تيرسياس مقبلا. (يدخل تيرسياس ومعه أبناء أوديب.)
تيرسياس :
يا بني: إنكم لتعلمون أين تجدون الملجأ إذا فقدتم حماية أبيكم. هاكم سيدفعكم إلى الحياة دفعا، وقد التزم أوديب بقسمه أن يثأر من قاتل لايوس.
إتيوكل :
ما أرى أنه يستطيع أن يرى لنفسه الحق في عرش ثيبا.
بولينيس :
ما أرى أنه يستطيع البقاء في المدينة.
أنتيجون :
لا تنطقا بهذه الألفاظ القاسية التي تسمعها الآلهة ويرددونها عليكما.
إتيوكل :
سنتبع سيرة أبينا.
بولينيس :
لن نحتاج نحن إلى أن نقتله لنرث عنه العرش.
أنتيجون :
إن أبي لم يقترف جريمته عن عمد.
إتيوكل :
لن تكون لنا خطايا نحتاج إلى أن نكفر عنها. (يسمع صياح)
الجوقة :
ما هذا الصياح؟
إسمين :
إني خائفة.
أنتيجون :
تعالي إلى جانبي. (يخرج كريون من القصر.)
كريون :
إن بشاعة العقاب لأشنع من بشاعة الجريمة، لقد قضت أمكم جوكاست. لقد انتهت حياتها حينما كنت ألاحظ أوديب «هذا ما لم يكن لعيني أن ترياه.» كذلك قال أوديب حين عرفنا النبأ. أما أنا فقد رأيته، رأيت أختي البائسة معلقة، وبينما كنت أجد في إسعافها اندفع أوديب إلى المعطف الملكي فانتزع منه مشابكه الذهبية، ثم دفع بها في عينيه دفعا عنيفا، وإذا الدم والصديد يتفجران منهما حتى يصيبني رشاشهما، وإذا هما يسيلان على وجهه. وهذا الصياح الذي كنتم تسمعونه إنما هو صياحه ، صياح الروع أولا، ثم صياح الألم بعد ذلك.
تيرسياس :
لم نعد نسمع هذا الصياح.
كريون :
لعله أغمي عليه.
الجوقة :
لا، بل ها هو ذا. إنه لمتردد الخطو.
أنتيجون (تترك إسمين وتسرع للقاء أوديب) :
أبت ...
أوديب :
هذه أنتيجون التي أمس الآن شعرها؟ ابنتي وأختي في وقت واحد ...
أنتيجون :
لا تذكر هذا الخزي إلى آخر الدهر. لا أريد أن أعرف إلا أني ابنتك.
أوديب :
أنت التي لم تكذبني قط. أنبئي هذا الذي لم يعد يرى: أين يكون تيرسياس.
أنتيجون :
هنا. أمامك يا أبت.
أوديب :
قريبا مني بحيث يسمع صوتي؟
تيرسياس :
نعم، إني أسمعك يا أوديب. أتريد أن تتحدث إلي؟
أوديب :
أهذا هو الذي كنت تريده يا تيرسياس؟ كنت تحسدني على ضوئي، فأردت أن تجرني إلى ظلمتك؟ إني مثلك أشاهد الآن الظلمة الإلهية. لقد عاقبت عيني اللتين لم تضيئا لي الطريق. لن تستطيع منذ الآن أن تستطيل علي بما يمنحك العمى من تفوق.
تيرسياس :
إذن فهي الكبرياء التي دفعتك إلى أن تفقأ عينيك. لم يكن الإله ينتظر منك هذا الإثم الجديد ثمنا لجريمتك الأولى، إنما كان ينتظر منك الندم ليس غير.
أوديب :
الآن وقد ثاب إلي الهدوء وسكت عني الألم وفارقني السخط على نفسي، أستطيع أن أجادلك يا تيرسياس. إني لمعجب بما تعرض علي من ندم. أنت الذي يزعم أن الآلهة يقودوننا، وأني لم أكن أستطيع أن أفلت مما قدروا علي.
لعل هذه التضحية التي فرضتها على نفسي كانت مقدرة علي هي أيضا؛ بحيث لم أكن أستطيع أن أتجنبها. لا بأس! لقد ضحيت بنفسي عن إرادة ورضا. لقد بلغت من الرفعة منزلة لم أكن أستطيع أن أعدوها إلا إذا وثبت محاربا لنفسي.
كريون :
إني لسعيد أيها العزيز أوديب بأن ألمك محتمل على الأقل. فقد بقي علي أن أنبئك بشيء مؤلم؛ لن تستطيع البقاء في ثيبا بعد كل الذي كان، وبعد أن علم الشعب بجريمتك.
الجوقة :
إننا نطلب أن ينفذ أمر الآلهة، وأن تعفينا من محضرك ومن آلامنا.
كريون :
إن إتيوكل وبولينيس ليطمعان في العرش منذ الآن. وإذ كانا ما يزالان حدثين لا يستطيعان النهوض بأعباء الملك، فسأستأنف الوصاية على العرش مرة أخرى.
تيرسياس :
ما أرى أن شيئا يدهشك حين ترى ابنيك ينتفعان مما قدمت إليهما من قدوة.
أوديب :
سأترك لهما راضيا هذه المملكة التي لم يفتحاها، ولم يستحقاها، ولكنهما لم ينتفعا من القدوة التي قدمت لهما إلا باليسير الذي يتملق شهواتهما. لقد أخذا بالسهل وتجنبا الصعب العسير.
أنتيجون :
أي أبت، إني لأعلم أنك حين تختار لا تؤثر من الأمر إلا أنبله، ومن أجل ذلك أزمعت ألا أفارقك.
تيرسياس :
لقد وعدت بأن تمنحي نفسك للإله، فلن تستطيعي أن تتصرفي في أمرك كما تحبين.
أنتيجون :
كلا! لن أخلف موعدي. إني حين أفلت منك يا تيرسياس سأظل وفية للإله. بل يخيل إلي أني أخلص في خدمته حين أتبع والدي أكثر مما أخلص فيها إن بقيت معك؛ لقد سمعتك تعلمني حقائق الإله إلى اليوم. ولكن حظي من التقوى سيعظم ويزداد حين أصغي لعقلي وقلبي. أي أبت، ضع يدك على كتفي، فلن يدركني ضعف ولا وهن؛ تستطيع أن تعتمد علي. سأزيل الشوك من طريقك. قل إلى أين تريد أن تذهب؟
أوديب :
لا أدري، سأذهب أمامي ... لا ألوي على شيء، لا وطن لي ولا أسرة ...
إسمين :
إني ليحزنني أن أراكما تذهبان على هذا النحو؛ سألبس ثياب الحداد، وسأدرككما ممتطية جوادا.
تيرسياس :
قبل أن ينطلق أوديب اسمعوا جميعا لما أوحى إلي الآلهة؛ إنهم يعدون أن يمنحوا أعظم بركاتهم للأرض التي تستقر فيها جثته.
كريون :
حسن ...! أترى أنك تحسن إن أقمت بيننا؟ نستطيع أن نتفق.
أوديب :
لقد سبقت الكلمة يا كريون. إن نفسي قد فارقت ثيبا منذ الآن، وقد تقطع كل ما بيننا وبين الماضي من صلات. لست ملكا، لست شيئا، إنما ابن سبيل لا اسم له، قد نزل عن ثرائه وعن مجده، بل عن نفسه أيضا.
الجوقة :
أقم معنا يا أوديب؛ سنعنى بك، سترى. تذكر أنك أسديت إلينا فيما مضى من الدهر عوارف كثيرة. لئن كانت جريمتك قد أحفظت علينا الآلهة، لقد انتقمت لها من نفسك انتقاما عظيما. فكر في الأعزاء عليك من أبناء ثيبا، فكر في شعبك. ما الذي يعنيك من أمر الذين لا يعرفونك؟!
أوديب :
مهما يكونوا فإنهم من الناس؛ وإنه ليلذ لي أن أحمل إليهم السعادة ثمنا لما ألقى من ألم.
تيرسياس :
ما ينبغي أن تريد لهم السعادة، وإنما ينبغي أن تريد لهم النجاة.
أوديب :
سأدعك تفسر هذا للشعب. وداعا! تعالي يا ابنتي؛ أنت الوحيدة بين أبنائي أريد أن أعرف نفسي فيك، وأريد أن أكل نفسي إليك. أي أنتيجون النقية: لن أسلم قيادي إلا إليك.
ثيسيوس
أهدي هذا السفر الأخير إلى آن هورجون في غير تكلف، فبفضل ضيافتها الحلوة ورعايتها المتصلة وعنايتها الدائمة استطعت أن أتمه، وأسجل هنا اعترافي بالجميل لجاك هورجون، ولكل الذين أتاحوا لي أثناء هذا النفي الطويل أن أعرف قيمة الصداقة، وبنوع خاص لجان أمروش الذي أحسن تشجيعي على هذا الجهد. ولعلي لم أكن بدونه أجد الميل إلى البدء فيه، مع أني أفكر في كتابه منذ وقت طويل.
الفصل الأول
لقد كنت أتمنى أن أقص حياتي على ابني هيبوليت
1
لأعظه وأعلمه، ولكن قد قضى، وسأقص حياتي مع ذلك. وقد كان مما لا سبيل إليه - لو عاش هيبوليت - أن أروي بعض حوادث الغرام التي عرضت لي. فقد كان يظهر غلوا شديدا في الحياء، ولم أكن أجرؤ على أن أتحدث أمامه عما لقيت من الحب. على أن الحب لم يكن ذا خطر إلا في الشطر الأول من حياتي. ولكنه علمني على الأقل أن أعرف نفسي بالقياس إلى الوحوش المختلفة التي قهرتها.
فقد كنت أقول لهيبوليت: «يجب قبل كل شيء أن يعرف الإنسان من هو، ثم يحسن بعد ذلك أن نستحضر في شعورنا ونأخذ بأيدينا ما ترك لنا من ميراث. وسواء أردت ذلك أم لم ترده، فأنت الآن - كما كنت أنا من قبلك - ابن ملك. لا سبيل إلى اتقاء ذلك؛ إنه واقع، إنه ملزم.»
ولكن هيبوليت لم يكن يلقي إلى ذلك سمعا. كانت عنايته به أقل من عنايتي حين كنت في سنه، وكان مثلي لا يحفل بأن يعرف من ذلك شيئا. يا للأعوام الأولى التي نحياها في البراءة والنقاء! نشأة غير مكترثة! لقد كنت الريح وكنت الموج، وكنت نباتا، وكنت طائرا. لم أكن أقف عند نفسي، وكان كل اتصال بيني وبين العالم الخارجي لا يعلمني حدود طاقتي بمقدار ما يوقظ في من ميل إلى اللذات.
لقد مسحت بيدي الثمر وقشر الشجر الرخص، والحصى الأملس على ساحل البحر، وشعر الكلاب والخيل، قبل أن ألمس النساء. لقد كنت أثب إلى كل ما كان يقدم إلي بان،
2
أو ذوس،
3
أو تيتيس،
4
من جمال.
وذات يوم قال لي أبي إن الأمور لا تستطيع أن تمضي على هذا النحو. «لماذا؟» لأني بالطبع كنت ابنه، وكان يجب أن أظهر نفسي كفئا للعرش الذي سأرثه عنه ... على حين كنت أرى نفسي سعيدا بالجلوس عاريا على العشب الرخص، أو على الرملة الملتهبة. ومع ذلك لا أستطيع أن أخطئ أبي؛ فقد كان يحسن بإثارة عقلي خصما لي، وأنا مدين لذلك بكل ما أتيح لي من قيمة فيما بعد، بانقطاعي عن هذه الحياة المهملة مهما يكن هذا الإهمال لذيذا رائقا. لقد علمني أن الإنسان لن يظفر بشيء عظيم، ولا بشيء قيم ولا باق، إلا إذا بذل الجهد في سبيله.
وقد بذلت أول جهد مستجيبا لدعائه. كان ذلك حين كان يدعوني إلى أن أرفع بعض الصخور لأبحث تحتها عن سلاح؛ كان يزعم لي أن بوسيدون
5
خبأه، وكان يضحك حين كان يرى هذا التمرين يزيد قوتي نموا واشتدادا. وهذا التمرين العضلي كان يصاحب تمرينا للإرادة. وبعد أن رفعت كثيرا من الصخور الثقال حول القصر باحثا في غير طائل أخذت أحاول أن أنزع أحجار عتبة القصر، هنالك وقفني وقال: إن السلاح أقل خطرا من الذراع التي تحمله، وإن الذراع أقل خطرا من الإرادة العاقلة التي توجهها. هاك السلاح، لم أرد أن أدفعه إليك قبل أن تستحقه؛ وإني أجد عندك الآن الرغبة في اصطناعه، وهذا الميل إلى المجد الذي لن يتركك تصطنعه إلا في الأمور النبيلة ذات الخطر وفيما يسعد الناس. لقد انقضى عصر طفولتك؛ فكن رجلا، تعلم أن تبين للناس ما يمكن أن يكون وما يريد أن يكون واحد منهم. إن هناك أمورا جساما يجب أن تتحقق، فحقق نفسك.
الفصل الثاني
كان أبي إيجيه
1
رجلا كريما ملائما كل الملاءمة لما يجب أن يكون عليه الرجل من الخصال. وأكاد أتوهم في حقيقة الأمر أني لست ابنه إلا ظنا. قيل لي هذا، وقيل لي كذلك إن الإله بوسيدون هو الذي ولدني.
فإذا صح هذا فقد ورثت عن هذا الإله أخلاقي التي لا تثبت على شيء؛ فلم أستطع أن أثبت على حب امرأة، وكان إيجيه يمنعني من ذلك أحيانا. ولكني أحمد له وصايته، وأحمد له كذلك أنه رد في أتيكا كثيرا من الاعتبار والتقدير إلى عبادة أفروديت،
2
ويحزنني أني دفعته إلى الموت بما اضطررت إليه من هذا النسيان الخطير، حين أنسيت أن أرفع على السفينة التي عادت بي من أقريطش
3
شرعا بيضا مكان شرعها السود، كما كان قد تم الاتفاق بيننا على ذلك إذا عدت منتصرا من هذه المغامرة الخطرة.
وليس الإنسان قادرا على أن يفكر في كل شيء؛ وفي الحق أني سألت نفسي - وقلما أسألها - لا أستطيع أن أؤكد أني تركت ذلك عن نسيان؛ فقد كان إيجيه كما قلت يقوم عقبة بيني وبين الحب، ولا سيما بعد أن استكشفت له ميديه
4
وسيلة ترده إلى الشباب حين رأته ورأى نفسه هرما يسرع إليه الفناء، فكان يصدني بأهوائه عن أهوائي، على حين أن طبيعة الأشياء تقتضي أن يتناوب الناس حظوظهم في هذه الحياة. ومهما يكن من شيء فقد علمت حين دخلت أتينا أنه لم يكد يرى الشرع السود حتى قذف بنفسه إلى البحر.
ومن الحقائق أني أديت إلى الناس خدمات جليلة؛ فقد طهرت الأرض من كثير من الطغاة وقطاع الطرق والوحوش، وجبت طرقا خطرة لم يكن المغامرون يحاولون سلوكها إلا خائفين، وصفيت السماء حتى أصبح الناس أقل إحناء للرءوس وأقل خوفا من المفاجآت ...
ويجب الاعتراف أن مظهر الريف في ذلك الوقت لم يكن يشعر بأمن أو طمأنينة؛ فقد كانت تمتد بين القرى المتنائية مسافات من القفر تقطعها طرق مخوفة. وكانت هناك غابات كثاف وثنيات ضيفة بين الجبال. وكان أرصاد من قطاع الطرق قد استقروا في الأماكن المريبة، وجعلوا يقتلون المسافرين وينهبون ما كانوا يحملون، ولم يكونوا يخضعون لرقابة شرطة أو حراس.
وكان قطع الطريق يضاف إلى السطو والسرقة العنيفة، وإلى اعتداء الحيوان المفترس، وإلى هذه القوى المنكرة لعناصر الطبيعة الماكرة، بحيث لم يكن الناس يتبينون حين يرون مغامرا أصابه مكروه: أكان ضحية لمكر الآلهة أم كان ضحية لعدوان الناس؟ كما أنهم لم يكونوا يعلمون أكان هذا الوحش أو ذاك كأبي الهول الذي قهره أوديب والجورجوني
5
التي قتلها بلليروفون
6
صنفا من الناس أم صنفا من الآلهة؟ كل شيء لا يسهل فهمه كان يظن به أنه من عمل الآلهة، وقد كان الدين مليئا بالخوف حتى كان الناس يرون البطولة إثما وفجورا. وكان أول الانتصار الذي ظفر به الإنسان وأعظمه خطرا هو انتصار الإنسان على الآلهة.
ولم يكن سبيل إلى قهر العدو - سواء أكان إنسانا أم إلها - إلا أن تظفر بسلاحه وتقهره بهذا السلاح. كذلك فعلت حين اغتصبت من بيريبتيس
7
سلاحه، وكان ماردا عانيا بعيد الصيت يقيم في مدينة إبيدور.
8
وصعقة ذوس نفسها أؤكد أن وقتا سيأتي يستطيع الناس فيه أن يسخروها لحاجتهم كما استطاع برومثيوس
9
أن يختلس النار من الآلهة.
نعم! هذه هي الانتصارات الحاسمة. أما بالقياس إلى النساء - وهن مصدر قوتي وضعفي في وقت واحد - فلم يتح لي انتصار حاسم قط، وإنما احتجت دائما إلى استئناف الجهاد.
لم أكن أفلت من إحداهن إلا لأقع في حبائل غيرها، ولم أكن أظهر على إحداهن إلا بعد أن تظهر هي علي. لقد كان بيريتوس
10
محقا حين كان يقول - وما أكثر ما كنا نتفق في الرأي - إنما المهم هو ألا يدع الإنسان نفسه يصبح لعبة لإحداهن، كما كان هيرقل
11
بين ذراعي أمفال.
12
ولما كنت لا أستطيع ولا أريد أن أمتنع على النساء، فقد كان يقول لي كلما رآني نهبا للحب: «امض ولكن تحول.»
أما تلك التي أرادت أن تحتاط لي فتكلفت أن تصل بينها وبيني بخيط أمسكته، ولكنه لم يكن يمتد إلى غير مدى، فهي التي ... ولكن الوقت لم يئن للتحدث عن هذه القصة ...
وكانت أنتيوب
13
أقربهن إلى امتلاكي؛ كانت ملكة الأمازون،
14
وكانت كبقية رعيتها الإناث عوراء الصدر ليس لها إلا ثدي واحد، ولكن هذا لم يكن يعيبها. كانت قد مرنت على السباق والصراع، وكانت عضلاتها صلابا غزارا كعضلات المصارعين من فتياننا. جاهدتها، وكانت تضطرب بين ذراعي، كأنها السنور العظيم؛ فإذا نزع سلاحها جاهدت بالمخالب والأسنان، وكانت تثور حين تراني أضحك - وكنت مثلها لا سلاح لي - وتثور خاصة لأنها لم تكن تملك أن تصرف عني حبها. لم تتح لي قط امرأة أجمع منها لخصال العذراء ولا علي بعد ذلك أنها لم ترضع ابننا هيبوليت إلا من ثدي واحد، فقد كنت حريصا على أن يكون هذا العفيف النافر ولي عهدي.
وسأقص فيما بعد ما جعل حياتي كلها حدادا؛ فليس يكفي أن يوجد الإنسان، ولا أن يكون قد وجد، وإنما يجب أن يورث ويعمل بحيث يشعر أن وجوده لم يتم، وأنه ما زال متصلا محتاجا إلى أن يكمل؛ كذلك كان يعيد علي جدي. لقد كان بيتيه
15
وإيجيه أذكى مني قلبا، كما كان بيرتيوس يفضلني الآن في الذكاء.
ولكن يعرف الناس في حسن التقدير. فأما سائر خصال الخير فتأتي بعد ذلك ما دمت لم أفقد قط الإرادة التي تدفعني إلى الرغبة في الإتقان لكل ما أحاول. كما أن لي حظا من شجاعة يدفعني إلى محاولة الأمور الجسام.
كنت من أشد الشباب طمعا، وكانت المآثر التي تنقل إلي عن ابن خالتي هيرقل تزيد شبابي طموحا وقلقا، ولما تركت تريزين
16
وهي المدينة التي كنت أعيش فيها لألحق في أثينا بأبي المفروض، لم أرد أن أسمع للنصائح التي قدمت إلي على ما كانت تمتاز به من سداد. كان يشار علي بركوب البحر؛ لأن طريق البحر أشد أمنا؛ ومن أجل هذا الخطر كنت أوثر طرق البر؛ لأنها بما فيها من التواء كانت تتيح لي أن أظهر حسن بلائي.
وكانت جماعات مختلفة من قطاع الطرق قد ملأت الأرض فسادا أسرفت في ذلك آمنة منذ أخذ هيرقل يستأنث على قدمي أومفال. كنت في السادسة عشرة، وكان الميدان أمامي رحبا، وكانت نوبتي قد حلت، وكان قلبي يتوثب إلى أقصى حدود ما كنت أجد من فرح ومرح.
هنالك صحت: ما حاجتي إلى الأمن أو إلى طريق قد طهرت من الخوف؟! وكنت أزدري الراحة في غير مجد، كما كنت أزدري الترف والكسل. وإذن فقد جربت نفسي حين سلكت إلى أثينا برزخ بيلوبونيز،
17
فعرفت قوة ذراعي، وقوة قلبي، حين قهرت بعض المخوفين من قطاع الطريق: سنيس،
18
بيربيتيس، بروكروست،
19
جيريون،
20 (لقد أخطأت، إنما قهره هيرقل، أما أنا فقد أردت أن أقول سيرسيون)،
21
بل ارتكبت في ذلك الوقت خطأ يسيرا حين أسأت إلى سيرون،
22
وكان فيما يظهر رجلا كريما، حسن النية، حسن الرعاية لمن يمر به، ولكني لم أعلم ذلك إلا بعد فوات الوقت، ومن حيث إني قد ظهرت عليه وقتلته، فقد تقرر أنه كان مجرما أثيما.
وفي طريقي إلى أثينا أيضا لقيت أول ابتسامات الحب بين جماعة من بنات الهليون. كانت بيريجون
23
طويلة لدنة، وكنت قد قتلت أباها، فكافأتها بأن منحتها غلاما رائعا هو: ميناليب.
24
وقد فقدت الصبي كما فقدت أمه؛ لأني تحولت عنهما، حريصا على ألا أتأخر في الطريق. وكذلك كنت دائما أقل اشتغالا واتصالا بما عملت مني بما ينبغي أن أعمل؛ وكنت أرى أن أشد الأشياء خطرا هو ما أنتظر لا ما أتممت.
ومن هنا لن أطيل الوقوف عند هذه المعدات اليسيرة التي لم تكد تمسني إلا قليلا. ولكن ها أنا ذا بإزاء مغامرة رائعة لم يتح مثلها لهيرقل نفسه، فيجب أن أقصها مفصلة.
الفصل الثالث
إنها قصة معقدة. يجب أن أقول قبل كل شيء إن جزيرة أقريطش كانت قوية، وكان يملك عليها مينوس،
1
وكان يرى أتيكا مسئولة عن موت ابنه أندروجيه،
2
وكان قد فرض علينا ليعاقبنا ضريبة يجب أن نؤديها في كل عام؛ كان يجب أن نقدم إليه سبعة من الفتيان وسبعا من الفتيات ليقربوا فيما كان يقال طعاما للمينوتور،
3
وهو الكائن الغريب الذي ولدته باسيفاييه
4
زوج ميدوس حين كانت بينها وبين ثور بعض الصلات. وكان هؤلاء الضحايا يختارون من طريق القرعة.
وكنت في هذا العام قد عدت إلى بلاد اليونان. ومع أن الحظ كان خليقا أن يحميني - فهو يحمي الأمراء عن رضا - فقد ألححت في أن أكون بين الضحايا على رغم ما وجدت من مقاومة الملك والدي ... فلست في حاجة إلى الامتيازات الموروثة، ولا أريد أن أمتاز إلا بشجاعتي وبأسي.
وكنت أدير في نفسي أني سأقهر المينوتور وأريح اليونان من هذه الضريبة البشعة، وكنت على ذلك مشوقا إلى أن أرى أقريطش التي كانت ترسل إلينا في أتيكا بغير انقطاع أشياء جميلة مترفة غريبة؛ فقد سافرت إذن بعد أن انضممت إلى الثلاثة عشر الآخرين، وبينهم صديقي بيريتوس.
وقد ألقت سفينتنا مرساها ذات صباح من أيام مارس في ضاحية أمنيسوس،
5
وهي الميناء القريب بمدينة كنوسوس
6
عاصمة الجزيرة حيث يقيم الملك وحيث بنى قصره؛ وكان يجب أن نصل من الليل، ولكن عاصفة شديدة أخرتنا. فلما هبطنا إلى الساحل أحاط بنا أحراس مسلحون، ثم أخذوا سيفي وسيف صديقي بيريتوس، واستوثقوا من أننا لا نحمل سلاحا آخر، ثم قادونا لنمثل بين يدي الملك الذي أقبل من كنوسوس مع حاشيته.
وكانت جماعات ضخمة من الشعب تزدحم لترانا؛ وكان الرجال جميعا عراة الصدور والظهور، وكان مينوس وحده، وقد جلس تحت مظلته قد اتخذ رداء أحمر قانيا غير مخيط يتدلى من كتفيه إلى كعبيه في أثناء فخمة، وعلى صدره العريض كأنه صدر ذوس قد انتظمت عقود ثلاثة بعضها فوق بعض. وكثير من أهل الجزيرة يتخذون مثل هذه العقود، ولكنها عقود مبتذلة. أما عقود الملك فكانت تأتلف من الجمان وقطع من الذهب قد نقشت عليها أزهار السوسن.
وكان يجلس على عرش تعلوه الفأس المثناة، واتخذ في يمينه التي قدمها إلى أمام مباعدا بينها وبين جسمه صولجانا من الذهب يبلغ قامته طولا، وأمسك بيده الأخرى زهرة مثلثة الأوراق تشبه ما اشتملت عليه عقوده لولا أنها أكبر منها، وهي في أكبر الظن من ذهب. وعلى تاجه الذهبي قامت علامة ضخمة من ريش الطاووس والنعام والألكيون.
7
وقد أطال النظر إلينا بعد أن رحب بنا في جزيرته مجريا على ثغره ابتسامة توشك أن تكون ساخرة؛ فقد كان يعلم أننا إنما أتينا إلى جزيرته مقضيا علينا.
وكانت الملكة وابنتاها الأميرتان قائمات إلى جانبه. وقد خيل إلي فورا أن كبرى الأميرتين قد لحظتني. وقد هم الأحراس أن يقودونا، ولكني رأيتها تميل إلى أذن الملك وتقول له في صوت خافت باليونانية، وقد سمعتها لأني دقيق السمع: «إني أضرع إليك في أن تبقي على هذا.» تقول ذلك وهي تشير إلي بأصبعها. هنالك ابتسم مينوس وأصدر أمره فلم يقد الحرس إلا رفاقي. ولم أكد أنفرد بين يديه حتى أخذ في سؤالي.
ومع أني قد أزمعت أن أصدر عن الحذر الشديد في كل ما آتي، وألا أظهر شيئا من نسبي النبيل، ولا من خططي الجريئة، وقد ظهر لي فجأة أن من الخير أن ألعب لعبا صريحا ما دامت الأميرة قد التفتت إلي، وأن شيئا لن يستطيع أن يصل بينها وبيني، ويكفل لي عطف الملك علي كما يستطيع ذلك إعلاني إليهما أني حفيد بيتيه. بل قد لمحت بأن الناس يتحدثون في أتيكا بأن بوسيدون العظيم قد ولدني؛ هنالك قال الملك في جد: سنتبين ذلك بعد قليل حين نخضعك لامتحان الموج؛ فلم أتردد في أن أجيب بأني واثق بأن أخرج ظافرا من كل امتحان. وقد أظهر سيدات القصر هؤلاء شيئا من التأثر حين رأين ثقتي بنفسي، وإن كنت لم أر ذلك في وجه مينوس.
قال الملك: أما الآن فانصرف إلى تجديد قواك؛ فإن رفاقك ينتظرونك على المائدة، ويجب أن تكون محتاجا كما يقال هنا إلى أن تقيم أودك بعد هذه الليلة الشاقة. خذ حظك من الراحة؛ وأرجو أن تشهد عند آخر النهار ألعابا رسمية ستقام تكريما لك.
ثم نستصحبك أيها الأمير ثيسيوس إلى كنوسوس، حيث تنام في غرفة من غرفات القصر، ثم تشاركنا من غد في العشاء. سيكون عشاء يسيرا، عشاء أسرة، ترسل فيه نفسك على سجيتها ويسعد هؤلاء السيدات بأن يسمعنك تحدثهن بما قدمت من مآثر، وما أحسنت من بلاء. أما الآن فسيتخذن زينتهن استعدادا للحفل. سنلقاك هناك، وستجلس مع رفاقك تحت المقصورة الملكية مباشرة، ذلك مكان مقسوم لك لأنك أمير. وسيشرف رفاقك بالجلوس فيه معك؛ فما أحب أن أفرق بينك وبينهم.
وقد أقيم هذا الحفل في ملعب عظيم في شكل نصف دائرة ينفرج مما يلي البحر، وقد شهده جمهور ضخم من الرجال والنساء أقبلوا من كنوسوس وليتوس،
8
بل جاء بعضهم من جورتين، على أنها تبعد عن مكان الحفل نحو مائتي فرسخ، وجاء بعض الناس من مدن وقرى أخرى مجاورة، كما جاء آخرون من الريف الذي يقال إنه مكتظ بالسكان.
وكان الدهش يأخذني من جميع حواسي، ولم أكن أستطيع أن أصور إلى أي حد كنت أرى أهل الجزيرة غرباء، ولما لم يكن يتاح لهم جميعا أن يتخذوا مجالس في المدرج، فقد كانوا يزدحمون ويتدافعون في المسارب وعلى درجات السلم. وكانت جماعة النساء ضخمة كجماعة الرجال، وكن عاريات الصدور والظهور، وقليل منهن كن يتخذن القراطق قد انفرجت عن صدورهن انفراجا واسعا رأيته مخالفا للحياء لما كان يظهر من أثدائهن.
وكانوا جميعا رجالا ونساء قد اتخذوا مناطق شدوها شدا عنيفا على أوساطهم؛ فبدت خصورهم غاية في الضآلة والنحول كأنها المرامل. وكان الرجال سمرا قد اتخذوا في أيديهم وسواعدهم وأعناقهم من الخواتم والأساور والعقود مثل ما اتخذ النساء.
وكانت كثرتهن تمتاز ببياض البشرة؛ وكانت الوجوه كلها حليقة لا يستثنى من ذلك إلا وجه الملك، ووجه أخيه رادامنت،
9
ووجه صديقه ديدال.
10
وكان سيدات القصر قد اتخذن أماكنهن في المقصورة التي أجلسنا تحتها، وقد عرضن زينة رائعة مترفة من الثياب والحلي، وأشرفن على ميدان اللعب، وكانت كل واحدة منهن قد أحاطت خصرها بثوب ألحقت به قطع عراض من النسيج، فهو منتفش في صورة رائعة مما يلي الخصر، ثم هو يتدلى في منظر جميل مختلط حتى يبلغ الأقدام التي حبست في أحذية من الجلد الأبيض.
وكانت الملكة في وسط المقصورة تمتاز منهن جميعا بزينتها الفخمة؛ قد عري صدرها وذراعاها. وقد فصلت على ثدييها العظيمين ضروب الجوهر من اللؤلؤ والمينا والأحجار النفيسة. وقد أحيط وجهها بخصل طويلة سود، ورصفت على جبهتها خصيلات دقاق. وكانت شرهة الشفتين، منقبضة الأنف، كبيرة العينين فارغتهما، ترسل منهما نظرات توشك أن تشبه نظرات الصوار. وقد اتخذت شيئا يشبه أن يكون تاجا من الذهب لم تضعه على شعرها مباشرة، وإنما وضعته على قلنسوة قاتمة غريبة تثير الضحك، وهي تنفذ من التاج وتنتهي بطرف مرتفع محدد ينعطف إلى الأمام كأنه القرن قد انحنى على جبهتها.
وكان قرطقها المفتوح من أمام إلى منطقتها يرقى على ظهرها حتى يبلغ العنق، فيحاول أن يحيطه ببنيقة شديدة الانفراج.
وكان ثوبها النصفي المنتشر من حولها يعرض للإعجاب على بياضه المشرب بالصفرة ضروبا من الطراز بعضها دون بعض، منها ما يصور السوسن الأرجواني، ومنها ما يصور الزعفران، وأسفلها يصور زهرات البنفسج وقد أحاطت بها أوراقها الخضر. ولما كنت تحت مقصورتها كنت أراها من قريب جدا كلما التفت إلى وراء. وكنت أفتن بحسن اختيار الألوان، وجمال الطراز، ودقة العمل، وبلوغه حد الكمال.
وكانت أريان
11
ابنتها الكبرى قد جلست عن يمين أمها مشرفة على اللعب، وقد اتخذت زينة أقل فخامة من زينة الملكة، واتخذت ثوبها من لون آخر؛ فلم يكن ثوبها النصفي ولا ثوب أختها يحملان إلا صفين من الطراز؛ فأما الصف الأعلى فكان يرسم كلابا ومها، وأما الصف الأسفل فكان يرسم كلابا وحجلا.
أما فيدر
12
فكان واضحا أنها أصغر من أختها سنا، وقد جلست عن يسار أمها باسيفاييه، ورسم الصف الأعلى من طراز ثوبها أطفالا يعدون وراء الأطواق، كما رسم الصف الأسفل أطفالا صغارا قد انحنوا يلعبون بالحصباء. وكانت تنعم بمنظر اللعب في طفولة ظاهرة، وكنت أنا لا أتبع اللعب إلا قليلا، قد أخرجني عن طوري كل هذه الأشياء التي لا عهد لي بمثلها، ولكني كنت شديد الدهش بما كنت أرى من مرونة اللاعبين ورشاقتهم وسرعتهم حين كانوا يغامرون بالظهور على الميدان بعد أن تتركه لهم جماعات الغناء والرقص والصراع.
وإذ كنت أتهيأ لمواجهة المينوتور؛ فقد كنت حريصا على أن أنتفع بما كنت أرى من مكرهم وتسللهم؛ لعلي أستعين بشيء من ذلك على إجهاد الثور وإذهاله.
الفصل الرابع
ولما قدمت أريان الجائزة لآخر الفائزين، نهض مينوس مؤذنا بانتهاء الحفل، ودعاني وحيدا للقائه، وقد وقف يحيط به الحرس.
فلما صرت بين يديه قال لي: سأقودك أيها الأمير ثيسيوس الآن إلى ساحل البحر وأمتحنك هناك؛ لنتبين أنك في الحق من ولد بوسيدون.
ثم قادني إلى صخرة ترتفع متقدمة إلى البحر ويلطم الموج أسفلها، وقال لي: سألقي تاجي في البحر لأبين لك أني واثق بأنك سترده إلي.
وكانت الملكة والأميرتان قد رغبتا في شهود الامتحان، فشجعني ذلك واندفعت أقول معترضا: أكلب أنا لأرد شيئا إلى صاحبه، وإن كان هذا الشيء تاجا! دعني أغص في البحر لغير غاية، ولك أن آتيك بما يدلك على أني قد أحسنت الغوص.
ودفعت الجراءة إلى أبعد من هذا؛ فقد مرت نسمة قوية بعض الشيء، فنزعت عن كتف الأميرة أريان طرحة وحملتها نحوي، فلم ألبث أن التقفتها مبتسما كأن الأميرة أو إلها من الآلهة قد قدمها إلي، ثم خرجت من الصدارة التي كانت تشل حركتي وأحطت خصري بهذه الطرحة ممرا طرفها بين فخذي، ثم آخذا له إلى أمام حتى أثبته عند الخصر، أخيل بذلك أن الحياء هو الذي يدفعني إلى هذا الصنيع لأستر من جسمي ما لا ينبغي أن يرى، ولكني في حقيقة الأمر إنما أردت أن أخفي منطقة من الجلد كنت قد استبقيتها، وكنت قد علقت بهذه المنطقة كيسا صغيرا من الجلد. ولم أكن قد أحرزت في هذا الكيس شيئا من النقد، وإنما أحرزت فيه طائفة من الأحجار الكريمة اصطحبتها من بلاد اليونان ثقة مني بأن الأحجار الكريمة تحتفظ بقيمتها في كل مكان.
ثم تنفست تنفسا عميقا، واندفعت إلى البحر فغصت فيه؛ غصت فيه ممعنا في الغوص، وكنت في ذلك ماهرا، ثم لم أطف على سطح الماء إلا بعد أن استخرجت من الكيس ثلاثة أحجار من نفيس الجوهر؛ أحدها من عقيق الجزع والآخران من العقيق الأخضر. فلما بلغت الساحل قدمت في ظرف إلى الملكة عقيق الجزع، وإلى كل من الأميرتين حجرا آخر، مظهرا أني قد استخرجتها من القاع، بل مظهرا أن بوسيدون قد قدمها إلي لأهديها إلى هؤلاء السيدات.
ولم يكن بد من هذه الحيلة؛ فلم يكن من السائغ أن توجد في أعماق البحر عند جزيرة أقريطش هذه الأحجار النادرة في بلادنا، فضلا عن أن أجد الوقت لتخيرها تحت الماء. وكان هذا أدل من الامتحان نفسه على أني من نسل إلهي.
هنالك رد مينوس إلي سيفي.
ثم حملتنا العربات بعد قليل إلى كنوسوس.
الفصل الخامس
وكنت مجهودا قد بلغ بي الإعياء أقصاه، حتى لم أدهش لهذا الفناء العظيم المنبسط أمام القصر، ولهذا السلم الضخم ذي العمد الدقاق، ولهذه الدهاليز الملتوية التي كان يقودني فيها خدم خفاف يسعون بين يدي بالمشاعل حتى انتهوا بي إلى الغرفة التي هيئت لي في الطابق الثاني، والتي كانت تضيئها جماعة من المصابيح.
فلم أكد أدخلها حتى أطفئت كلها إلا واحدا. وعلى مضجع وثير عطر غرقت منذ تركوني في نوم عميق حتى كان المساء من غد.
ومع ذلك فقد نمت في العربة نوما طويلا، فلم نصل إلى كنوسوس إلا حين أسفر الصبح، وبعد سفر أنفقنا فيه الليل كله.
ولست آلف الغربة، فلم ألبث أن لاحظت في قصر مينوس أني يوناني، وأحسست أني غريب، وكنت أدهش لكل ما ليس لي به عهد من الأزياء والعادات، وما يتخذ الناس في سيرتهم من الصور والحركات والأثاث (وكان الأثاث في قصر أبي قليلا ضئيلا)، كما كنت أدهش للأدوات وطرق استعمالها.
كنت أرى نفسي متوحشا بين هذا الترف الرقيق، وكان خطئي يزداد كلما دعا إلى الابتسام، وقد كنت متعودا أن أتناول الطعام بغير أداة، أحمله إلى فمي بأصابعي، وكنت أجد هذه الشوك المعدنية أو الذهبية المنقوشة، وهذه السكاكين، أثقل تصريفا علي حين أجلس إلى المائدة من السلاح حين كنت أصرفه في الميدان.
وكانت النظرات توجه إلي وتثبت في، وكنت أمعن في الخطأ حين كنت أشارك في الحديث. يا للآلهة! لقد كنت أجد نفسي في غير موضعي؛ وأنا الذي لم يحسن قط شيئا إلا أثناء الوحدة، أصبحت أراني أشارك في حياة اجتماعية. ولم يكن المهم أن أجاهد، وأن أتخذ القوة وسيلة إلى الفوز، وإنما كان المهم أن أعجب، وكنت قليل العلم بوسائل ذلك إلى حد بعيد.
وقد أجلست إلى مائدة العشاء بين الأميرتين، وكان العشاء فيما قيل بسيطا، عشاء أسرة لا تكلف فيه. والواقع أن أحدا لم يشهده إلا الملك والملكة، ورادامانت أخو الملك، والأميرتان وأخوهما الصبي جلوكوس
1
ومربيه اليوناني الكورنثي الذي لم يعن أحد بتقديمه إلي.
وقد دعيت إلى أن أقص في لغتي (التي كان أهل القصر يفهمونها ويتكلمونها على أحسن وجه مع شيء قليل من انحراف اللسان) ما كان يسمى حسن بلائي. وقد سرني أن رأيت الأميرة الفتاة فيدر وأخاها جلوكوس يضحكان حين كنت أقص تمثيل بروكروست بضحاياه وإخضاعي إياه لنفس المثلة حين كنت أقطع من أطرافه ما كان يتجاوز مضجعه. ولكنهم تجنبوا في شيء من الرقة أن يشيروا إلى المهمة التي جاءت بي إلى أقريطش، ولم ينظروا إلي إلا على أني مسافر ضيف.
ولم تنقطع أريان طوال العشاء عن مداعبة ركبتي بركبتها تحت غطاء المائدة، ولكن الحرارة التي كانت تنبعث من فيدر الفتاة هي التي كانت تشيع في القلق، على حين كانت باسيفاييه الملكة جالسة أمامي تزدردني بلحظها ازدرادا، وكان مينوس إلى جانبها يحتفظ على ثغره بابتسامة صافية لا تعرف الكدر.
أما رادامانت ذو اللحية الطويلة الشقراء، فقد كان وحده يظهر شيئا من العبوس. وقد انصرف الملك وأخوه عن غرفة المائدة بعد الصنف الرابع؛ لأنهما كانا مضطرين فيما كانا يقولان إلى الجلوس للقضاء، ولم أفهم إلا أخيرا معنى ما كانا يريدان.
لم أكن قد برئت بعد من ألم البحر، وقد أكلت كثيرا وشربت أكثر مما أكلت ألوانا مختلفة من الخمر، وفنونا أخرى من الأشربة، بحيث لم يمض إلا وقت قصير حتى دارت بي الأرض وأنكرت نفسي؛ فلم أتعود من قبل أن أشرب غير الماء أو النبيذ المقتول.
ولما كدت أفقد الصواب وكنت محتفظا بفضل من قوة يمكنني من النهوض، استأذنت في الخروج؛ هنالك قادتني الملكة إلى حمام صغير متصل بمنزلها من القصر. فلما تخففت مما كان يثقلني بقيء غزير لحقت بها في غرفتها؛ فأجلستني إلى جانبها على فراش وثير، وأخذت تتحدث إلي. قالت: أي صديقي الشاب ... أتأذن في أن أدعوك بهذا الدعاء لننتفع مسرعين بهذه اللحظة القصيرة التي يخلو فيها كلانا إلى صاحبه! لست كما تظن، ولست أريد شخصك بريبة على ما أتيح لك من جمال وفتنة.
وعلى إلحاحها في أنها لم تكن تتجه إلا إلى نفسي أو إلى شيء لا أعرفه في أعماق ضميري، لم تر بأسا بأن ترفع يدها إلى جبهتي؛ ثم تدسها من دون صدارتي الجلدية متحسسة عضلات صدري كأنها تريد أن تتثبت من محضري. قالت: لست أجهل ما جاء بك إلى هذه الجزيرة، وأريد أن أتقي خطأ؛ فقد أقبلت مزمعا القتل. أقبلت تريد أن تصارع ابني. ولست أعلم بماذا حدثت من أمره، وليس يعنيني أن أعلم. آه لا تصم أذنيك عما يوجه إليك قلبي من دعاء؛ ليكن المينوتور هو الوحش الذي صور لك أو لا يكن، فإنه ابني.
وهنا رأيت من حسن الذوق أن أقول إني أحب الوحوش! ولكنها مضت في حديثها دون أن تسمع لي: افهم عني! إني أضرع إليك! إن لي طبيعة متصوفة تحب، بل لا تحب إلا ما يتصل بالآلهة. والشيء الذي يغيظ هو أننا لا نعلم من أين يبتدئ الإله ولا أين ينتهي. وقد أطلت عشرة قريبتي ليدا
2
ومن أجلها اتخذ الإله صورة بجعة. وقد فهم مينوس طمعي في أن ألد له وارثا من أبناء الآلهة. ولكن كيف السبيل إلى أن نميز ما يبقى من الحيوان فيما يلقي الآلهة أنفسهم في الأرحام؟ وإذا كان قد كتب علي أن أندم على خطئي - وأنا أشعر بأن تحدثي إليك على هذا النحو يسلب الأمر كل عظمته - فإني أؤكد لك أي ثيسيوس أن الأمر كان إلهيا حقا في اللحظة نفسها. فقد ينبغي أن تعلم أن ثوري لم يكن حيوانا عاديا. كان بوسيدون قد قدمه إلينا، كان يجب أن نرده إليه قربانا، ولكن مينوس رآه أجمل وأروع من أن يضحي به. وهذا هو الذي حملني فيما بعد على أن أفسر زلتي بأنها كانت انتقاما من الإله. وأنت لا تجهل أن حماتي أوروب
3
قد اختطفها ثور تقمصه ذوس، ومن زواجها بهذا الثور ولد مينوس نفسه. وهذا هو الذي حمل أسرته على أن تعظم أمر الثيرة. فلما ولد المينوتور ورأيت الملك يقطب حاجبيه لم يكن لي إلا أن أقول له: وأمك ما خطبها؟ وكان من الحق عليه أن يفهم أن من الممكن أن أكون قد أخطأت، وهو رجل حكيم، وهو يعتقد أن ذوس قد ولاه مع أخيه رادامانت القضاء في دار الموتى. وهو يرى أن من الحق أن يفهم الإنسان قبل أن يقضي ويقدر أنه لن يكون قاضيا عدلا إلا بعد أن يمتحن في نفسه أو في أسرته بكل ألوان المحن. وفي هذا تشجيع عظيم لذوي قرابته، فأبناؤه وأنا - على ما يكون بيننا من اختلاف الأمزجة والأهواء - نعمل بأغلاطنا الخاصة لنحسن إعداده لمنصبه المنتظر، والمينوتور نفسه يشارك في ذلك عن غير علم. ومن أجل ذلك أطلب إليك يا ثيسيوس، بل أتوسل إليك لا في ألا تسوءه، بل في أن تصالحه وتتفق معه على نحو يمحو الخصومة بين اليونان وأقريطش، ويزيل آثارها المنكرة بين البلدين.
كذلك كانت تتحدث معملة يدها في إلحاح من دون صدارتي حتى ضقت بذلك أشد الضيق؛ فقد كنت متأثرا ببخار النبيذ وبهذا العطر الأرج الذي كان يفلت مع ثدييها من قرطقها المفتوح. قالت: لنعد إلى الأمر الإلهي؛ فقد يجب دائما أن نعود إليه ، وكيف لا تشعر يا ثيسيوس بأن إلها قد تقمصك؟ ...
وكان مما يزيد نفسي ضيقا أن أريان ذات الجمال الرائع الفاتن - وإن كنت أوثر أختها الصغرى - كانت قد واعدتني باللحظ واللفظ على أن نلتقي في الحديقة بعد أن أفيق.
الفصل السادس
أي حديقة! ولأي قصر! يا لها جنة مشوقة قد تعلقت بانتظار شيء لا أدري ما هو ... تحت ضوء القمر.
كان ذلك في شهر مارس، وكان الربيع قد أخذ يخفق في دفء حلو. ولم أكد ألقى الهواء الطلق حتى انجلى عني كل ضيق. فلست آلف الحياة في أعماق الدور، وإنما أوثر أن أتنفس ملء رئتي. وقد أسرعت إلي أريان ثم ألصقت في لهفة وعنف شفتيها إلى شفتي حتى كدنا نسقط جميعا. قالت: هلم. لا علي أن يرانا الراءون، ولكن ظل الضرم أوفق للحديث.
ثم هبطت بي درجات، وقادتني إلى مكان من الحديقة يشتد فيه التفاف الشجر حتى يخفى القمر دون أن يخفى انعكاس ضوئه على البحر، وكانت قد استبدلت من ثوبها النصفي ذي الأطواق، ومن منطقتها الصلبة ثوبا واسعا فضفاضا كانت تحس من دونه عارية. قالت: أكاد أعرف ما تحدثت إليك به أمي. إنها مجنونة؛ مجنونة تستحق القيد، وما ينبغي أن تحفل بما تقول؛ فاعلم أولا أنك معرض هنا لخطر عظيم. فأنا أعلم أنك أقبلت لتصارع المينتور أخي لأمي، وإنما أريد منفعتك؛ فأحسن الإصغاء إلي. وأنا واثقة بأنك ستظهر عليه.
فمرآك يثبت أن فو
زك واقع لا شك فيه
ألست ترى أن هذه الجملة تزن بيتا جميلا من الشعر؟ ألست رقيق الحس؟ ولكن أحدا قبلك لم يستطع الخروج من اللابيرنت
1
داره التي يسكنها، ولن تستطيع أنت أن تخرج من هذه الدار إلا أن أعينك أنا، أنا خليلتك، أنا التي ستصبح خليلتك. ليس من اليسير أن ترسم لنفسك صورة مقاربة للابيرنت؛ سأقدمك إذا كان الغد إلى ديدال وسيصفها لك؛ فهو الذي بناها، وهو نفسه لا يستطيع الآن أن يهتدي فيها إلى طريقه. وسينبئك كيف ضل فيها ابنه إيكار
2
حتى لم يستطع أن ينجو منها إلا طائرا في الهواء بجناحين.
ولكني لا أجرؤ على أن أشير عليك بالطيران فإنه مغامرة خطرة، والشيء الذي يجب أن تفهمه منذ الآن هو أن أملك الوحيد في النجاة رهين بألا تتركني. لقد توثقت بينك وبيني منذ الآن صلة لا تنفصم، ولا ينبغي أن تنفصم بحياة أو موت. لن تجد نفسك إلا بمعونتي، إلا بي، إلا في. هذا شيء يجب أن تأخذه أو تدعه ليس لك من دون ذلك خيار، فإذا تركتني فالويل لك؛ وإذن فهيت لك.
ثم أقبلت علي غير حافلة بشيء، واستسلمت لي محتفظة بي بين ذراعيها حتى أسفر الصبح.
ويجب أن أعترف بأن وقت هذا اللهو قد طال علي. فلم أحب قط الإقامة حتى في ظلال النعيم، وإنما أنا مشغوف بالتنقل متى ذهبت عني جدة ما ألقى من الأمر.
ثم جعلت تقول: «لقد وعدتني.» ولم أكن قد وعدت بشيء، وإنما كنت حريصا على أن أستبقي حريتي، فلست مدينا بنفسي إلا لنفسي.
ومع أن قوتي على الملاحظة كانت لا تزال مغشاة ببخار السكر، فقد خيل إلي أنها استسلمت في يسر حتى لم أعتقد أني كنت السابق إلى رضاها. وهذه الملاحظة هي التي طوعت لي فيما بعد أن أتخلص من أريان. وفوق ذلك فما أسرع ما ضقت بإسرافها في تكلف الرقة! ضقت بإلحاحها في تأكيد حبها الأبدي، وبهذه الأسماء الحلوة التي كانت تدعوني بها؛ فقد كنت مرة متاعها الوحيد، ومرة كنارها، ومرة كليبها، ومرة صقيرها، ومرة قصيصتها، ولست أبغض شيئا كما أبغض هذه الألفاظ المصغرة.
ثم إنها كانت مشغوفة بالأدب؛ فقد كانت تقول لي: «أي قلبي الصغير، سيذبل زهر السوسن عما قريب.» على حين أن هذا الزهر كان قد بدأ يتفتح، وأنا أعلم أن كل شيء يمضي، ولكني لا أحفل إلا بالساعة الحاضرة. وكانت تقول لي أيضا: «لن أستطيع أن أعيش بدونك.» وكان هذا يدفعني على ألا أفكر إلا في أن أعيش بدونها.
وقد سألتها: ما عسى أن يقول أبوك الملك إن عرف هذا؟
فأجابت: تعلم أيها الحبيب أن مينوس يحتمل كل شيء؛ فهو يرى أن أحكم الحكمة أن يقبل الإنسان ما لا يستطيع له ردا. لم ينكر شيئا حين عرف مغامرة أمي مع الثور، وإنما زعم - كما حدثتني أمي - أنه لا يستطيع أن يمضي في محاورتها. ثم أضاف: «قد كان ما كان، وليس إلى استدراكه من سبيل.» وسيقول هذا القول نفسه بالقياس إلينا. وأقصى ما في الأمر أن يطردك من قصره. وأي بأس بهذا؟! سأتبعك حيثما تكون. وكنت أقول في نفسي: سنرى!
وبعد أن أخذنا بحظنا من طعام يسير، سألتها أن تصحبني إلى ديدال، وأنبأتها بأني أريد أن أخلو إليه وأدير معه الحديث؛ ولم تتركني إلا بعد أن أقسمت لها باسم بوسيدون على أني سألقاها في القصر بعد قليل.
الفصل السابع
لقد نهض ديدال لاستقبالي حين فاجأته في حجرته المظلمة مقبلا على لويحات من الرصاص أمامه قد انتثرت من حولها أدوات غريبة. وهو رجل طوال، لم تنحن قامته على تقدم سنه، وهو يحمل لحية أطول من لحية مينوس وكانت سوداء، على حين كانت لحية رادامونت شقراء. أما لحية ديدال فكانت مفضضة، وجبهته العريضة تشقها أخاديد أفقية، وحاجباه المختلطان يكادان يحجبان نظراته حين يخفض رأسه، وهو طويل الحديث عميق الصوت، ويفهم محدثه أنه حين يصمت فإنما يفعل ذلك ليفكر.
وقد بدا فأثنى على حسن بلائي الذي وصلت أخباره إليه - فيما قال - على اعتزاله وانقطاعه عن الناس. وأضاف إلى ذلك أني أبدو له أبله بعض الشيء، وأنه لا يقدر حسن اصطناع السلاح، ولا يرى أن قيمة الإنسان في قوة ذراعيه. قال: وقد رأيت قديما سلفك هيرقل، وكان أبله لا يستطيع أن يعطي شيئا غير البطولة. وإنما أحببت منه ما أحب منك هذا الإقدام على غاية في غير تردد ولا تراجع، بل هذا التهور الذي يدفعكما إلى أمام، ويظهركما على العدو بعد أن ينصركما على ما في نفوسنا جميعا من الجبن. وكان هيرقل أشد منك مثابرة، وأحرص منك على الإتقان، حزينا بعض الشيء، ولا سيما بعد أن يتم عمله . أما ما أحب منك فهو هذا الابتهاج الذي يميزك من هيرقل. ويعجبني منك أنك لا تريد أن تعوق نفسك بالتفكير؛ فالتفكير حظ قوم آخرين لا يعملون، ولكنهم ينشئون للعاملين ما يدفعهم إلى العمل.
أتعلم أن بيننا نسبا، وأني - لا تعد ذلك على مينوس؛ فهو لا يعرف من ذلك شيئا - أني يوناني؟ وقد أسفت حين اضطررت إلى ترك أتيكا في أثر خصومة شجرت بيني وبين ابن أخي تالوس،
1
وكان مثالا مثلي منافسا لي، وكان قد ظفر بإيثار الشعب؛ لأنه كان يحتفظ للآلهة بشيء من المهابة الرهيبة، يتوسل إلى ذلك بإمساك تماثيلهم بمناطق ضيقة تأخذ أجسامهم من أسفلها فتمنعهم من الحركة، على حين كنت أنا أطلق أعضاءهم فأقربهم منا، حتى تجدد بفضلي ذلك التجاور بين الأولمب والأرض، وكنت من جهة أخرى أحاول أن أتخذ العلم وسيلة إلى أن يصبح الناس أشباها للآلهة.
فقد كنت في سنك حريصا قبل كل شيء على أن أتعلم. وما أسرع ما استيقنت بأن قوة الإنسان لا تغني - أو لا تكاد تغني - عنه شيئا إلا إذا أعانتها الآلهة، وأن المثل الذي يقول: «إن الأداة أجدى من القوة.» لم يكن مخطئا! وما كنت لتقهر قطاع الطرق في البلوبونيز أو في أتيكا لو لم تعنك على ذلك الأسلحة التي وعدك بها أبوك. وكذلك فكرت في أني لن أغني شيئا إذا لم أجد ما أصطنع من أداة، وأن سبيل ذلك هو أن أتقن الحساب والميكانيكا والهندسة كما يتقنها المصريون على الأقل؛ فهم ينتفعون بها انتفاعا عظيما، ثم فكرت في أني لن أنتفع بهذه العلوم في الحياة التطبيقية إلا إذا تعرفت خصائص الأجسام ومميزاتها، حتى الأجسام التي لا يظهر أننا في حاجة عاجلة إلى استخدامها؛ فقد يستكشف في هذه الأجسام كثير من المزايا لم يكن نتوهمها من قبل، شأنها في ذلك شأن الناس أنفسهم.
وكذلك أخذ حظي من المعرفة يتسع ويقوى؛ ثم أردت أن أعرف مهنا وصناعات وأقاليم ونباتات أخرى، فزرت بلادا بعيدة تلمذت فيها لعلماء أجانب، لم أفارق أحدا منهم إلا بعد أن استقصيت ما كان عنده من العلم. ولكني بقيت يونانيا حيثما ذهبت وحيثما أقمت، ومن هنا عنيت بك أيها النسيب لأنك يوناني.
فلما رجعت إلى أقريطش تحدثت إلى مينوس عن أسفاري ودراساتي، ثم أفضيت إليه بشيء كنت أزمعته، وسألته أن يعينني على تحقيقه، فيقدم إلي ما يحتاج إليه من مال وأداة، وهو أن أبني وأنظم إلى جانب قصره دارا تشبه اللابيرنت الذي رأيته وأعجبت به في مصر على شاطئ بحيرة موريس
2
على اختلاف في الرسم. في ذلك الوقت كان مينوس محرجا؛ فقد ولدت له الملكة هذا الوحش الذي يسمى المينوتور، وكان الملك يود لو استطاع أن يخفي هذا الكائن الغريب على أعين الناس؛ فتقدم إلي في أن أقيم له بناء تحيط به حدائق غير مسورة، ولكنه مع ذلك يمسك المينوتور في غير سجن دون أن يستطيع الخروج منه، فأنفقت في ذلك ما كنت أملك من عناية ودراية.
وقد قدرت أن ليس هناك سجن يستطيع أن يمتنع على رغبة السجين في الفرار، وأن ليس هناك أسوار ولا خنادق تستعصي على الجراءة والعزم، فرأيت - وأرجو أن تحسن الفهم عني - أن الخير أن أقيم البناء وأنظمه بحيث لا يكون معجزا لساكنة عن الهرب، بل مانعا له من التفكير في الهرب؛ فجمعت في هذا البناء ما يستجيب لشهوات الإنسان على اختلافها، وليست شهوات المينوتور كثيرة ولا شديدة الاختلاف، ولكن كان علي أن أفكر في الناس جميعا، وفي كل من يقضى عليه أن يدخل اللابيرنت. وكان يجب أيضا - بل قبل كل شيء - أن أضعف إرادتهم؛ ومن أجل ذلك ركبت ألوانا من العقاقير يمزج فيما يدار عليهم من نبيذ. ولكن هذا كله لم يكن كافيا، فوجدت أكثر منه.
وكنت قد لاحظت أن هناك ألوانا من النبات إذا ألقيت في النار أثارت وهي تحترق دخانا مخدرا بعض الشيء، فرأيت أنها عظيمة النفع فيما كنت أحاول من الأمر، وقد استجابت بالضبط لما دعوتها إليه، فاتخذت مواقد لا تخمد نارها في ليل أو نهار وغذوتها بهذه النباتات. والأبخرة التي تصاعد منها لا تنيم الإرادة وحدها، ولكنها تشيع سكرا خلابا، وتدفع إلى فنون من الخطأ المغري، وإلى ضروب من النشاط الفارغ تصدر عن رءوس قد شملها الذهول وعبث بها الشراب، ضروب من النشاط الفارغ؛ لأنها لا تنتهي إلى شيء إلا أن يكون وهما، ولا تثير إلا مناظر لا تثبت، لا تنتهي إلى غاية ولا تعتمد على منطق.
وتأثير هذه الأبخرة ليس متفقا بالقياس إلى الذين يخضعون له جميعا، وإنما هو يختلف باختلافها وينشأ عنه اختلاط غريب يجعل لكل واحد لابيرنته الخاص. وقد كان اختلاط ابني إيكار فلسفيا يرقى إلى ما بعد الطبيعة. أما أنا فأرى أبنية ضخمة وجمعا من القصور المتراكمة تختلط فيها السلالم والدهاليز ... بحيث انتهى هذا كله في تخليط ابني إلى مأزق تتبعه خطوة غامضة إلى أمام. ولكن أشد من هذا كله غرابة أن هذه العطور إذا استنشقها الإنسان حينا لم يستطع أن يستغني عنها؛ لأن الجسم والعقل قد اتخذ منها متاعا لا قيمة بإزائه للحياة الواقعة، ولا رغبة في العودة إليها، وإنما هو البقاء والبقاء المتصل في اللابيرنت.
ولما كنت أعلم أنك تريد أن تنفذ إليه لتصارع فيه المينوتور فقد أردت أن أظهرك على جلية الأمر؛ وما أطلت عليك الحديث إلا لأحذرك؛ فلن تستطيع أن تخرج منه وحدك، بل يجب أن تصحبك أريان؛ ولكنها يجب أن تبقى على عتبة الدار بحيث لا تشم هذا الأرج. فيجب أن تحتفظ بعقلها وصوابها في الوقت الذي تخضع أنت فيه للسكر. ولكن اجتهد في أن تملك أمرك حتى حين يأخذك السكر، هذا هو المهم، وقد لا تعينك إرادتك على ذلك، فقد قلت: إن هذا الدخان يضعفها، فقد خطر لي أن أجمع بينك وبين أريان بخيط يمثل الواجب تمثيلا محسا. هذا الخيط يمكنك بل يضطرك إلى أن تعود إليها بعد أن تكون قد بعدت عنها. واحرص على كل حال على ألا تقطعه مهما يحط بك من الظروف، ومهما تلح عليك المغريات، ومهما تدفعك إليه شجاعتك من مغامرة. عد إليها وإلا ذهب عنك كل شيء، بل ذهب عنك الخير كله. سيكون هذا الخيط وصل ما بينك وبين الماضي؛ فعد إليه، عد إلى نفسك، فلا شيء ينشأ من لا شيء، ولن يعتمد مستقبل أمرك إلا على ماضيك الذي كنت فيه وحاضرك الذي أنت عليه.
وقد كنت خليقا أن أحدثك أقل مما حدثتك لو أني عنيت بك أقل مما أعنى بك في حقيقة الأمر. ولكني أريد قبل أن تستقبل مصيرك أن تسمع لحديث ابني فستحقق حين تسمعه مقدار الخطر الذي أنت مقدم عليه، وإن كان هو قد استطاع بفضلي أن يفلت من فتنة اللابيرنت، ولكن عقله على ذلك قد ظل خاضعا لسحر هذه الفتنة.
ثم اتجه إلى باب منخفض وأزاح ما كان يغطيه من أستار، وقال في صوت رفيع: أي إيكار، أي بني العزيز، أقبل واعرض علينا ما يساورك من القلق، بل امض كما تفعل في أثناء وحدتك في حديثك إلى نفسك دون أن تحفل بي ولا بضيفي. هبنا غير حاضرين.
الفصل الثامن
رأيت فتى يقبل وهو يوشك أن يكون في سني. وقد ظهر في هذا الضوء الضئيل رائع الجمال، وكان شعره الأشقر الطويل يتدلى خصلا على كتفيه، وكان لحظه الثابت يظهر كأنه لا يقف عند الأشياء، وكان عاريا إلى موضع النطاق قد شد حول خصره منطقة ضيقة من المعدن.
وقد ظهر لي أن إزارا واسعا من نسيج أسود ومن جلد يأخذ من أعلى وركيه، وقد جمع طرفاه بعقدة ضخمة. وقد وقفت عيناي على حذاءين من جلد أبيض كانا يشيران إلى أنه يتأهب للخروج، ولكن عقله وحده كان يسعى، ولم يكن يظهر عليه أنه يرانا.
وكان يقول ماضيا فيما كان يدير عقله من حديث: أيهما بدء الوجود: الرجل أم المرأة؟ أيمكن أن يكون الخالد مؤنثا؟ أيتها الصور الكثيرة، أي أم هائلة أخرجتك من أحشائها؟ وأي مبدأ والد ألقاك في هذه الأحشاء؟ يا لها تثنية غير معقولة، وإذن فالإله هو الطفل.
إن عقلي يرفض أن ينقسم الإله؛ فإن قبول الانقسام معناه الصراع، كل ما للإله فهو للحرب. ليست هناك آلهة، وإنما هو إله واحد. إن تسلط الإله هو السلام، كل شيء يأوي ويأتلف في الإله الواحد.
ثم سكت حينا واستأنف قائلا: لأجل أن نحقق الإله يجب على الإنسان أن ينحاز وأن يضيق؛ فليس الإله إلا متفرقا. إن الآلهة منقسمون؛ الإله الواحد لا حد له، الآلهة الكثيرون محليون.
ثم عاد إلى الصمت واستأنف الحديث في صوت قلق، ولكن متقطع: ولكن ما سر هذا كله أيها الإله الواضح؟ ما أصل هذا العناء؟ ما أصل هذا الجهد؟ ونحو ماذا؟ ما علة الوجود؟ وما علة البحث عن علة لكل شيء؟ كيف نتجه؟ وأين نقف؟ متى نستطيع أن نقول لقد انتهى كل شيء آمين؟! كيف الوصول إلى الإله حين نبدأ من الإنسان؟ وإذا بدأت من الإله فكيف أصل إلى نفسي؟ ولكن أليس من الممكن أن يكون الإله من صنع الناس كما أن الناس من صنع الإله؟ في مفترق الطريق هذا، في قلب هذا الصليب يريد عقلي أن يثبت.
وكان وهو يتحدث على هذا النحو يتصبب عرقا وتظهر عروق جبهته منتفخة، أو ظهر لي ذلك على الأقل، فلم أكن أستطيع أن أتبينه في الضوء الضئيل، ولكني كنت أسمعه يلهث كمن بذل جهدا عظيما.
ثم سكت لحظة واستأنف قائلا: لست أدري أين يبدأ الإله، وأنا أقل علما بأين ينتهي! بل لعلي أحسن التعبير عما في نفسي إن قلت إن بداءته لا تنتهي. آه! لقد سكرت بإذن وبلئن وبما دام! وبهذا التخليط والاستنتاج.
لن أصل إلى قياس أجمل من الذي وصلت إليه أول الأمر. فإذا كنت قد وضعت فيه الإله فإني واجده، ولا أجده إلا إن وضعته. لقد جبت طرق المنطق كلها في اتجاهها الأفقي حتى تعبت من الأسفار. إني لأزحف، إني لأريد أن أصعد، أن أخلص من ظلي، من مادتي القذرة، أن أتخفف من ثقل ماضي.
إن أفق السماء ليدعوني. يا للشعر! يخيل إلي أن نفسا علويا يجذبني. أي عقل الإنسان: لأصعدن إلى حيث تستطيع أن ترقى. إن أبي الخبير في الرياضة سيهيئ لي الوسيلة إلى ذلك. سأذهب وحدي؛ إن لي من الجراءة ما يمكنني من هذا، سأؤدي الثمن، لا سبيل إلى الخروج من هذا. أيها العقل الرائع الذي طال تخبطه في المشكلات ستندفع في طريق غير معبدة. لست أدري ما هذا السحر الذي يدعوني، ولكني أعلم أن ليست هناك إلا غاية واحدة هي الإله.
ثم تركنا راجعا أدراجه حتى بلغ الأستار فأزالها واستخفى من دونها وردها كما كانت. قال ديدال: يا له من طفل بائس عزيز! لم يكن يدري كيف يفلت من اللابيرنت؛ لأنه لم يكن يعلم أن اللابيرنت إنما هو في نفسه، فصنعت له مستجيبا لدعائه جناحين يتيحان له أن يطير. كان يرى أن لا طريق له إلا السماء بعد أن أخذت عليه طرق الأرض. وكنت أعرف فيه نزعة صوفية؛ فلم تدهشني رغبته. رغبته لم تبلغ غايتها كما رأيت؛ فعلى رغم تحذيري أراد أن يصعد أكثر مما ينبغي! أسرف في تقدير قوته فهوى إلى البحر، وفيه لقي الموت. صحت دهشا: كيف يكون ذلك؟ لقد رأيته الآن حيا!
أجاب: نعم! لقد رأيته الآن وخيل إليك أنه حي، ولكنه قد مات. وهنا أخشى يا ثيسيوس ألا يستطيع عقلك - على أنه يوناني دقيق متقبل للحقائق كلها - ألا يتبعني؛ فأنا نفسي قد احتجت إلى وقت طويل لأفهم ما يأتي وأطئمن إليه. كل واحد منا لا يحيا حياته الخاصة المقسومة له إذا تبين أن ميزانه ثقيل حين توزن النفوس؛ فهو في حياته الإنسانية ينمو ويتم ما كتب له ثم يموت.
ولكن الزمن نفسه لا يوجد بالقياس إلى حياة أخرى؛ وهي الحياة الصحيحة الخالدة التي ترتسم فيها كل حركة بمعناها الدقيق الذي تدل عليه. فقد كان إيكار قبل أن يولد - وهو الآن بعد أن مات - صورة القلق الإنساني والبحث والطموح والشعر، وهو قد تقمص هذا كله أثناء حياته القصيرة.
أدى مهمته كما كان ينبغي أن يؤديها، ولكن أمره لا يقف عنده وحده، كذلك شأن الأبطال جميعا؛ فإن أعمالهم تبقى ثم يتناولها الشعر والفن فتصبح رموزا خالدة ؛ ومن هنا ظل أوريون
1
الصائد يتتبع في حقول البرواق في دار الموتى تلك الوحوش التي قتلها في حياته، على حين صارت صورته نجما في السماء.
ومن هنا ظل تنتال
2
ظمئا إلى آخر الدهر؛ وظل سينريف
3
يرفع نحو القمة التي لا تنال صخرته الثقيلة التي لا تكاد تبلغ القمة حتى تهوي، تصور بذلك ذلك الهم الملح الذي لزم سيزيف حين كان ملكا لكورنت. فقد ينبغي أن تعلم أن ليس في دار الموتى عقوبة إلا استئناف الأعمال التي لم تتم.
الأمر في ذلك كالأمر في أنواع الحيوان كلها، تموت الأشخاص دون أن يؤثر موتها في بقاء النوع ونموه؛ فليس بين الحيوان شخص، على حين أن الفرد وحده هو صاحب الخطر في النوع الإنساني.
ومن هنا تستطيع أن تقول إن مينوس يحيا الآن في مدينته كنوسوس حياة هي مقدمة لحياته القضائية في الدار الآخرة، كما أن باسيفاييه وأريان تستجيبان لما كتب عليهما القضاء. وأنت نفسك يا ثيسيوس على ما يظهر وما تعتقد من استخفافك بكل شيء، لن تفلت كما لم يفلت هيرقل وجازون
4
وبرسيه
5
من هذا القضاء الذي فرض على كل واحد منكم نفسه، ورسم له طريقه.
ويجب أن تعلم - فقد أتيح لي أن أستنبط المستقبل من الحاضر - أن أمامك أعمالا جليلة يجب أن تتمها، وهي من نوع آخر يخالف ما قدمت من عمل فيما مضى؛ أعمال ستصغر أمامها مآثرك التي أتممتها إلى الآن. عليك أن تنشئ أثينا وأن تقيم فيها سلطان العقل.
فلا تضيع وقتك في اللابيرنت، ولا تضيعه بين ذراعي أريان حين تخرج من اللابيرنت ظافرا؛ امض لطيتك، وانظر إلى الكسل على أنه خيانة، وخذ نفسك بألا تلتمس الراحة إلا حين تتم ما كتب عليك، وحين تأوي إلى الموت.
وكذلك تستطيع بعد هذا الموت الظاهر أن تستأنف حياة متصلة متجددة فيما يدين الناس لك به من جميل. امض لطيتك، امض أمامك، امض في طريقك أيها الفتى الشجاع مجمع المدن.
واسمع لي الآن يا ثيسيوس واحفظ ما أقول لك: ستنتصر على المينوتور في أكبر الظن دون كثير عناء؛ فليس هو من البأس بحيث يقال. لقد قيل إنه يعيش على لحم الإنسان، ولكن متى رأيت الثيرة تعيش على شيء آخر غير ما تنبت المروج؟ إن دخول اللابيرنت يسير، ولكن ليس أشد عسرا من الخروج منه.
لا سبيل إلى أن يجد الإنسان نفسه فيه إلا بعد أن يضل أول الأمر؛ ولن تستطيع أن ترجع أدراجك؛ فليس للخطو فيه أثر؛ فيجب إذن أن تصل نفسك بأريان بهذا الخيط الذي أعددت لك منه قدرا حسنا، فخذه معك وأرسله كلما تقدمت، وكلما انتهت خصلة منه فصلها بخصلة أخرى بحيث لا ينقطع. فإذا أردت الرجوع فأدر هذا الخيط قليلا قليلا حتى تبلغ أوله الذي أمسكت به أريان. لست أدري لماذا ألح إلى هذا الحد، فكل هذا يسير جدا، إنما العسير أن تحتفظ إلى آخر خيط بالعزم الصادق على أن تعود. وسيصطلح الأرج وما يبعث في نفسك من نسيان وحب الاستطلاع لها وأشياء أخرى كثيرة على إضعاف هذا العزم. لقد قلت لك هذا آنفا، ولم يبق لدي شيء آخر؛ هاك الخيط، وداعا.
تركت ديدال ولحقظ بأريان.
الفصل التاسع
وهذا الخيط هو الذي أثار أول خصومة بين أريان وبيني؛ فقد أرادت أن أدفعه إليها، وأن تحتفظ به في حجرها زاعمة أن من عمل النساء جمع الخيط وتفريقه، وأنها في ذلك ماهرة صناع، ولكنها في حقيقة الأمر كانت تريد أن تسيطر على مصيري، وهذا هو الشيء الذي لم أكن أرضاه مهما تكن الظروف. وكنت أقدر أيضا أنها ستحرص على استبقائي فلا ترسل الخيط إلا في بطء، وقد تشده إليها إن أرادت فتحول بيني وبين المضي إلى غايتي كما أريد.
وقد أصررت على الامتناع رغم سلاحها الأخير وهو الدموع؛ لأني كنت أعلم أن من شأن النساء إذا نزلت لهن عن أيسر الأمر ألا يرضين إلا بأكثره. أسلم لهن الأصبع الصغرى فستتبعها اليد، ثم الذراع، ثم سائر الجسم.
ولم يكن هذا الخيط متخذا من الكتان ولا من الصوف، وإنما اتخذه ديدال من مادة صلبة لم يستطع سيفي حين جربته أن يصنع فيها شيئا. وقد تركت سيفي عند أريان مصمما - رغم ما بينه لي دايدال من أن الأداة تمنح الإنسان قوة إلى قوة - على أن أصرع المينوتور بقوة ذراعي وحدها.
فلما بلغت مدخل اللابيرانت - وهو رواق تزينه الفأس المثناة؛ وهي علامة شائعة في الجزيرة - ألححت على أريان في أن تلزمه ولا تفارقه، وقد حرصت على أن تدير الخيط حول معصمي بعقدة زعمت أنها عقدة الزواج، ثم ألصقت شفتيها بشفتي وقتا حسبته لن ينقضي؛ فقد كنت حريصا على أن أتقدم.
وكان رفاقي الثلاثة عشر من الفتيات والفتيان وفيهم بيريتوس قد سبقوني. وقد وجدتهم في الحجرة الأولى وقد أذهلهم الأرج، وقد أنسيت أن أقول إن ديدال قد أعطاني مع الخيط قطعة من النسيح قد غمسها في مادة مضادة لهذا الطيب، وألح علي في أن أكمم بها فمي دائما؛ وأن أريان كانت قد استأثرت بهذه القطعة أيضا عند الرواق. وبفضل هذه الكمامة استطعت أن أحتفظ بصوابي وإرادتي، ولكني كنت أختنق شيئا، فقد تعودت - كما قلت - ألا أجد الحياة الكاملة إلا في الهواء الطلق، فكان هذا الهواء المغلق يضايقني بعض الشيء.
وتقدمت مرسلا الخيط حتى بلغت الحجرة الثانية، فإذا هي أشد إظلاما، ثم بلغت أخرى أشد إظلاما، ثم انتهيت إلى أخرى لم أكن أتقدم فيها إلا متحسسا. ولكن يدي وهي تتبع الحائط لقيت مفتاح باب أدرته فانفتح لي على ضوء ساطع، وإذا أنا أبلغ حديقة، وأرى أمامي - على أرض مبسوطة قد نسقت فيها شقائق النعمان والخزامى والنسرين والقرنفل - المينوتور مستلقيا مسترخيا. وكان نائما من حسن حظي؛ وكنت خليقا أن أتعجل، وأن أستفيد من نومه، ولكن هذا النوم نفسه كان يقفني، وكان الوحش جميلا، وكان أمره كأمر السنتور
1
قد اجتمعت له والتأمت فيه ملامح من الإنسان والحيوان، وكان شابا، وكان شبابه يضيف إلى جماله ظرفا لم أكن أحققه، وكان هذا كله سلاحا أقوى بالقياس إلي من القوة، فلم يكن لي بد من أن أستحضر شجاعتي كلها؛ فلا سبيل إلى الجهاد المنتج إلا مع شيء من البغض. ولم أكن أستطيع أن أبغضه، بل لبثت وقتا أمعن النظر إليه، ولكنه فتح إحدى عينيه فتبينت أنه أبله، ورأيت أن قد آن الوقت للإقدام.
ولست أستطيع أن أذكر ما صنعت، ولا ما كان على وجه التحقيق؛ فقد كانت الكمامة تأخذ علي التنفس، ولكني مع ذلك لم أفلت من تأثير الأرج حتى أصابني من ذلك ضعف في الذاكرة؛ فإذا كنت قد انتصرت على المينوتور فإني لم أحتفظ من ذلك إلا بأثر مختلط لا يخلو من لذة.
ولست أبيح لنفسي أن أخترع ولا أن أتكثر، ولكني أذكر كذلك أن جمال الحديقة كاد يلهيني عن نفسي، ولم آخذ في إدارة الخيط بعد أن انتصرت على المينوتور لأجد أصحابي في الحجرة الأولى إلا أسفا. وقد رأيتهم حول مائدة قد جمعت عليها ألوان من الطعام لا أدري كيف جاءت، ولا من جاء بها، وهم يزدردون ويعبون ويعبث بعضهم بأجسام بعض، ويضحكون كأنهم المجانين أو البله.
فلما هممت أن أخرجهم أبوا علي وأعلنوا إلي أنهم راضون حيث هم، وأنهم لا يريدون خروجا. وقد ألححت عليهم وأنبأتهم أني أحمل إليهم الخلاص وإذا هم يتصايحون: الخلاص من ماذا؟! ثم أخذوا يسبونني، وقد أحزنني هذا كثيرا لمكان بيريتوس، فقد كان يتميزني في مشقة، ويعيب الشجاعة، ويسخر من شجاعته هو، ويعلن في غير تحفظ أنه لن يفارق لذته الحاضرة في سبيل المجد مهما يكن.
ولم أكن أستطيع أن ألومه؛ فقد كنت أعلم أني لولا احتياط ديدال لتورطت في مثل ما تورطوا فيه. ولم أستطع أن أخرجهم إلا حين اصطنعت معهم العنف، وأعملت فيهم الوكز واللكز. وقد كانوا مثقلين بكثرة ما أكلوا وشربوا وسكروا، فلم يستطيعوا أن يقاوموا.
فلما خرجوا من اللابيرنت احتاجوا إلى وقت أي وقت، وجهد أي جهد، ليستردوا صوابهم ويثوبوا إلى أنفسهم. على أنهم لم يفعلوا ذلك إلا محزونين، وقد حدثوني فيما بعد أنهم كانوا يرون أنهم يهبطون من قمة عالية يشع عليها النعيم إلى قرارة واد ضيق مظلم ضئيل؛ لأن كل واحد منهم قد عاد إلى سجنه الخاص، وهو شخصه المحدود الذي لا إفلات منه. ومع ذلك فقد جعل بيريتوس بعد قليل يحس الندم على هذه الصنعة العابرة التي تورط فيها، ويؤكد أنه سيشتري نفسه أمام نفسه وأمامي بكثير من حسن البلاء. وما أسرع ما أتيحت له الفرصة ليثبت إخلاصه لي.
الفصل العاشر
لم أكن أخفي عليه شيئا؛ فقد كان يعرف وجدي بأريان ووجدي عليها، بل لم أكن أخفي عليه أني كنت متيما بفيدر، وإن لم تكن قد تجاوزت الصبا بعد. كانت في ذلك الوقت تكثر من اصطناع أرجوحة قد علقت إلى نخلتين، وكنت إذا رأيتها تترجح على هذا النحو، وتعبث الريح بثوبها أخذني شيء يشبه الدوار.
ولكني كنت أدير رأسي مسرعا، وأخفي ميلي متحفظا إذا ظهرت أريان أخشى أن تثور غيرة الأخت الكبرى. ومن الشر أن يقصر الإنسان في إرضاء ما يساور نفسه من رغبة؛ ولكن لم يكد بد من اصطناع الحيلة والمكر لتحقيق ما كان يدور في خلدي من خطف هذه الصبية. هنالك ابتكر بيريتوس وسيلة إلى تحقيق مأربي، دلت على ما كان يمتاز به من سعة الحيلة. وكانت إقامتنا في الجزيرة تطول وإن لم أكن أفكر كما لم تكن أريان تفكر إلا في السفر، ولكن الشيء الذي كانت أريان تجهله هو أني كنت مصمما على ألا أترك الجزيرة إلا ومعي فيدر. وكان بيريتوس يعلم ذلك. وهاك الحيلة التي أعانني بها:
كان أكثر حرية مني؛ فقد كانت أريان تأخذ علي كل طريق، وكان من أجل ذلك قد استطاع أن يدرس شئون الجزيرة ويعرف من عاداتها ما كنت أجهل؛ قال لي ذات صباح: أظن أني قد بلغت الغاية؛ تعلم أن هذين الحكيمين مينوس ورادامونت قد نظما أخلاق الجزيرة وسيرة أهلها، ونظما بنوع خاص شئون هذا الحب البغيض الذي يعطف أهل الجزيرة على الغلمان كما ترى ذلك في ثقافتهم، إلى حد أن كل فتى قد بلغ الحلم ولم يكن له خليل من الذين يكبرونه في السن يتعرض لكثير من الازدراء والضعة؛ لأنه إن كان رائع الجمال فيجب أن يكون فيه عيب يتصل بعقله أو جسمه، ويصرف عنه الخلان.
وقد أفضى إلي جلوكوس أصغر أبناء مينوس، والذي يشبه فيدر حتى كأنه ضريبها، بما يثير ذلك في نفسه من هم. وقد حاولت أن أغريه بأن لقب الإمارة الذي يحمله قد أرهب الناس فلم يسم إليه منهم أحد، فكان يجيبني بأن هذا ممكن، ولكنه محزن له؛ ويجب أن يعلم الناس أن هذا يحزن مينوس نفسه؛ لأن مينوس لا يحفل عادة بتفاوت الطبقات ولا باختلاف الدرجات، ومع ذلك فقد يسره أن يرى أميرا ممتازا مثلك يعنى بابنه.
وقد قدرت أن أريان التي تغار من أختها أشد الغيرة لن تغار من أخيها. فلم ير الناس امرأة تغار من غلام. وعلى كل حال فسترى أن من غير اللائق أن تظهر شيئا من الريبة، فتستطيع أن تقدم في غير خوف.
صحت به: وهل تظن أن الخوف يقضي عن شيء، ولكني وإن كنت يونانيا لا أسيغ مثل هذا الحب لغلام مهما يكن حظه من الجمال والظرف، أختلف في ذلك عن هيرقل الذي أترك له في غير أسف خليله هيلاس،
1
ومهما يكن الشبه بين صاحبك جلوكوس وبين فيدر فإني أريدها هي لا هو.
قال: لم تفهم عني، فلست أقترح عليك أن تستصحب جلوكوس مكان فيدر، وإنما أعرض عليك أن تستصحب فيدر مكان جلوكوس، وأن تخدع أريان وتخدع الناس جميعا فتخيل إليهم أنك ستستصحب الفتى. اسمع وافهم عني، إن من العادات التي أقرها مينوس نفسه في الجزيرة أن يستصحب الخليل فتاه ليعيش معه في داره شهرين كاملين، ثم يعلن الغلام بعد ذلك إلى الناس أنه راض عن خليله، وعن سيرته معه. واستصحابك لجلوكوس هذا الموهوم معناه أن تحمله إلى هذه السفينة التي جاءت بنا من بلاد اليونان، فإذا اجتمعنا في السفينة ومعنا فيدر مستخفية ومعنا أريان التي تحرص على مرافقتها؛ فأبحر بالسفينة مسرعا حتى تبعد عن الساحل.
ولأهل أقريطش سفن كثيرة، ولكنها أبطأ جريا من سفننا، فإذا طلبونا فمن اليسير أن نفوتهم. تحدث في هذا إلى مينوس وثق بأنه سيرضى عنه بشرط أن تقنعه بأنك ستستصحب جلوكوس لا فيدر، فلن يحلم بخليل مؤدب لجلوكوس خيرا منك. ولكن قل لي أواثق أنت بأن فيدر راضية بصحبتك؟ - لست أدري الآن؛ فإن أريان معنية بألا أخلو إلى أختها بحيث لم أستطع أن أوذنها بذلك ... ولكني واثق بأنها لن تتردد في صحبتي حين تعلم أني أوثرها على أختها.
وكان يجب قبل كل شيء أن أهيئ أريان نفسها لهذه الخطة؛ فأفضيت إليها بالأمر مخادعا لما دبرنا.
فلم تكد تسمع لي حتى صاحت: يا لها خطة رائعة! كم أنا سعيدة بالسفر مع أخي الصغير؛ إنك لا تدري إلى أي حد أحبه وأوثره لظرفه وخفته. إنا متفقان دائما، وعلى ما بيننا من اختلاف السن، فهو آثر الرفاق إلي. ليس شيء أجدر أن يوسع أفقه ويفتح عقله من إقامة في بلد أجنبي. سيتقن اليونانية في أثينا، وهو يتكلمها على نحو لا بأس به، ولكنه يصطنع لهجة أجنبية سيصلحها في وقت قصير، وستكون له قدوة صالحة، وددت لو يحرص على أن يشبهك.
وقد كنت أترك هذه البائسة تقول غير عالمة بما كان يخبأ لها.
وكان من الواجب أيضا أن ننبه جلوكوس لنتقي كل خطر. وقد نهض بيريتوس بهذه المهمة، وقد أنبأني بعد ذلك بأن الفتى أحس شيئا كثيرا من خيبة الأمل؛ فقد كان يؤثر بالطبع أن يسافر هو، ولم يكن بد من إثارة حبه لأخته وعطفه عليها ليقبل الاشتراك في هذا التدبير. وكان يجب أن ننبه فيدر أيضا؛ فقد كانت خليقة أن تصيح إذا اختطفت قسرا أو مكرا. ولكن بيريتوس اعتمد على أن الصبيين سيجدان في هذا التدبير ما يلهيهما، فسيعبث جلوكوس بأبويه، وستعبث فيدر بأختها.
وإذن فقد دخلت فيدر في الزي المألوف لجلوكوس، وكانت قامتاهما متعادلتين؛ فلما أخفت شعرها وسترت أسفل وجهها لم يكن من الممكن أن تفطن أريان للخدعة.
ومن المحقق أني كنت آلم لاضطراري إلى خيانة مينوس الذي بالغ في الإحسان إلي. وقد تحدث إلي بما كان ينتظر من الأثر الحسن الذي ستتركه صحبتي في نفس ابنه، وقد كنت ضيفه، فقد خفرت ذمة مضيفي، ولكني لم أحفل - وليس من شأني أن أحفل - بهذا التردد الذي يبقيه وخز الضمير، وكنت أوثر إرضاء رغباتي على الاعتراف بالجميل، وعلى مراعاة اللياقة، فكل شيء مباح، ولا بد مما ليس منه بد.
وقد سبقتنا أريان إلى السفينة لتهيئ لنفسها فيها مكانا ملائما. ولم نكن ننتظر إلا فيدر لنسلم سفينتنا إلى الهرب. لم نختطفها حين أغلق الليل كما دبرنا أول الأمر، بل بعد عشاء الأسرة التي حرصت على أن تشارك فيه، ثم اعتلت بما ألفت من ترك الأسرة في أثر العشاء مقدرة أن أحدا لن يفطن لسفرها قبل أن يشرق النهار. وكذلك مضى كل شيء على ما كنا نهوى، وكذلك هبطت إلى أتيكا مع فيدر بعد أيام. وبعد أن أنزلت أختها الجميلة المتعبة أريان في جزيرة ناكسوس.
2
وقد عرفت حين وصلت أرضنا أن إيجيه أبي لم يكد يرى القلاع السود التي أهملت أن أضع مكانها القلاع البيض كما اتفقنا حتى ألقى نفسه في البحر؛ وقد أشرت إلى ذلك آنفا، ولست أحب أن أعود إليه. وإنما أضيف أني رأيت فيما يرى النائم أثناء الليلة الأخيرة أني أصبحت ملكا لأتيكا ... ومهما يكن من شيء فقد كان هذا اليوم يوم عيد للشعب ولي؛ لأننا عدنا فيه سالمين، ولأني ارتقيت إلى العرش، ويوم حداد لموت أبي. ومن أجل ذلك أنشأت من الفور حفلات تتبادل فيها الجوقات أغاني الحزن وأغاني الابتهاج، وحرصت مع أصحابي الذين نجوا أن نشارك بالرقص في هذا الحفل؛ حزن وابتهاج! كان من الملائم أن نمسك الشعب على هاتين العاطفتين المتناقضتين.
الفصل الحادي عشر
وقد لامني اللائمون بعد ذلك في سيرتي مع أريان؛ قالوا إني سرت معها سيرة الجبن، ولم يكن يجمل بي أن أدعها، وأن أدعها في جزيرة بنوع خاص. سخف؛ فقد كنت حريصا على أن أجعل البحر بينها وبيني؛ فقد كانت تتبعني كما يتتبع الصائد صيده في إلحاح.
ولما استكشفت ما دبرت من مكر، وعرفت أختها في زي جلوكوس ثار ثائرها، وجعلت تدفع صيحات موقعة، ووصفتني بالخيانة. فلما أثقلت علي واضطرتني إلى أن أنبئها بأني سأنزلها في أول جزيرة تدفعنا إليها الريح التي أخذت تثور، أنذرتني بقصيدة ستنشئها تصور فيها هذا الهجر الوضيع.
أجبتها على الفور أنها لن تستطيع أن تصنع خيرا من هذه القصيدة التي ستكون رائعة من غير شك إن جاز أن أحكم بما كنت أرى من ثورتها ولهجتها الغنائية الصادقة، وستكون هذه القصيدة معزية تسليها عن حزنها. ولكن كان كل ما كنت أقول لها يزيد ثورتها حدة والتهابا. وكذلك شأن النساء حين يراد ردهن إلى العقل. أما أنا فأسلم نفسي دائما لغريزة تدفعني السذاجة إلى أن أثق بها.
فقد دفعتنا الريح إلى جزيرة ناكسوس فتركتها هناك، وعلمت فيما بعد أن ديونيزوس لحق بها واتخذها لنفسه زوجا. ولعل معنى ذلك أنها تسلت بالخمر. ويقال إن الإله قد أهدى إليها يوم الزفاف تاجا من صنع إيفايستوس،
1
وإن هذا التاج يتلألأ الآن بين نجوم السماء، وإن ذوس قد استقبلها في الأولمب ووهب لها الخلود.
ويقال إنها شبهت بأفروديت؛ وقد تركت هذا كله يشاع، بل حرصت على أن أسكت الألسنة المتهمة لي، فبذلت ما استطعت لتأليهها، واستحدثتت لها عبادة خاصة تكلفت أن أشارك فيها بالرقص. ومن الحق أنها ما كانت لتظفر بكل هذا الامتياز لو لم تلق مني هذا الهجران.
وهناك أحداث منحولة غنيت بها الأساطير: كاختطاف هيلانة
2
وهبوط بيريتوس إلى دار الموتى، واستحياء بروزربين؛
3
فلم أحاول أن أكذب ما أشيع حول أريان من مثل هذه الأساطير رغبة في أن يبعد صوتي ويعظم خطري، بل لعلي أضفت إلى هذه الأساطير أساطير أخرى لأمسك الشعب على الإيمان، وأمنعه من هذا الاستعداد للسخر من كل شيء، كما يظهر هذا واضحا عند أهل أتيكا؛ فقد يكون من الخير أن يتحرر الشعب، ولكن بشرط ألا يتخذ السخرية وسيلة إلى هذا التحرر.
والحق أني منذ عدت إلى أتينا احتفظت بالوفاء لفيدر. فقد تزوجت من المرأة ومن المدينة جميعا ؛ كنت زوجا، وانتقل إلي الملك من طريق الوراثة. وكنت أقول لنفسي: لقد انتهى عصر المغامرات؛ فليس المهم الآن أن أفتح، وإنما المهم أن أملك.
ولم يكن الملك شيئا يسيرا؛ فلم تكد أثينا توجد في ذلك الوقت، وإنما كانت أتيكا مجموعة من قرى صغيرة ينافس بعضها بعضا في التفوق، وينشأ عن هذا التنافس ألوان من الخصومات والغارات والصراع الذي لا ينتهي. فكان يجب أن أوحد هذا كله، وأن أركز السلطان، وهو شيء لم أظفر به إلا بعد مشقة وجهد بذلت في سبيله القوة والحيلة.
وكان أبي إيجيه يرى أن يثبت سلطانه باستبقاء الخلاف بين القرى.
وقد لاحظت أن هناءة المواطنين يضيعها الاختلاف، وتبينت أن أكثر الشر إنما يأتي من تفاوت الثروة، وحرص كل فرد على أن ينمي ثروته. ولم أكن أنا حريصا على الثراء، وإنما كنت معنيا بالمصلحة العامة بمقدار عنايتي بمصلحتي، بل أكثر من عنايتي بمصلحتي، فقد أعطيت القدوة حين أخذت نفسي بحياة بسيطة، ثم قسمت الأرض قسمة عدلا بين المواطنين، فألغيت التنافس والتفوق وما ينشأ عنهما من الآثام. وكانت خطة قاسية أرضت الفقراء من غير شك وهم كثرة الناس، ولكنها أسخطت الأغنياء؛ لأني نزعت منهم بعض ما كانوا يملكون. وكان الأغنياء قليلين، ولكنهم كانوا مهرة؛ وقد جمعت أجلهم خطرا وقلت لهم: إني لا أحفل بشيء كما أحفل بالقيمة الفردية، ولا ألتفت إلى غيرها من المزايا. لقد عرفتم كيف تثرون بما لكم من مهارة ودراية بجمع الثروة وتنميتها، ولكنكم اتخذتم الجور والبغي سبيلا إلى الثراء في أكثر الأحيان. والخصومة التي تثور بينكم تعرض الدولة للخطر، وأنا أريد أن تكون الدولة قوية بمأمن مما تكيدون. بهذا وحده تستطيع أن تنعم وأن تقاوم غارة العدو.
إن هذا الطمع البغيض في المال الذي يغريكم لا يكفل لكم السعادة لأنه لا يرضى؛ فكلما اكتسب الإنسان تمنى أن يزداد كسبه. سأنقص إذن ثروتكم بالقوة (التي أملكها) إذا لم تذعنوا لهذا راضين، ولن أحتفظ لنفسي إلا بحماية القوانين وقيادة الجيش، فأما ما دون ذلك فلا يعنيني .
وأنا أريد أن أعيش بعد أن وليت الملك كما كنت أعيش قبل ذلك على حظ من المساواة مع أهون الناس شأنا. وسأعرف كيف أفرض احترام القانون وكيف أفرض احترامي إذا لم أفرض خوفي. وأريد أن يقال من حولنا إن أتيكا تدبر أمرها حكومة شعبية لا حكومة طاغية؛ فكل مواطن سيستمتع بما يستمتع غيره به من الحقوق السياسية، لا عبرة بما يكون بينهم من اختلاف المولد. فإذا لم تقبلوا ذلك عن رضا فقد أنبأتكم بأني أستطيع أن أحملكم عليه كرها.
سأهدم - بل سأمحو - من الأرض محاكمكم الصغيرة المحلية، وسأهدم وأمحو من الأرض مجالسكم الإقليمية، وسأجمع تحت الأكروبول ما أخذ الناس يسمونه أثينا، وقد وعدت الآلهة الذين سيعينونني بأن الأجيال المقبلة لن تعظم إلا اسما واحدا هو اسم أثينا. وسأحرر مدينتي لبلاس.
4
فأما الآن وقد سمعتم فانصرفوا وأطيعوا.
ثم أضفت العمل إلى القول، فنزلت عن مظاهر الملك ودخلت في الصف، ولم أتهيب أن أظهر للناس جميعا بغير حرس شأني في ذلك شأن المواطنين جميعا. ولكني كنت أعنى دائما بالشئون العامة محافظا على الوفاق مقرا للنظام.
وقد استمع بيريتوس لهذه الخطبة التي ألقيتها على السادة، فقال لي: إنها خطبة رائعة، ولكنها سخيفة. وكان يعلل ذلك بأن المساواة بين الناس ليست طبيعية، بل ليست شيئا يبتغى؛ فمن العدل أن يتفوق الأخيار على طغام الناس بما تخولهم الفضيلة من امتياز.
وهؤلاء الطغام إذا لم تثر بينهم التنافس والتزاحم والغيرة ظلوا هامدين خامدين أشبه شيء بالماء الراكد الآسن؛ فليس لهم بد من حافز إلى العمل.
فاحذر ألا يدفعهم هذا الحافز إلى الثورة بك والانتقاض عليك، وسواء أردت أم لم ترد فإن هذه التسوية الأولى التي تطمح إليها والتي تكفل للناس جميعا تكافؤ الفرص ليسعوا إلى الحياة من مستوى واحد، ستنتهي قطعا إلى الاختلاف والتفاوت، فتنشأ طبقات تتأثر بما يتمايز الأفراد به من الكفاية وحسن البلاء، ستنشأ طبقة العامة الشقية والأرستقراطية السعيدة.
قلت: إني أقدر ذلك وأرجو أن يكون في وقت قريب، ولكني لا أدري لم تشقى العامة إذا كانت هذه الأرستقراطية الجديدة التي سأرعاها أرستقراطية العقل لا أرستقراطية المال.
ثم أردت أن يزداد حظ أثينا من الخطر والبأس؛ فأعلنت أنها تتلقى في غير تمييز ولا تفريق كل من يقبل عليها ليقيم فيها مهما يكن وطنه الأول، وانطلق الدعاة من حول المدينة يصيحون: «أيها الشعوب، هلم إلى أثينا.» وقد ذاع ذلك حتى بلغ أبعد الآماد. أليس هذا هو الذي حمل أوديب ذلك الملك المخلوع البائس على أن يسعى إلى أتيكا يلتمس فيها الجوار والحماية ويموت فيها آخر الأمر، ويتيح لي أن أكسب لهذه الأرض هذه البركة التي كتبها الآلهة لمثواه الأخير؟ سأتحدث عن هذا الموضوع بعض الشيء.
وقد ضمنت للقادمين على أثينا نفس الحقوق التي يستمتع بها المواطنون الأولون، مؤجلا كل تفرقة إلى ما يسفر عنه الاختبار. فالاختبار وحده هو الذي يميز الخبيث من الطيب. ولم أرد أن أحكم على أحد قبل أن أتبين بلاءه، بحيث لا أحقق تفرقة بين الآثينيين في الطبقة والمنزلة إلا لمصلحة النظام العام إذا اقتضت الضرورة شيئا من ذلك بعد الاختبار.
وكذلك استحق الآتينيون وحدهم بفضلي أنا اسم «الشعب» الذي أطلق عليهم ولم يطلق إلا عليهم. هذا هو المجد الذي كسبته لنفسي والذي يربى على كل ما شيدت قديما من مأثرة، وهو مجد لم يبلغه هيرقل ولا جازون ولا بلليروفون ولا برسيه.
ولم يتبعني مع الأسف بيريتوس زميل الصبا. أما الأبطال الذين سميتهم وأبطال آخرون من أمثال ميلياجر
5
وبيليه؛
6
فإنهم وقفوا عند مآثرهم الأولى أو مأثرتهم الأولى ولم يستطيعوا أن يتجاوزوها. ولم أرد أنا أن أقف عند هذه المآثر، وكنت أقول لبيريتوس: هناك وقت لتحرير الأرض من الخوف الذي تثيره الوحوش، ووقت آخر لاستثمار هذه الأرض المحررة؛ وقت لتحرير الناس من الخوف، ووقت آخر لتمكينهم من الانتفاع بهذا التحرير وما يتيح لهم من أمن وسعة.
ولا سبيل إلى هذا إلا النظام الدقيق. ولست أقبل أن يقف الرجل جهوده على نفسه كما يفعل البيوثيون،
7
ولا أن يجعل السعادة الخاملة غايته التي يسعى إليها . وكنت أعتقد أن الإنسان ليس حرا وأنه لن يكون حرا، وليس من الخير أن يكونه. ولكني لا أستطيع أن أدفعه إلى أمام دون رضا، ولا أن أبلغ منه الرضا إلا إذا خيلت إلى الشعب أنه حر. أردت أن أرتفع به ولم أقبل أن يظل راضيا بما قسم له حانيا رأسه من الذل. وكنت أرى أن الإنسانية تقدر على أكثر من هذا، وهي أكرم من أن ترضى بهذا. وكنت أذكر ما ألقى إلي ديدال من العلم حين كان يزعم أن يورث الناس أسلاب الآلهة. وكانت قوتي تأتي من ثقتي بقدرة الإنسان على التقدم.
هنالك تخلف عني بيريتوس ولم يتبعني، وكان قد رافقني وأعانني كثيرا أثناء الشباب، ولكني تبينت أن استبقاء الصداقة يقفنا عن السعي أو يردنا إلى وراء. هناك مواقف لا يستطيع الإنسان أن يتجاوزها إلا وحيدا. وإذ كان بيريتوس راجح العقل فقد ظللت أسمع لأحاديثه دون أن أزيد على ذلك شيئا. وقد تقدمت به السن، فجعل يترك حكمته تستنيم إلى القصد والاعتدال، وهو الذي لم يكن يقنع بشيء. فلم تكن مشورته تهدف إلا إلى التحديد والتقييد في كل شيء.
وكان يقول: ليس الإنسان خليقا أن نشغل به أنفسنا إلى هذا الحد.
وكنت أجيبه: وبماذا نشغل أنفسنا إذا لم نشغلها بالإنسان الذي لم يقل كلمته الأخيرة بعد؟
وكان يقول لي أيضا: هون عليك. ألم تقدم بين يديك ما يكفي من العمل؟ الآن وقد ضمنت الرخاء والدعة لأثينا تستطيع أن تستريح إلى المجد وإلى سعادة الزوجية.
وكان يلح علي في أن أعنى بفيدر، ولم يكن مخطئا في هذه النصيحة على الأقل؛ فقد يجب أن أقص الآن ما أصاب حياتي المنزلية من اضطراب، وهذا الحداد البغيض الذي أديت به إلى الآلهة ثمن ما أتيح لي من نجاح، وما اتصفت به من عجب وتيه.
الفصل الثاني عشر
لقد كانت ثقتي بفيدر لا حد لها، وكنت أراها تزداد جمالا وظرفا على مر الشهور؛ وكانت حياتي كلها نقاء وطهرا. وكنت قد استنقذتها صبية من بيئتها السيئة ؛ فلم أقدر أنها استبقت من هذه البيئة بعض دواعي الشر.
وليس من شك في أنها ورثت بعض خصال أمها، وكان اعتذارها فيما بعد بأنها غير مسئولة، وبأن القضاء قد سخرها لما أراد، يقوم على بعض الحق. ولكن لم يكن هذا كل شيء، وأظن أنها كانت تسرف في ازدراء أفروديت. والآلهة ذوو انتقام، فلم يغن عنها آخر الأمر إلحاحها في ترضي الآلهة بالقربان والدعاء؛ فقد كانت فيدر تقية، كما كانت أسرتها، ولكن كان مما يسوء أن جميع أعضاء الأسرة لم يكونوا يخلصون لإله بعينه؛ فقد كانت باسيفاييه مخلصة لذوس، وكانت أريان مخلصة لديونيسوس.
أما أنا فكنت أعبد بلاس أتينيه وأعبد بوسيدون الذي تجمعني به صلة خفية، والذي كان قد أخذ نفسه لشقائي بأن يستجيب لي حتى لم أدعه عبثا في يوم من الأيام.
أما ابني الذي ولدته لي الأمازون، والذي كنت أوثره أشد الإيثار، فقد كان يعبد أرتيميس إلهة الصيد، وكان عفا مثلها بمقدار ما كنت أنا فاجرا في سنه. وكان يتتبع الأدغال والغابات عاريا تحت ضوء القمر، ويتجنب القصر ومجالس الحكم ولقاء النساء خاصة. ولم يكن يرضى عن نفسه إلا بين كلاب صيده، يتتبع بهن إلى أعلى قمم الجبال، وفي أسفل الأودية والوهاد هرب الوحوش.
وكثيرا ما كان يروض الخيل الجامحة يجريهن على رمال الساحل ليقحمهن أمواج البحر. ما كان أشد حبي له في أطواره تلك! فقد كان رائعا أبيا متمردا إلا علي بالطبع؛ فقد كان يؤثرني بالإكبار والإجلال، ولكن على الأوضاع التي تحد من سلطان الإنسان وتفل من عزمه. لقد كنت أريد أن أختصه بولاية عهدي، وكنت خليقا أن أنام هادئا مطمئنا بعد أن أسلم أعنة الدولة إلى يديه النقيتين؛ فقد كنت أعرف فيه الامتناع على الرغبة والرهبة جميعا.
ولم أقدر إلا بعد فوات الوقت أن من الممكن أن تصبو إليه نفس فيدر. وكان يجب علي أن أقدر ذلك؛ فقد كان يشبهني حين كنت في سنه. وقد كانت الشيخوخة تسرع إلي على حين كانت فيدر تحتفظ بشباب غريب.
ولعلها كانت لا تزال تحبني، ولكن كما يحب الآباء. وقد تعلمت على حساب نفسي أن ليس من الخير أن تبعد آماد السن بين الزوجين. ومن أجل ذلك لا ألوم فيدر في هذا الحب الذي لا يخالف قوانين الطبيعة، وإن لم يخل من بعض الإثم، وإنما ألومها ولا أغفر لها أنها حين تبينت أن لا سبيل إلى إرضاء هذا الحب اتهمت هيبوليت هذا الابن النقي الوفي بشهوتها الآثمة المنكرة.
وقد كنت أبا غافلا، وزوجا واثقا، فصدقتها؛ وللمرة الوحيدة التي وثقت فيها بقول امرأة، ضللت السبيل، فاستنزلت سخط الإله على ابني البريء، وقد استجاب الإله لدعائي والناس يدعون الآلهة، ولكنهم يجهلون أن الآلهة يستجيبون لهم في أكثر الأحيان فيشقونهم، وكذلك رأيتني قد خضعت لإرادة مفاجئة جامحة ضالة فقتلت ابني، وما زلت لذلك جزعا لا أجد سبيلا إلى العزاء. وقد أحسنت فيدر حين تبينت جريمتها فقضت على نفسها الموت. ولكني الآن وقد فقدت حتى مودة بيريتوس أصبحت وحيدا، وقد أدركتني الشيخوخة.
وقد تلقيت أوديب منفيا من وطنه ثيبا قد فقد عينيه وبدا عليه الضر، ولكنه على الأقل لم يكن وحيدا، وإنما كان بين ابنتيه يحمل إليه حنانهما ما يخفف من لوعة أساه. لقد كتب عليه الإخفاق في كل ما حاول، وكتب لي النجاح في كل ما حاولت، حتى إن البركة التي قضاها الآلهة للأرض التي تضم جثته بعد موته لم تتح لوطنه ثيبا، وإنما أتيحت لأثينا.
وإنه ليدهشني ألا يتحدث الناس إلا قليلا عن التقائنا في كولونا،
1
وعن هذه المواجهة بين مصيرينا في آخر الشوط الذي كتب لكل واحد منا أن يقطعه، مع أني أنا أرى في هذا اللقاء قمة ما أثلت لنفسي من مجد، وتتويجا لما قدمت بين يدي من عمل.
لقد أملت كل شيء، ورأيت كل شيء يميل إلي (إذا استثنيت ديدال، ولكنه كان يكبرني جدا. ومع ذلك فقد خضع لي ديدال، نفسه)، وكنت أرى عند أوديب وحده عزة تلائم عزتي، ولم تكن المحن التي ألمت به إلا لترفع في نفسي مكانة هذا المنهزم. لقد انتصرت من غير شك في كل مكان، وفي كل وقت، ولكن في مستوى إنساني متواضع إذا قيس إلى أوديب.
أما هو فقد قهر أبا الهول، وأقام الإنسان أمام اللغز، واستطاع أن يقفه بإزاء الآلهة؛ وإذن فكيف ولماذا قبل الهزيمة؟ بل ألم يشارك في تحقيق هذه الهزيمة حين فقأ عينيه! لقد كان في هذه الجناية التي جناها على نفسه شيء لم أكن أستطيع فهمه، وقد أظهرته على ما أجد من دهش، ولكن تعليله لم يكد يقنعني. ذلك شيء يجب أن أعترف به، ولعلي لم أحسن الفهم عنه.
قال لي: من الحق أني أستجيب لثورة جامحة من الغضب، لم أكن أستطيع أن أوجهها إلا إلى نفسي، فعلى من كنت أستطيع أن أثور؟ لقد رأيت هول هذه التهم المنكرة التي ظهرت لي، فلم أجد بدا من أن أنكر وأحتج. ومع ذلك فلم أكن أريد أن أفقأ عيني بمقدار ما كنت أريد أن أشق هذا المنظر الذي يملؤه الكذب، والذي فقدت الإيمان به، والذي كنت أضطرب بين مظاهره، بل لم أكن أفكر في شيء، وإنما دفعتني إلى ما عملت. فقأت عيني عقابا لهما على أنهما لم تريا شيئا كان من الوضوح والبداهة بحيث كان خليقا أن يفقأ عيني، كما يقال ... لست أدري كيف أبين لك عن ذلك ... فلم يفهم أحد تلك الصيحة التي بعثتها يومئذ: «إلي أيتها الظلمة. أنت ضوئي.» وأشعر أنك أنت أيضا لا تفهم هذه الصيحة.
لقد سمع الناس من هذه الصيحة شكاة، مع أنها لم تكن إلا ملاحظة للحقيقة الواقعة. كانت هذه الصيحة تعني أن الظلمة قد بددها بالقياس إلى ضوء خارق للطبيعة يغمر عالم النفوس. وكانت هذه الصيحة تعني: أيتها الظلمة ستكونين منذ الآن ضوئي، وفي الوقت الذي كانت الظلمة فيه تحجب عن عيني جمال السماء كانت سماء أخرى داخلية قد أخذت تتألق فيها النجوم.
ثم سكت ولبث لحظة مغرقا في تفكير عميق، ثم قال: لقد كانت تظن بي الفطنة أثناء الشباب، وكنت أرى نفسي فطنا. ألم أكن أول من أجاب! بل ألم أكن الوحيد الذي أجاب على سؤال أبي الهول! ولكن يخيل إلي أني لم آخذ في النظر الصادق الصحيح إلا منذ فقأت عيني بيدي، وحلت بينهما وبين الضوء. أجل! في الوقت الذي يحجب فيه العالم الخارجي عن عيني إلى آخر الدهر تتاح لضميري نظرة جديدة إلى عالم داخلي كان العالم الخارجي يشغلني عنه ويحملني على ازدرائه.
وهذا العالم الذي لا يحس، والذي لا تستطيع حواسنا أن تطمع في بلوغه هو فيما أعلم الآن وحده الحق. فأما ما عداه فوهم يخدعنا ويصدنا عن مشاهدة العالم الإلهي «يجب أن ننصرف عن رؤية العالم لنرى الإله.» كذلك كان يقول لي ذات يوم ذلك الحكيم الضرير تيرسياس، ولم أكن أفهم عنه حينئذ كما أرى الآن يا ثيسيوس أنك لا تفهم عني.
قلت: لا أحاول أن أنكر خطر هذا العالم الذي تستكشفه منذ فقدت عينيك، ولكن الذي لا أفهمه هو أنك تجعل هذا العالم ضدا معاندا للعالم الذي نراه ونعيش ونعمل فيه.
أجاب: ذلك أن نظرة الضمير هذه أظهرتني لأول مرة على ما لم أكن أرى، فاقتنعت بهذا الذي ستسمعه. لقد أقمت ملكي الإنساني على جريمة فنشأ عن ذلك أن أصبح كل ما أتيته بعد الملك ملوثا، لا بالقياس إلى ما صدر عني أنا من قول أو عمل فحسب، بل كذلك بالقياس إلى ابني اللذين تركت لهما التاج؛ فقد تركت من الفور ذلك الملك المخزي الذي ساقته إلي الجريمة.
وأنت تستطيع أن تعرف إلى أي جريمة جديدة دفع ابناي وأي قضاء مهين مخز قد ألح على كل ما تلد الإنسانية الخاطئة. وليس ابناي إلا مثلا صارخا لهذه المحنة؛ فهما ثمرة الإثم، وهما من أجل ذلك أشد ملاءمة لهذه المحنة، ولكن يخيل إلي أن هناك إثما مستأصلا قد شقيت به الإنسانية، ولن ينجو من آثاره أحد حتى الأخيار، إلا أن تنال الإنسانية رحمة تغسل عنها هذا الوضر.
ثم عاد إلى الصمت لحظات كأنه كان يريد أن يمعن في التفكير إلى أبعد مما بلغ، ثم قال: إنك تدهش لأني فقأت عيني، وأنا أيضا دهش. ولكن لعل في هذا العمل الأحمق القاسي شيئا آخر هو هذه الحاجة الخفية إلى أن أدفع حظي إلى غايته، وأبلغ بألمي أبعد آماده، وأتم بذلك مصيرا من مصاير الأبطال.
ولعلي أحسست في غير وضوح ما في الألم من جلال وتطهير للنفوس يكره البطل أن يمتنع عليه، وأعتقد أن هذا هو الذي يثبت عظمته، وأنه لا يرقى إلى العظمة حقا إلا حين يسقط ضحية، فيكره بذلك الآلهة على أن يعرفوه، وينزع من أيديهم سلاح الانتقام.
ومهما يكن من شيء فإن خطاياي وآثامي مهما تبلغ من الشناعة والبشاعة، لا تمنعني الآن من أن أجد سعادة داخلية رائعة تكافئ كل ما لقيت من ألم وما شقيت به من بؤس.
قلت حين رأيت أنه أتم حديثه: أيها العزيز أوديب، لا يسعني إلا أن أثني على هذه الحكمة التي تصطنعها، والتي تتجاوز طاقة الإنسان. ولكن تفكيري لا يستطيع أن يرافق تفكيرك في هذه الطريق؛ فأنا ابن هذه الأرض، وسأبقى ابنها، وأرى أن الإنسان كائنا من يكون، ومهما يكن حظه من هذا الإثم المستأصل الذي تشير إليه، يجب أن يلعب بالورق الذي أتيح له في هذه الدنيا. وأكبر الظن أنك قد أحسنت الانتفاع بما كتب عليك من البؤس. ولعلك قد أمعنت في ذلك حتى أتيح لك الاتصال بهذا الذي تسميه الإله، بل أنا أعتقد أن نوعا من البركة يتصل بك، ويحل كما يقال في الأرض التي تضم جثتك بعد الموت.
ولم أضف أن الذي كان يعنيني هو أن تكون هذه الأرض أرض أتيكا، وكنت أهنئ نفسي بأن الآلهة قد أهدوا إلي ثمرة ثيبا.
وإذا وازنت بين مصيري ومصير أوديب فأنا سعيد؛ لأني أديت ما كان يجب أن أؤدي؛ فأنا أترك للإنسانية مدينة أثينا. لقد آثرتها على ابني وزوجي، وجعلتها مدينتي، وستسكنها بعد أن أموت ذكراي إلى آخر الدهر. وأنا أسعى وحيدا راضيا إلى الموت؛ فقد ذقت ثمرات الأرض، ويلذ لي أن أفكر في أن الناس بعدي وبفضلي سيرون أنفسهم خيرا منا، وأسعد منا، وأدنى منا إلى الحرية. لقد أبليت في خدمة الإنسانية المستقبلة ما استطعت. لقد حييت!
نامعلوم صفحہ