دراسات في المنهج (٩)
نُزْهَةُ النَّظَرِ
فِي تَوضِيحِ نُخْبَةِ الْفِكَرِ فِي مُصْطَلَحِ أَهْلِ الأَثَرِ
للإمام الحافظ أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني
٧٧٣ - ٨٥٢ هـ رحمه الله تعالى
طبعة مصحَّحة ومنقّحة ومزيدة
ويليها:
جَمْع أشكال الحديث الضعيف
لمحمد بن حسن بن هِمّات الدمشقي، ١٠٩١ هـ - ١١٧٥ هـ
تحقيق وتعليق
أ. د. عبد الله بن ضيف الله الرحيلي
أستاذ في الحديث وعلومه، عضو هيئة التدريس بجامعة طيبة بالمدينة المنورة سابقًا
1 / 1
ح عبدالله بن ضيف الله الرحيلي، ١٤٤٣ هـ
فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر
ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي
(نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في توضيح مصطلح أهل الأثر) للإمام ابن حجر، ومعه: (جَمْعُ أشكال الحديث الضعيف)، لمحمد بن حسن بن هِمّات الدمشقي./ أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني؛ محمد بن حسن ابن همات زاده؛ عبد الله بن ضيف الله راجح الرحيلي
- ط ٣. - المدينة المنورة، ١٤٤٣ هـ.
٢٦٩ ص؛ ١٧ × ٢٤ سم - (دراسات في المنهج؛ ٩)
ردمك: ٨ - ٩٦٤٩ - ٠٣ - ٦٠٣ - ٩٧٨
١ - الحديث - مصطلح ٢ - علوم الحديث أ. ابن همات زاده، محمد بن حسن (مؤلف مشارك) ب. الرحيلي، عبد الله بن ضيف الله راجح (محقق) ج. العنوان د. السلسلة
ديوي ٢٣١ … ٣٦٩٢/ ١٤٤٣
رقم الإيداع: ٣٦٩٢/ ١٤٤٣
ردمك: ٨ - ٩٦٤٩ - ٠٣ - ٦٠٣ - ٩٧٨
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
ربيع الأول
١٤٢٢ هـ-٢٠٠١ م
الطبعة الثانية
١٤٢٩ هـ-٢٠٠٨ م
الطبعة الثالثة
ربيع الآخر ١٤٤٣ هـ- نوفمبر ٢٠٢١ م
1 / 2
مُقَدِّمةُ الطبعة الثالثة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، رسول الله محمدٍ وعلى آله وأصحابه والمهتدين بهدْيه إلى يوم الدين. أما بعد:
فما كنتُ أُفكّر في إعداد هذه الطبعة الثالثة مِن تحقيقي لـ"نزهة النظر في توضيح نخبة الفِكَرِ في مصطلح أهل الأثر"، للإمام الحافظ ابن حجر، عليه رحمة الله ورضوانه؛ لولا بعض الأسباب، التي اقتضتْ إعدادها؛ وذلك لِمَا كنتُ عليه مِن طمأنينة لطبعتي الثانية له، التي أثنى عليها عددٌ مِن الفضلاء ورشَّحوها على غيرها مِن الطبعات في وقتها، كما هو الشأن، أيضًا، في الطبعة الأُولى.
ومما لاحظتُهُ على الطبعة الثانية خللٌ في ضبط بعض الكلمات، وليست كثيرة، ولستُ أدري كيف حصلتْ هذه الأخطاء مخالِفةً لسليقتي العربية! وإني لشديد الحساسية في أَمْر اللغة، فأُراعي الضبطَ وعدمَ اللحْنِ، ما استطعتُ إلى ذلك سبيلًا؛ سواءٌ في الكتاب أو في تعليم الطلاب؛ ولذا أُسجّلُ هنا تعجّبي مِن حصول تلك الأخطاء -لا إعجابي- لكنه مِن دلائل النقْص في البَشَر!
وإني أحمَدُ الله تعالى وأشكره أنْ وفقني لإصدار هذه الطبعة الثالثة للنزهة، وما فيها مِن تجديدٍ وتجويد، بقدْر الإمكان، ومراجعةِ أخطائي، ونقْدِ نفسي؛ إذْ ما كان لي أن تفوتني تلك الهِنَات في الطبعة السابقة -على قِلّتها-.
1 / 3
لكن، بفضل الله، قد أضحتْ "النزهة" -في نظري- بهذه الطبعة مجالًا للدرس والنزهة!
ومن الجديد في الطبعة الثالثة:
١ - مَزيدٌ مِن المراجعة والتدقيق والإيضاحات، وإصلاح ما كان مِن خللٍ في ضبط الكلمات في الطبعة السابقة، إضافةً إلى بعض التعديلِ وبعض التنسيق للكتاب، والإفادة مِن الملحوظات المفيدة، التي أبداها -مشكورًا- بعض الإخوة الفضلاء، جزاهم الله خيرَ الجزاء.
٢ - إضافةُ مزيدٍ مِن الاستدراكات على بعض كلام الإمام ابن حجر في النزهة وبعض إطلاقاته -مع التقدير والإجلال لهذا الإمام العظيم، ﵀ إضافةً إلى مزيدٍ مِن استجلاء فرائد دِقّتِهِ وروائع تحقيقه، وهو إمامنا المبجّل، سواءٌ وافقْنا رأيه أو خالفناه، والفضل لله أَوّلًا، ثم له ثانيًا في كلا الحالين.
٣ - إضافة بعض الحواشي الجديدة.
٤ - مراجعة ترجمته، بشيءٍ مِن التعديلات.
٥ - تجديد قائمة "الاستدراكات" و"التوضيحات"، وفصْلهما عن بعضهما.
٦ - تجديد فهرس المصطلحات؛ تدقيقًا، وتعديلًا، ويَعْلمُ الله كم أَخذ هذا مِن الجهد والوقت، ومعَ ذلك لم يأتِ بالدقة التي أردتُها؛ بسبب كثرة التكرار للمواضعِ التي وردتْ فيها المصطلحات أو الكلمات المتوافقة صورتُها معها، ككلمة " الحديث" تكررت فيها نحو ٢٥٠ مرّةً، لكني قاربتُ ما استطعتُ
1 / 4
إلى ذلك سبيلًا. ولهذا الفهرس أهميةٌ لِمن أراد دراسة النزهة ومراجعة مواضع ورود هذه المصطلحات والكلمات فيها؛ لتأَمُّلها وتَفهّمِها.
٧ - تمييز المواضع الواردة في المتن عن الواردة في الحواشي في أرقام الإحالات في فهرس المصطلحات، وذلك بوضعِ خطٍّ تحت رقم الصفحة المحال إليه، غالبًا، إذا كانت واردةً في الحواشي.
٨ - التمييز في فهرس المصطلحات بين مواضع الكلمات الواردة فيها المصطلحات عن الإحالات على مجرّدِ كلماتٍ متّفقة معها في الصورة وهي خارجة عنها، وذلك بتظليل أرقام المواضع التي تتعلق بالمصطلح ولو بأدنى تَعلُّقٍ.
٩ - تحبير ما رأيتُه مهمًّا مِن الفوائد والاستدراكات في الحواشي.
١٠ - التلوين باللون الأحمر لِمواضع، وهي:
- بعض العناوين في النزهة، التي كنتُ أضفتُها في حواشيها الجانبية.
- بعض عناوين النزهة.
- بعض العناوين في الحواشي السفلية.
- بداية الاستدراكات التي كتبتُها في الحواشي السفلية.
- بداية الفوائد أو التوضيحات في الحواشي السفلية.
وذلك إظهارًا لها؛ تيسيرًا على القارئ؛ فإذا رأى حاشيةً بادئةً بالأحمر فهي استدراكٌ أو فائدةٌ مهمّة في نظري.
وأحمدُ الله وأشكره على جهدٍ بذلتُه في التدقيق والمراجعة وأوقاتٍ بذلتُها، يَستحقها هذا الكتابُ الأساسُ في علوم الحديث، الذي يَعتمِدُ عليه فئامٌ مِن
1 / 5
الطلاب والمتخصصين في مختلَف البلدان. وأشعرُ الآن بالرضا عن هذه الطبعة، وبالسرور بِعرْضها على الراغبين في هذا العلم، بالرغم مِن عدمِ عصمة الإنسان مِن الخطأ والتقصير.
وأشكرُ شكرًا جزيلًا مَن ساعدني، محتسِبًا، في قراءة هذه الطبعة ومراجعتها، اللهم اجعلْ ذلك برَكَةً عليه وعلى والديه وذريّته، وذِخْرًا عندك سبحانك.
وإنّي لأرجو أنْ أكون وُفّقتُ للصوابِ وإرادةِ وجْه الله تعالى، دُونَ قصْدِ شيءٍ أو أحدٍ سِواه، فيما كتبتُه أو علّقتُه أو استدركتُهُ؛ فهذا عِلمٌ مِن علوم الآخرة، وهذا كتابٌ لإمامٍ قد تقدّمَنا إلى الدار الآخرة. ولهذا؛ أدعو نفسي وغيري لِتذكُّر هذه الحقيقة، والعمل بمقتضاها، وحِفظِ حقوق أئمّتنا، ﵏، في مؤلفاتهم، لا السَّطْو عليها.
والأملُ في الله تعالى أنْ يتقبّل هذا العمل في ميزان الحسنات، ويَمحوَ به السيئات، ويَغفر الزلات، وهو السميع العليم.
وأسأل الله تعالى أنْ يُحْسِن مثوبةَ مُهْدي هذا الكتاب النفيس، لنا وللدنيا كلِّها، ويرحمه، ويَجزيه عنّا وعن العِلم والدِّين خير الجزاء: الإمامَ ابن حجر.
وصلى الله وسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، والحمد لله رب العالمين.
عبد الله بن ضيف الله الرحيلي
١/ ٣/ ١٤٤٣ هـ
عنوان المحقق البريدي
Email: ruhaili ٦٥@hotmail.com
1 / 6
مُقَدِّمةُ الطبعة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، رسول الله محمدٍ وعلى آله وأصحابه والمهتدين بهدْيه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذه هي الطبعة الثانية من تحقيق "نزهة النظر في توضيح نخبة الفِكَرِ في مصطلح أهل الأثر"، للإمام الحافظ ابن حجر.
والجديد في هذه الطبعة:
١ - مراجعة الكتاب كله مِن جديد.
٢ - قراءة النص الأصل من جديد.
٣ - إثبات بعض الحواشي المثبتة في الأصل بخط المؤلف، التي فاتني إثباتها في الطبعة الأولى.
٤ - إثبات أرقام البدايات لألواح المخطوط الأصل في صفحات الكتاب.
٥ - تصحيح بعض الأخطاء والأوهام القليلة الواقعة في الطبعة الأولى.
٦ - إخراج العناوين التوضيحية التي كنت أضفتها بين معكوفين في صلب الكتاب إلى حواشيه اليمنى واليسرى.
٧ - الإبقاء على ما سبق أن انتهجته من اعتماد حواشي د. نور الدين عتر في طبعته من الكتاب في تراجم الرواة، مختصرةً، لكن مع تصحيح ما ظهر
1 / 7
فيها من بعض الأخطاء.
٨ - حذفت من الكتاب ما سبق أن ألحقته به في الطبعة السابقة من متن النزهة مجرَّدًا من التعليقات؛ وذلك لإفراده في كتيبٍ مستقلٍ؛ ابتعادًا عن تضخيم الكتاب.
٩ - أبقيتُ في آخره متن "نخبة الفِكَر".
أنا مدينٌ في هذه الطبعة لأخوين فاضلين، أحدهما: عضو هيئة تدريس في إحدى الجامعات، لا أعرفه، كان قد حُكِّم في الكتاب، وأبدى ملحوظاتٍ علمية قيمة، فأفدت مما رأيته منها، جزاه الله خيرًا. والآخَر هو الأخ عبد الرحمن بن أحمد الجميزي، الذي أسندتُ إليه مراجعة هذه الطبعة (الثانية)، وَفْق ما اخترتُهُ مِن منهج، جزاه الله خيرًا.
وإني لأرجو -بعد هذا كله- أن تكون هذه الطبعة أفضل طبعة للكتاب.
أسأل الله تعالى أن يتقبل ما بذلناه من جهدٍ مُضْنٍ في إخراج هذه الطبعة، ويجعله عملًا باقيًا.
وصلى الله وسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، والحمد لله رب العالمين.
عبد الله بن ضيف الله الرحيلي
١/ ١/ ١٤٢٩ هـ
1 / 8
مُقَدِّمةُ التحقيق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أَشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه والمهتدين بهدْيه إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فبعدَ سنواتٍ قضيتُها مع "نزهة النظر في توضيح نُخْبة الفِكَر في مصطلح أهل الأثر"، للإمام الحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني، وبعد أن دَرّستُها لطلاّبي أكثر مِن مرّةٍ = قد خَلَصتُ إلى نتيجةٍ لا أَتردد فيها، وهي أن هذه الرسالة أَعظمُ كتابٍ أُلِّف في علوم الحديث، وأَنفعُهُ ولاسيما في هذا الحجم المختصر، وكذا في تأسيسه لهذا العلم بهذا المنهج.
ومِن ثمّ فهي جديرةٌ بالعناية، والتحقيق، والتوضيح، والدّرس، والتدريس.
وبعد أن اشتغلتُ فيها، وانشغلتُ بها عددًا مِن السنين، رأيتُ أن أُخرجَها للناس، لعل طالبَ علمٍ ينتفع بها، وأَنْشُرَها بصورةٍ تليق بها؛ فلعل الله يَكتب لي بذلك أَجرًا، إنه غفورٌ شكور، ﷾.
وفيما يلي:
- ترجمةٌ موجزةٌ للمؤلف، رحمه الله تعالى.
- لمحةٌ عن "النزهة" وميزاتها.
1 / 9
- المآخذ على الطبعات السابقة، وأسباب توجُّهي إلى تحقيق النزهة.
- وصْف النسخة الخطّيّة الأصل.
- عملي ومنهجي في التحقيق.
وقد رتبت عملي على الوجه الآتي:
١ - مَتْن "النزهة" مع التحقيق والتعليق عليه.
٢ - مَتْن "النزهة" مع وضْعِ العناوين عليه (^١).
٣ - الاستدراكات على "النزهة".
٤ - فهْرِس المصطلحات الواردة في النزهة.
٥ - مَتْن "نخبة الفِكَرِ".
٦ - فهرس المصادر والمراجع.
٧ - فهرس المحتويات.
وأسأل الله تعالى التوفيق والقبول، والتجاوز عن الزلات، إنه هو الغفور الرحيم، لا إله غيره، ولا رب سِواه، ولكنّ الظالمين بربهم يَعْدلون!
عبد الله بن ضيف الله الرحيلي
٥/ ٢/ ١٤٢٢ هـ
_________
(^١) كان هذا في الطبعة الأولى، أما في هذه الطبعة فذهبتُ إلى حذف هذا المتن الخالي من تعليقات التحقيق؛ على أمَلِ طباعته مستقلًا.
1 / 10
ترجمة المؤلف (^١)
_________
(^١) للتوسع في ترجمته يمكن الرجوع إلى المصادر التالية:
١ - رفع الإصر عن قضاة مصر، لابن حجر، ١/ ٨٥ - ٨٨.
٢ - إنباء الغمر بأبناء العمر، له أيضًا، ١/ ٣، ١١٦.
٣ - الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة، له أيضًا، ٣/ ٦٤، ١٩١.
٤ - النجوم الزاهرة، لابن تغري بردي، ١٥/ ٣٨٢ - ٣٨٣.
٥ - دليل الشافي على المنهل الصافي، له أيضًا، ١/ ٦٤.
٦ - لحْظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ، لابن فهد المكي، ص ٣٢٦.
٧ - الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر، للسخاوي، ص ٣ وما بعدها.
٨ - الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، له أيضًا، ٢/ ٣٦.
٩ - حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، للسيوطي، ١/ ٣٦٣.
١٠ - ذيل طبقات الحفاظ، للسيوطي أيضًا، ص ٣٨٠.
١١ - نظم العِقيان في أعيان الأعيان، للسيوطي أيضًا، ص ٤٥ - ٥٢.
١٢ - طبقات الحفاظ، للسيوطي، ص ٥٥٢.
١٣ - مفتاح السعادة ومصباح السيادة، لطاش كبرى زاده، ١/ ٢٣٦.
١٤ - درة الحجال في أسماء الرجال، للمكناسي، ١/ ٦٤.
١٥ - اليواقيت والدرر في شرح نخبة الفكر، للمناوي، ١/ ٣٦ - ٧٠.
١٦ - كشف الظنون، لحاجي خليفة، ١/ ٧.
١٧ - شذرات الذهب، لابن العماد، ٧/ ٢٧٠.
١٨ - البدر الطالع، للشوكاني، ١/ ٨٧.
١٩ - إيضاح المكنون، لإسماعيل باشا، ١/ ١٣.
٢٠ - هدية العارفين، له أيضًا، ١/ ١٢٨ - ١٣٠.
٢١ - الرسالة المستطرفة، للسيد الشريف محمد بن جعفر الكتاني، ص ١٦٢.
٢٢ - فهرس الفهارس، لعبد الحي الكتاني، ١/ ٣٢١ - ٢٢٧.
٢٣ - معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، ٢/ ٢٠ - ٢٢.
٢٤ - ترجمة الدكتور نور الدين عتر له في تحقيقه للنزهة، في أوّلها.
1 / 11
لعلّ أوضَحَ وأقوى وأصْدَقَ ما يُعَرِّف بالإنسان: سِيرته، وأخلاقه، وأعماله، وعلومه، وما تَرَكَ بعده مِن إرثٍ. وهذا هو الشأن بالنسبة للإمام ابن حجر؛ فإنّ سيرتَه وصفاتِه، وعلومَه ومؤلفاتِه، وجَلِيلَ أعماله، كلها تشهَد له بأنه الإمام الإمام (التكرار مقصود) حقًّا في كلّ فنّ في باب القول والفعل؛ وتَشهدُ أنّ ذلك كله أَبْلغُ مِن مدْحِ كل مادحٍ له. لكن لا مانع مِن المرور على بعض الفقرات الموجزة في التعريف به، رحمه الله تعالى.
نسبه:
هو شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد العسقلاني الأصل، المصري المولد والمنشأ، نزيل القاهرة، عُرِف بـ"ابن حجر" -وهو لقبٌ لبعض آبائه-.
مولده:
ولد في مصر، وذلك في شعبان سنة ثلاث وسبعين وسبع مئة (٧٧٣ هـ)، على شاطئ نيل مصر القديمة، ومات أبوه وأمّه وهو طفل؛ فنشأ يتيمًا.
1 / 12
حفظه القرآن الكريم:
وحفظ القرآن الكريم، وله تسع سنين، فكان له ذكاءٌ نادر، وحفظٌ كامل، وسرعةُ بديهة، فحفظ "الحاوي" و"مختصر ابن الحاجب"، وغيرهما.
رحلاته:
سافر إلى مكة المكرّمة فسمع بها، ثم حُبّب إليه الحديث الشريف فاشتغل بطلبه على يد كبار شيوخه في البلاد الحجازية، والشامية، والمصرية، ولا سيّما الحافظ العراقي، وتفقه على البلقيني، وابن الملقّن، وغيرهما، فأذِنوا له بالتدريس والإفتاء.
وأخذَ اللغة عن المجد الفيروز آبادي، وقرأ بعض القرآن بالسبع على التنوخي، وجدّ في الفنون حتى بلغ فيها الغاية، ثم تصدى لنشر الحديث الشريف، وعكف عليه مطالعةً، وقراءةً، وتدريسًا، وتصنيفًا.
مصنّفاته وتأَلُّقُهُ في العِلم والفضائل:
بقِيتُ مدةً في بحرِ الإمام ابن حجر، عليه رحمة الله ورضوانه؛ فاقتطفتُ منه أو استنطقْتُهُ -مِن خلال الاكتحال بسيرته وعلومه وتحقيقاته- مِن الفضائل والفرادةِ في عالَم السموّ والتميز والزكاء والذكاء ما يُرْوِي العقل والقلب ما حَيِيتُ!
يا لها مِن فوائدَ فرائد فهل مِن مُريدٍ أو رائد!
أغرقَني هذا الإمام بفضائله المحيِّرة لِمَن بعدَه؛ وبباهرِ عِلْمه وسموِّ عقله؛ فأسَرَني بشدّةٍ، اللهم أسكنْه الفردوس الأعلى وشفّعْه فينا.
1 / 13
ولو سَرّحْتَ الطرفَ في عِلم ابن حجر ومؤلفاته؛ فإنه سيُدهِشُك، وستُدْرِكُ أنه أَسْهَمَ في مختَلَفِ مجالات العلم، فقدْ:
١ - أَلّف أكثرَ مِن ١٥٠ مؤلَّفٍ. بعضها عشرون مجلدًا، وبعضها أكثر وبعضها أقلّ، ومؤلفاته الصغيرة الحجم لا تَقِلُّ عظَمةً عن مؤلفاته الضخمة، وخُذْ مثلًا: هذه "نزهة النظر شرْح نُخبة الفِكَر في مصطلح أهل الأثر"، وانظر كيف شَغَلت الدنيا مِن عصره إلى يومنا هذا؛ درسًا وتدريسًا، وشرحًا واختصارًا، ونظمًا ونثرًا؛ حتى كانت مخطوطاتُها تَعِزُّ على الحصْر، قبل أَعدادِ نُسَخِ طبْعها ونشرها! فما بالُك بموسوعاته الكبيرة!
٢ - استدرَكَ على مؤلفاتِ غيره في عددٍ مِن الكتب التي أَلَّفها للاستدراكِ على مؤلفيها بتصحيح معلومةٍ، أو إضافةِ معلومةٍ فاتْت مؤلِّف الكتاب، فكانت بعضُ هذه الكتب التي أَلّفها استدراكًا على مؤلفيها قد زاد حجمها على الكتاب المستدْرَك عليه إلى الضِّعف أو أكثر أو أقلّ! والعَظَمة حقًّا حين يكون الكتاب المستدرَك عليه موسوعةً، ومع ذلك يَخوض في بحرها ويَستدرِك عِلمًا كبيرًا، ككتاب "تهذيب الكمال في أسماء الرجال"، إذ هذّبه في كتابه "تهذيب التهذيب"، فحذَف منه، وزاد عليه فجاء التهذيب قَدْرَ ثُلِث أصله بالرغم مِن كثرة زياداته عليه!
٣ - رتّب عددًا مِن مؤلفات غيره، فأعاد ترتيبها على نَسَقٍ أفضل.
٤ - خرّج أحاديث عددٍ مِن مؤلفاتِ غيره.
٥ - خرّج طُرُقَ عددٍ مِن الأحاديث، أَفردَ كلَّ حديثٍ منها بكتاب.
٦ - لخّصَ عددًا مِن المؤلفات.
1 / 14
٧ - عَقَد مجالِسَ لإملاء الحديث الشريف بلغتْ أكثرَ مِن ألف مجلس.
وقد استغرقتْ أسماءُ مؤلفاته كراسةً جمَعَها فيها! ولا نُحصي روائعه، ﵀.
لقد أَطَلْنا الرُّقاد، وما عانَيْنا في العِلم السُّهاد؛ فأبْعَدْنا عن سَنَنِ القوم، وآثرنا البطالة والنوم؛ فاستيْقِظوا يا قوم!
حقًّا، إنّ الإمام ابن حجر إمامٌ فريدٌ في مختلَف الفنون: في الحديث وفنون علومه، والقرآن وعلومه، والفقه وأُصوله، واللغة والأدب … إلخ.
ولا أُبالغ إذا قلتُ: إنّ الإمام ابن حجر مجموعُ أئمةٍ في إمامٍ واحدٍ، ثم هو، مع هذا، متواضعٌ، مُزْدَرٍ لنفسه، مُستَقلٌّ لأعماله وكُتبه، فيا لَعظَمةِ الرجل الرجل (التكرار مقصود)، وما أظنّ أنّ هذا الرجل سيتكرر في عالمِ الوجود، وإنْ تكرّر العُظماء!
قد زادت مصنّفاته على خمسين ومئةِ مصَنَّفٍ، وقلّ فنٌّ مِن فنون الحديث إلا وله فيه مؤلَّف أو مؤلفات، ومِن أشهرِ تلك المصنفات:
١ - الإصابة في أسماء الصحابة.
٢ - تهذيب التهذيب.
٣ - تقريب التهذيب.
٤ - تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة.
٥ - نخبة الفِكَر في مصطلح أهل الأثر.
٦ - نزهة النظر في توضيح نخبة الفِكَر في مصطلح أهل الأثر.
٧ - بلوغ المرام مِن أدلة الأحكام.
٨ - فتح الباري بشرح صحيح البخاري.
1 / 15
٩ - تغليق التعليق.
١٠ - الدُّرَر الكامنة في أعيان المئة الثامنة.
ولو لم يكن له إلا كتابه "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" لكفاه أجرًا وفخرًا ودلالةً على رفيعِ رُتْبتِه في الحديث وعلومه، وفي مختلف فنون العلم، ودلالةً على جلالة قدره في الفهم والتحقيق والتواضع، والحلم، والورع، وسائر الصفات الحميدة.
ولو لم يكن له إلا "نزهة النظر" لكفاه سبقًا وشرفًا في هذا الفن.
يقول تلميذه الإمام السخاوي (^١): " … فمِن تصانيفه ما كمُل قبل الممات، ومنها ما بقي في المسوَّدات، ومنها ما شرعَ فيه فكاد، ومنها ما شطر، ومنها ما صَلُحَ أنْ يدخُل تحت الإعداد. وهذا إيرادها على ترتيبٍ اخترتُه، وتقريبٍ ابتكرتُه، وقد جمع هو أسماء معظمها في كراسة افتتحها على سبيل التَّواضع والهضم لنفسه بقوله: وأكثر ذلك -يعني تصانيفه- مما لا يساوي نُسخةً لغيره، لكن جرى القلمُ بذلك".
وانظر إلى ما وصَلَ إليه مِن تواضعٍ وتجرُّدٍ، يَحكيه عنه الإمام السخاوي: "وقد سمعتُه يقول: لستُ راضيًا عَنْ شيءٍ منْ تصانيفي، لأني عملتها في ابتداء الأمر، ثم لم يتهيَّأ لي مَنْ يحرِّرُها معي، سوى "شرح البخاري"، و"مقدمته"، و"المشتبه"، و"التهذيب"، و"لسان الميزان". بل كان يقول فيه: لو استقبلتُ مِنْ
_________
(^١) الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر، للسخاوي، المتوفى ٩٠٢ هـ، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، الأولى، ١٤١٩ هـ - ١٩٩٩ م، ٢/ ٦٥٩.
1 / 16
أمري ما استدبرتُ، لم أتقيّد بالذَّهبي، ولجعلته كتابًا مبتكرًا، بل رأيتُه في موضع أثنى على "شرح البخاري" و"التغليق" و"النُّخبة"، ثم قال: وأمَّا سائر المجموعات، فهي كثيرةُ العَدد، واهيةُ العُدَد، ضعيفةُ القُوى، ظامئة الرُّوى، ولكنها كما قال بعضُ الحفَّاظ مِنْ أهل المئة الخامسة (^١):
وفي هذا منتهى العَجَب مِن تواضعه وزهْده وورعه؛ فبسببِ ذلك كله تراه يُصرّح برضاه عن خمسةٍ مِن مؤلفاته المئة والخمسين!
وهنا أقول: قد رأيتُ نَقْل الإمام ابن حجر ذاك الثناء على الخطيب البغدادي ومؤلفاته، رحمهما الله، فقلتُ: وما أَوْلى الإمامَ ابن حجرٍ، عليه رحمة الله، بهذا الوصْف! وإنْ لم يَذْكر نفسَهُ؛ فهو قَلَّ فنٌّ مِن فنون علوم الحديث إلا أَلّفَ فيه مؤلَفًا، أو مؤلفاتٍ، في غايةِ الدقةِ والتحقيقِ، ولئن قيل بأنّ الإمام الخطيب، ﵀، مات عن نَيّفٍ وخمسين كتابًا، فإنّ ابن حجر قد مات عن أكثرَ مِن خمسين ومئةِ كتابٍ، عددٌ قليلٌ منها بمجلداته الكبيرة يُساوي -مِن حيث الكمّ- ما يُقارِب حجمَ مؤلفاتِ الخطيب كلها، أو يزيد عليها، باستثناء كتاب الخطيب "تاريخ بغداد".
وقد أَصبح الناس عِيالًا على كُتب ابن حجر؛ بحيث لا يُمْكن لأحدٍ أن يتخصص في هذا الفن ويَستغني عن مؤلفاته! وفي كلٍّ منهما خيرٌ وفضْل، أَحسَنَ الله إليهما.
_________
(^١) هو الحافظ أبو بكرٍ البرقاني، -٤٢٥ هـ، ﵀.
1 / 17
وقد نَقَل ابن حجر هذه المقولة في الإشادة بالخطيب البغدادي، ولعله حين نقَل ذلك كان هو أَوْلى بها، لكنه لم يَذْكر نفسَه بقليلٍ أو كثيرٍ مِن ذلك، بل أَخبَر تلميذَه أو تلاميذَه أنه ليس راضيًا كل الرضا إلا عن نحو خمسةٍ مِن مؤلفاته؛ فهذه عظَمَةٌ فريدة!
ومعَ هذا كله فلا تنافيَ ولا تَعارُض بين إمامةِ كلٍّ منهما بهذا التفرّد، كلٌّ منهما في زمانه، ولا مانع مِن تجَدُّد هذه الإمامة والعَظَمَة في تاريخ الإسلام كله في مختلف مراحله وأحواله مِن قبْلِ ابن حجر ومِن بَعْده؛ إذ الإسلام ولاّدٌ للعلماء العظماء الأفذاذ، والحمد لله رب العالمين.
إنّ مِن خصائصِ الإمام ابن حجر أنه اجتمع فيه -كما ترى- عظَمَةُ الزهد، وزُهْد العَظَمة!
قال السخاوي في (الجواهر والدرر ..): " … التَمَسَ منه صاحبُنا الشيخُ شهاب الدين البيجوري قراءةَ شيءٍ مِنْ كتبه عليه، فقال له -على سبيل التواضع- أيضًا: قُصارى أمري أنْ أتفرّغ للقيام بما يُقال: إنَّني أعرفُه، وهو الحديث".
إنك إذا تأملتَ وَجدتَ أنّ أولئك هم الناس، ونحن مجرّدُ أَشكالٍ فيها ألْفُ إِشكال!
نظرتُ إلى الإمام ابن حجر وإلى نفسي؛ فإذا أنا عند الإمام ابن حجر بمثابة حَجَر!
ألا ما أعظَمَ إحسان الإمام ابن حجرٍ إلينا بعلومه وسِيرته! اللهم قدّرْني وقدّرْ عبادك على شيء في مكافأة هذا الإمام، وهكذا الأمرُ بالنسبة لسائرِ أئمّة الإسلام العِظام.
إنّ مَن يَعشْ مع هذا الإمام وعلومه وتحقيقاته وفوائده، حياتَهُ كلها، يَسْعدْ
1 / 18
ويُسْعِدْ، ويَغرَقْ في بحْرِ لَطائفه، رحمه الله تعالى؛ وحينئذٍ سيُدرِك أنّ الله أكرمَهُ بالانشغال بهذا عن رديء الأشغال!
إنّ مَن يَعيشُ مع العلماء يتعلّم!
ومَن يَعيشُ مع العقلاء يَعْقِل!
ومَن يَعيشُ مع الأذكياء يَقتَبِس مِن ذكائهم!
بَعثْتُ برسالةٍ إلى فاضلٍ يَشكو -شفاه الله- فقلتُ: هذه لطيفةٌ لم أنتَهِ منها، أُعاجِلُك بها، أو أُعالِجُك بها!
وهي أبياتُ شِعْر قالها الإمام ابن حجر بشأن مَجالِسَ كان قد عَقَدها لإملاء الحديث الشريف، بلَغتْ أكثرَ مِن ألف مجلس! يا لَلعَظَمة!
وختْمًا لهذا الكلام والاحترام والتبجيل للإمام ابن حجر، أُشيرُ إلى أنّ هذا كله لا يَمْنع مِن واجب التمحيص والنقد في تَلقِّي العلم، بل الواجب فحْص مسائل العلم؛ تحاشيًا لتصحيفٍ، أو تحريفٍ، أو خطأٍ أو سهْوٍ، طالما أنه لا عِصمةَ إلا لرسول الله ﷺ.
ولأجلِ ذلك استدْرَكتُ ما استدركتُه مِن المسائل على إمامنا ابن حجر مما تراه في حواشي هذه الطبعة، بالرغم مِن اعترافي بجهلي، وأني لا أصلُح أن أكونَ تلميذًا عنده، لكنه واجبُ النُّصح وحُبِّ الخير لنفسي ولغيري ولهذا الإمام العظيم. وإنّي لأرجو الله سبحانه أن يَجعلَ ثواب هذا العمل أوّلَ ما يكون في ميزان حسناته، ﵀؛ فهو الذي أَلّفَ وهو الذي حقّق ودَقّق مِن قبلنا، وهو الذي أسَدى إلينا هذا العلم وهذا المعروف.
1 / 19
وفاته:
تُوُفِّي ابن حجر بعد عشاء ليلة السبت ثامن ذي الحجة سنة ٨٥٢ هـ، رحمه الله تعالى، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير ما يَجزي به عباده الصالحين مِن العلماء العاملين.
مكانته في هذا العلم:
الإمام الحافظ ابن حجر، رحمه الله تعالى، لم يكن في "نزهة النظر" مجرّد ناقل، وإنما كان ناقلًا ناقدًا؛ فَيَنْقُل ويَقْبل ويَرُدّ؛ وكان يَرُدّ بالحجة والبرهان، وكم مِن رأيٍ فنّده، وكم مِن قائلٍ بَدَا قوله تحقيقًا فَكَشف ابن حَجر عن أسباب ضعفه!
وكان الحافظ مثالًا للأدب والخُلُق الإسلامي في ردّه على العلماء ومناقشته لآرائهم، فكان يوجز في بيان خطأِ المخطئ، ويُعَبِّرُ عن ذلك بعبارةٍ لطيفة، وفي "النزهة" أمثلةٌ لهذا بإمكان القارئ ملاحظتها.
ولم يكن ابن حجر مقلِّدًا، وإنما كان إمامًا مجتهدًا، وكان في اجتهاده إمامًا محقِّقًا، فتميزتْ آراؤه بالدقة والابتكار في كثير مِن الأحيان.
ولعلّ "النزهة" مِن أوضح الأمثلة الدالة على صفات الإمام ابن حجر العلمية هذه؛ إذْ جاءت "النزهة": مختصرةً، شاملةً، مبتكرةً في طريقةِ عرْضها لعلوم الحديث وتقسيمات علوم الحديث عند المحدِّثين، كما أنها قد عُنِي فيها بالتحقيق والترجيح العلميّ الرصين في مختلَف مسائل هذا العلم.
وكان ابن حجر واسع الاطّلاع، صاحب باعٍ طويل في المشاركة في مختلف أنواع علوم الحديث، ومِن الأدلة على هذا: أنه قَلَّ أنْ يَذْكر في
1 / 20