نزهة الأبصار
نزهة الأبصار بطرائف الأخبار والأشعار
ناشر
دار العباد
پبلشر کا مقام
بيروت
اصناف
حيث ذكرت ترجمة الحسن ﵀ بدا لي أن أذكر ترجمة الشعبي رحمه الله تعالى. هو عامر بن عبد الله بن شراحيل بن عبيد بن شعب همدان من حمير، فمن كان منهم باليمن فهو حميري، يقال: شعباني، ومن كان في العراق فهو همداني ويقال له: شعبي. ولد ﵀ لست سنين من خلافة عمر بن الخطاب ﵁. سمع علي بن أبي طالب ﵁ والحسن والحسين وجماعة من صحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وهو كوفي وبه يضرب المثل في حفظ، ويقال: أحفظ من شعبي، قال الزهري ﵀: العلماء أربع: سعيد بن المسيب بالمدينة، وعامر الشعبي بالكوفة، والحسن البصري في البصرة، ومكحول بالشام.
قال أبن شبرمة: سمعت الشعبي يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء. إلى يومي هذا، ول حدثني رجل قط حديثًا إلا حفظته، ولا أحببت أن يعيده علي. قال الشعبي لأصحابه: ما أروي أقل من الشعر، ولو شئت لأنشدتكم شهرًا لا أعيد.
وكان ﵀ فقيهًا عالمًا أديبًا، وكتب عبد الملك إلى الحجاج: إن بعث لي رجل يصلح للدين والدنيا أتخذه سميرًا وجليسًا وبعث غليه بالشعبي، فلما دخل عليه وجده مغتمًا فقال له: ما بال أمير المؤمنين قال: ذكرت قول زهير:
كأني وقد جاوزت تسعين حجة ... خلعت بها عني عذار لجامي.
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فكيف بمن يرمي وليس برامي.
فلو أنني أرمي بنيل رميتها ... لكنني أرمي بغير سهام.
على الراحتين تارًا وعلى العصا ... أنوء ثلاثًا بعهدهن قيامي.
قال الشعبي أليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كما قال لبيد بن ربيعة ﵁: كأني قدجاوزت سبعين حجة=خلعت بها عن منكبي ردائيًا.
فلما بلغ سبعًا وسبعين قال:
باتت تبكي إلى موتي مجهشة ... وقد حملتك سبعًا بعد سبعينًا.
فإن تراخت ثلاثًا تبلغي أملي ... وفي الثلاث وفاء للثمانينا. ً
فلما بلغ التسعين قال:
ولقد سئمت من الحياة طولها ... وسؤال هذا الناس كيف لبيد.
وعنيت ستًا قبل مجرى داحس ... لو كان للنفس اللجوج جلود.
فلما بلغ عشرين ومئة قال:
أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم العصا تحني عليها الأصابع.
أخبر أخبار القرون التي مضت ... أقوم كأني كلما قمت راكعًا.
فلما بلغ الثلاثين ومئة حضرته الوفاة فقال:
تمنى أبنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا لا من ربيعة أو مضر.
وقولًا هو المرء بالذي أنا أهله ... ولا تخمشا خدًا ولا تحلقا شعر.
وقولًا هو المرء الذي لا يصدقه ... أضاع ولا دخان الخليل ولا غدر.
إلى الحول ثم أسم السلام عليكما ... ومن يبك حولًا كاملًا فقد أعتذر.
قال الشعبي: فلقد رأيت السرور في وجه عبد الملك طمعًا أن يعيشها، ووجهه عبد الملك إلى مالك الروم في بعض الأمور، فلما قدم عليه وروى وذكائه وجودة ذهنه أستكبره وجل في عينه فقال له: من بيت أهل الملك أنت، قال: لا فلما أراد الرجوع إلى عبد الملك أعطاه رقعة لطيفة وقال له: إذا بلغت صاحبك جميع ما يحتاج إلى معرفته من ناحيتنا فادفع إليه هذه الرقعة، فلما رجع إلى عبد الملك ذكر له ما أحتاج إلى ذكره ونهض، فلما خرج ذكر الرقعة فرجع فقال: يا أمير المؤمنين أنه حلمي إليك رقعة أنسيتها، ثم دفعها إليه، فلما قرأها أمر برده فقال: أعلنت ما في الرقعة؟ قال: لا. قال: إن فيها: عجبت من العرب كيف ملكوا غير هذا. أفتدري لما كتب إلي بهذه قال: حسدني إليك فأراد أن يغريني بقتلك. قال الشعبي: لو رآك يا أمير المؤمنين ما استكبرني، فبلغ ذلك أمير الروم فقال: لله أبوك ولله ما أردت إلا ذلك.
وكان الشعبي قد خرج مع عبد الرحمن الأشعث، فلما قتل أبن الأشعث أتي به الحجاج أسيرًا فقال له: وأنت يا شعبي ممن خرج علينا، فقال: أصلح الله الأمير، أحزن بنا المنزل، وأجدب بنا الجناب، واستحلسنا الخوف، وضاق المسلك، وخبتطنا فتنة لم نكن فيها بررة أولياء، ولا فجرة أقوياء، فقال الحجاج: لله أبوك صدقت، والله ما برمتم بخروجكم علينا ولا قويتم، خلو سبيله.
ودخل الشعبي الحمام فرأى داود الأودي بلا أزار فغمض عينيه فقال له داود: متى ذهب بصرك يا أبا عمرو؟ فقال مذهتك الله سترك. ومات رحمه سنة ١٠٤ أربع ومئة وهو أبن اثنين وثمانين سنة رحمه الله تعالى.
1 / 237