الدين عبارة عن قوة خارقة لنواميس الطبيعة يحترمها الإنسان ويعبدها.
وأبسط أشكال الديانات الحاضرة عند المتوحشين لا تحتوي على أكثر من بعض طقوس يقصد بها احترام أشخاص الموتى. فهم لا يميزون بين روح الميت وبين الله الخالق بل يعبرون عن الاثنين بكلمة واحدة. فبعض قبائل الكومبامه في أفريقيا يعبدون روح الميت في موضع بالمحل الذي كان يقيم فيه صاحب الروح قبل موته وإذا كان الميت عظيما اعتقدوا أن روحه سكنت جبلا أو سحابة حتى إذا مرت بهم عبدوه واستمطروه. وهم يسترضون الروح بقربان يقدمونه على قبره. ومن هنا تعرف أصل القربان وأصل الصلاة. فالقربان يقدم اعتقادا بأن الروح تجوع وتطلب طعاما والصلاة تقدم استجلابا للأمطار أو استنصارا بالآلهة على الأعداء. وقد قيل إن الأديان نبتت من الأساطير - أي مجموعة الخرافات التي تتجمع عادة حول كل دين. ولكن هذا خطأ؛ لأن الأساطير مجرد قصص مبالغ فيها وحكايات حكيت عن الأشخاص الذين ماتوا وعبدت أرواحهم وهي ليست أصيلة ولازمة في الدين؛ لأن الفرد من هذه القبيلة التي ذكرناها قد يعبد أباه ولا ينسب إليه أعمالا خارقة للعادة يتعلل بها في عبادته لروحه، بل يعبده لمجرد موته ليس إلا. وقد يشتهر شخص في حياته بفروسيته وشجاعته فإذا مات لم تقتصر عبادته على عائلته بل تمتد إلى كل أفراد القبيلة ويعتبرون روحه بذلك رئيسة للأرواح الأخرى.
هذا هو أصل الأديان كلها: يعبد الإنسان أباه أو جده المائت ويسترضيه بالأدعية (الصلاة) والطعام (القربان) فإذا اشتهر ميت عبدته القبيلة كلها وصار إلها عموميا. وما الأساطير التي تتجمع حول اسمه وتحكى عنه إلا أعمال كبيرة قام بها في حياته وكبرتها المخيلة في الإنسان فبالغ في حكايتها. والإنسان ميال بطبيعته للمبالغة حبا في إتيان الغريب الخارق للعادة لما في ذلك من تمييز الحاكي على أقرانه وإذا تدوولت هذه الأساطير وكثرت حفظها الحفاظ واحترفوها وصاروا بذلك كهنة الدين وأئمته وصارت الأساطير كتب الدين المقدسة. (3) حياة الموتى
كثيرون من المتوحشين لا ينظرون إلى الموت كأنه حالة طبيعية لا بد من حصولها للإنسان. والسبب في ذلك أن الموت الطبيعي لا يكاد يوجد عندهم؛ فإنهم أكثر ما يموتون قتلا أو جوعا أو عطشا أو تقطيعا أو غير ذلك. لهذا السبب تجدهم ينسبون الموت الذي لا يمكنهم تعليله بما ذكرناه للقوى السحرية المجهولة، وكثيرون منهم أيضا لا يميزون بين الموت الصحيح والإغماء الوقتي. فإذا ما غاب أحدهم عن الحس وانقطع نفسه استرضوا روحه بالرقى وبالأدعية ورغبوها في الرجوع وقد يعود الشخص المغمى عليه إلى الحياة فيلحظون من ذلك أن الروح والجسم شيئان منفصلان. ولما كان التنفس ينقطع في حالتي الإغماء والموت صار «التنفس» بمعنى الروح عندهم كما كان عند أكثر الأمم كالعرب واليونان.
فإذا مات أحدهم اعتقدوا أن روحه سترجع إليه حتما واجتهدوا في حفظ جسمه بالتحنيط وتقديم الطعام إليه، ومما ساعدهم على الاعتقاد بحياة الموتى كثرة الأحلام التي يرون فيها أشخاص المائتين. فإن أسهل وأقرب تفسير لهذه المظاهر الطبيعية هو طبعا الاعتقاد بوجود روح حية تجول بين أصدقاء الشخص المتوفى الذي كانت تسكن جسمه في حياته وقد انفصلت عنه في مماته.
هذا هو أصل الاعتقاد بوجود الأرواح. فإن الإنسان الأول ظن أنه كما ينقطع نفس الإنسان وقت الإغماء ثم يعود إليه عند الإفاقة كذلك تعود الروح إلى الجسم بعد الموت. وهذا هو البعث. وما كان تقديم الطعام للميت وتقديم ألبسته وأسلحته إليه إلا لتهيئته لاستقبال الروح ولم تنشأ عادة حرق الموتى إلا بعد أن ارتقى الإنسان من فكرة البعث إلى فكرة خلود الروح مستقلة عن الجسد منفصلة عنه انفصالا تاما لا يؤثر فيها مطلقا حرق الجسم.
وقد نشأت عادة الحرق هذه من الخوف من الموتى ورجوع أرواحهم إلى الأحياء لمعاكستهم والإضرار بهم. وقد يرى القارئ تناقضا بين عادة حرق الموتى خوفا منهم وتقديم الطعام إليهم حبا فيهم. وسنبين في فصل تال السبب في هذا التناقض غير أنا نثبت الآن حقيقة الخوف من أشخاص الموتى وأرواحهم بدليل القيود التي يقيد بها الشخص عند موته أو بتر أعضائه أو دفنه تحت ركامات الأحجار حتى لا يقوى على التحرك. وهي عادات فاشية الآن بين المتوحشين، والحرق وسيلة راقية من وسائل تعجيز الميت عن معاكسة الأحياء. وقد أدت عادة حرق الموتى إلى اعتقاد انفصال الروح عن الجسم انفصالا تاما، وتكون في مخيلة الإنسان ما يسمى «بالعالم» الثاني الروحي الخيالي. وأصبح الناس بتوالي الزمن وتقدم الفكر يعتقدون أن الحرق يسهل للروح الخروج من الجسد والانفكاك منه كأنها كانت مقيدة به في حياته. وقد أدت عادة الحرق هذه أيضا إلى توهم الروح جسما أثيريا خياليا حتى إنهم كانوا يحرقون مملوكات المتوفى اعتقادا بأن الروح لا تحتاج في عالمها الثاني الخيالي إلى مادة ما. (4) أصل الآلهة
قد رأينا أن متوحشي أفريقيا يعبدون موتاهم وأن القبيلة كلها تعبد أب رئيس القبيلة كأنه رئيس الموتى كما أن ابنه العائش رئيس الأحياء. وما زال الصينيون يعبدون أسلافهم إلى الآن ولا يعترفون بوجود خالق ما غيرهم. وقد كان الإنسان في البدء يعبد الجسم الميت ذاته لعدم استطاعته معرفة ما إذا كان ميتا أو حيا مغمى عليه. ثم ارتقى من ذلك إلى أن الموت إغماء طويل فعبد الروح. وقد ساعد على جعل الروح إلها ثلاثة أشياء:
أولا:
المعابد، وهي في الأصل القبر حيث كان يقدم الطعام.
نامعلوم صفحہ