فأجاب شمس المعالي وكيله عن هذا الجواب: قد أهديت إلي أعزك الله محاسن الدنيا مجموعة في ورقة، ومباهج الحلل والحلي محصورة في طبقة، وهو ما خطه ذلك الفاضل بيده، وباشره بقلمه [و] ما كنت أحسب أن جماع البديع يأخذ منه، ولا نور الربيع يفتر عنه، حتى عاينته فسميته لرقته برد الشراب، ولإعجابي به من دقته برد الشباب، ولفتوني بطلعته محير الألباب، ولوقوفي عند جزالته معيار الكتاب، فرصانة الطبع والعذوبة من جنى روضته، ومتانة المعنى والبراعة في ضمان قبضته، وأظنه لو جعل دعاء يدعى به النيران لأقبلا إلى الأرض منخفضين، أو حول حداء يحدى به الجبلان لمشيا مسرعين، أو صير جلاء يجلى به الناظران لأبصرا ما بين الخافقين، فمن لاطم أمواج بحره مساجلًا أصبح صريع صدماتها، ومن زاحم أفواج فكره مكاثرًا أمسى أسير حملاتها، فلله جامع أفراد هذه الفضائل، وناظم آحاد هذه العقائل، فقد حاز من العلم الذرى والغوارب، وخلف لغيره الشوى والمخالب، وكذا النجيب إذا جرى لم يشق غباره، والشهاب إذا سرى لم تلحق آثاره، وأنا أرى قضاء حقه بالاعتراف بفضله، دون الإغراق في وصف فعله، فلذلك وقفت حيث بلغت، وأمسكت حيث انتهيت.
وكتب الصاحب إلى أبي القاسم علي بن القاسم من قاشان: إذا أقبلت عقد البعد تتحلل، وبدت وجوه القرب تتهلل، وطويت من مسافة البين أرض، وقطع من جادة الفراق بعض، ترجح كوكب الوحشة للأفول وتزحزح موكب الأنس للقفول.
وهذه حالي، فإني لما وردت موضع كذا [وكذا] خلفت ورائيب أرضًا كانت تبعد عن مولاي رحلي، ووطئت أخرى طالما قربت منه ربعي، طارت دواعي المسرة من نفسي، وانتشرت بواعث الغبطة في صدري، وولى الهم مفلولًا عني وأقبل الارتياح مستأمنًا نحوي، ونادى الالتقاء بأن هذا صدر أمل إليَّ ينتهي وينتظم، وبي يستكمل ويختتم، فقلت: لبيك إلفًا، وكأن قد ...
وله يمازح بعض إخوانه: خبر سيدي عندي وإن كتمه عني، واستأثر به دوني، فقد عرفت أمره في أمسه من شربه وأنسه، وغناء الضيف الطارق وعرسه، وكان ما كان مما لست أذكره وجرى [ما جرى مما] لست أنشره، وأقول أن مولاي امتطى الأشهب، فكيف عاين ظهره؟ وركب الطائر، فكيف شاهد جريه؟ هل سلم من حزونة الطريق؟ وكيف تصرف: أفي سعة أم [في] ضيق؟ وهل أفرد الحج أم تمتع بالعمرة؟ وهل قال في الحملة بالكرة؟ ليتفضل مولاي بتعريفي الخبر، فما ينفعه الإنكار، ولا يغني عنه إلا الإقرار، وأرجو أن يساعدنا الشيخ أبو مرة، كما ساعده مرة، فنصلي إلى القبلة التي صلى إليها، ونتمكن من الدرجة التي خطب عليها، وله فضل السبق إلى ذلك الميدان، الكثير الفرسان.
وله أيضًا: تصفحت أوطار النفوس، فلم أعتز بأكرم من قربه، وتأملت أشخاص الخطوب، فلم أرع بأقطع من بعده، محاسنه أنوار لم تحتجب بسجوف ومناقبه شموس لم تتصل بكسوف، وألفاظه تذكرني بلباس الشباب وريعانه، بل بأفنان الصبا وفينانه، أيام من عود النوى خور، وليالي من باع الدجى قصر، ولولا أن عادتي أن أطأطئ [ناظري] للصديق تسليمًا، وأصبر له على الملام [وإن كان] مليمًا لقلت في ظلمه، وقد تظلم، قولًا على غرة الدهر، ويشدخ في جبهة الشمس والبدر إذ لم يرضى بحقي أن يلويه، حتى عطف على عهدي يستبطئه، ولكن أقول: يا نفس صبرًا، فما كل طالب حق يعطاه، ولا كل شائم برق يسقاه، وأعود فأسأل الله أن يعيد:
عيشًا لنا بالأبرقين تأبدت ... أيامه وتجددت ذكراه
والعيش ما فارقته فذكرته ... لهفًا وليس العيش ما تنساه
وهذا كقول الحسن بن سهل: حد الطرب ما بقي سروره يتخيل في النفس، ويتردد في الفكر.
ومن شعر الصاحب:
لقد صدقوا والراقصات إلى منى ... بأن مودات العدا ليس تنفع
ولو أنني داريت دهري حية ... إذا استمكنت يومًا من اللسع تلسع
وقال [أيضًا]:
وقائلة: لم عرتك الهموم ... وأمرك ممتثل في الأمم
فقلت: ذريني لما أشتكي ... فإن الهموم بقدر الهمم
وقال [أيضًا]:
دعتني عيناك نحو الصبا ... دعاء يكرر في كل ساعة
فلولا وحقك عذر المشيب ... لقلت لعينيك سمعًا وطاعة
هذا من قول إبراهيم بن المهدي، وتمثل به إسماعيل بن إسحاق القاضي، [وقد كان] رأى غلامًا جميلًا:
لولا الحياء وأنني مشهور ... والعيب يعلق بالكبير كبير
1 / 32